مضى عام كامل وأنا أعيش على فرضية أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد. عام كامل أنا "أتابع" الإبادة في غزة التي تشعرني بأنني أقرب إلى مسخ. عام كامل وكلامي مسجون في فكرة واحدة: ماذا لو شنّت إسرائيل الحرب علينا ودون سابق إنذار؟
سلوى
تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بعقلين.
أكثر من ألف غارة وحزام ناري سقطت على جنوب لبنان في غضون خمس ساعات فقط، استطاع خلالها الاحتلال أن يفرغ منطقةً بأكملها من سكانها في فترة قياسية لا تتجاوز نصف ساعة.
صباح يوم الإثنين 23 أيلول/ سبتمبر 2024 -الذي لم ينتهِ ولن- استيقظت على صوت أمي وهي تصرخ خلال اتصالها بخالتي: "عم يضربوا بيوت برومين"، قريتي التي لم تُقصف ولا مرة في الحروب السابقة.
إسرائيل لا تقصفنا وتهجّرنا فحسب، بل تقتلعنا من أنفسنا، تمزّقنا وتتركنا عراةً، بلا معنى. تفاجئنا بضرباتها الاستباقية، القادرة على تفريغنا من كل ما يمنح حياتنا قيمة.
كل هذا التمزّق الخارجي تزامن مع تمزّقي الداخلي. في تلك الفترة، أي قبل عام تقريباً من اندلاع الحرب، عايشت جميع أنواع التخبطات: الوحدة، الخذلان العاطفي، فقدان الشغف، العجز، العدمية التي التصقت بي، والخوف من حدوث الأسوأ.
قبل بدء الحرب، كنت أواسي نفسي بفكرة أنّ سلوى ستعود. سافرت سلوى، وبقيت طاقتها في المكان، إلى أن حلّت طاقتي الباردة مكانها. قالت: "تعودت أترك أماكن بحبها... رواق"
لكن حين بدأت الحرب، أيقنت أنّ الخوف لم يعد هاجساً يمكن تجاهله، بل أصبح واقعاً ملموساً، وحقيقةً مطلقة.
قبل بدء الحرب، كنت أواسي نفسي بفكرة أنّ سلوى ستعود. كانت تحبّ منزلها أو ما كنت أسمّيه "بيت عين الرمانة"، وتعطيه حياةً برغم كل ما فيه، وتهتمّ بتفاصيله. كانت تسقي نباتاتها، وتجلس قبالتي، فأشعر أنّ كل شيء سيكون على ما يرام.
الجلوس مع سلوى في منزلها، قبل أن تذهب إلى سوريا، كان تأمّلاً من نوع خاص، كأنني أبحر في داخلي معها، في هدنة مفاجئة مع نفسي. كأنها لحظة اكتفاء مطلقة.
سافرت سلوى، وبقيت طاقتها في المكان، لكنها تلاشت تدريجياً، لتغمره طاقتي الباردة، المتعبة. لم أملك القدرة على الاهتمام بنباتاتها، ولا الحفاظ على بيتها كما كانت تحبّ. شعرت أنني خذلتها، وأنني سلبت منها الأمان البسيط الذي كانت تبحث عنه، والملاذ الأخير الذي كانت تتنفس فيه بحرّية. لم تعد سلوى. قالت لي مرةً، بصوت هادئ كعادتها:
"تعودت أترك أماكن بحبها، فرواق".
كأنها تحاول طمأنة نفسها، أو طمأنتي. سلوى تشبهني في خوفها من الفقدان، وفي تعلّقها بأشياء لا يمكن الإمساك بها. سلوى بالنسبة لي بصيص أمل في مدينة فاقدة الحياة تماماً.
كحول وسجائر
آب/ أغسطس 2024، بيروت.
لم أكن أعلم أنّ تلك الليلة الخريفية التي سبقت إعلان الحرب بساعات قليلة، ستكون الليلة الأخيرة التي أشعر فيها بشيء من الأمان. أويت إلى سريري بأفكار متحمسة: كم عدد الإنجازات التي سأحققها خلال الأشهر الثلاثة المتبقية من السنة؟ كيف سأستقبل عامي الثلاثين بفكر جديد، ونسخة محسّنة مني؟ لقد كانت ليلتي الأخيرة في غرفتي في منزلنا في رومين.
لم أكن أعلم أنّ الليلة الخريفية التي سبقت إعلان الحرب، ستكون الأخيرة في منزلنا في برومين. حين أويت إلى سريري وأنا أفكر كيف سأستقبل عامي الثلاثين!
اليوم، وبعد عشرة أشهر وعلى عكس المتوقع، بتُّ أشرب الكحول يومياً وبكميات كبيرة، أفرغ علبتَي سجائر في رئتَي، أستهلك مقاطع الفيديو القصيرة بنهم، وأعجز عن النوم قبل الثانية صباحاً.
أوبّخ نفسي يومياً بسبب المهام المؤجلة، وأنهض متأخرةً وغارقةً في فوضى ذهنية، وحنين لا يُطاق إلى جنوب لبنان.
لا أملك ربع الطاقة التي كنت أملكها قبل عشرة أشهر. أنظر في المرآة ولا أستطيع التعرّف إلى نفسي: أأنا ما كنت عليه؟ أو أنني ما أصبحت عليه؟ أو أنني الاثنان معاً؟
أستيقظ وحدي، وفي رأسي تطرق أسئلة فظيعة: أين صوت أمي وأبي في المطبخ؟ أين قهوتهم الصباحية والنقاشات الصغيرة حول النرجيلة؟ أعود إلى المنزل من العمل المرهق، مثقلةً بالخذلان، ومحاصرةً بالارتباك بين محاولات فاشلة للعثور على عمل جيد يرمّم حياتي.
أحاول أحياناً حتى أن أقنع نفسي بأنني قوية لأنني رفضت الاستسلام لشعور الخوف والقلق، ولأنني تركت الجنوب في الوقت المناسب. لكن كل ذلك لا يصنع استقراراً. فدماغي لا يهدأ؛ أفكر كثيراً، أكثر من اللازم.
استيقظت صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مفعمةً بالطاقة. كنت أمارس رياضتي حين اتصل بي صديقي وقال: "الفلسطينية فاتوا من البرّ والجو". شعرت بأنّ شيئاً يتداعى داخلي. بدا فرحاً، وكأنّ ما جرى نصر مرتقب. قلت: "الله يستر أهل غزة".
ارتجفت وعرفت أننا أمام حرب لا تشبه سابقاتها… تمنيت لو أنني أخطأت التقدير. لكنني كنت أعرف، من تاريخنا الطويل مع إسرائيل، أنّ الرعب الحقيقي لم يبدأ بعد. انهرت كما انهارت خططي التي رسمتها خلال الليلة السابقة.
تسمّرت أمام التلفاز. استرجعت تفاصيل حرب تموز التي كنت أعتقد أنني نسيتها. أيقنت عندها فعلاً أن إسرائيل ليست حدثاً في الذاكرة كما كنا نتوهّم، بل هي كائن حيّ داخلنا ينهشنا باستمرار، ويوقظ تروما تلو الأخرى.
وتحولت إلى نسخة من أبي، الذي لا يشاهد قناة "الجزيرة" إلا في الحروب. وتساءلت: هل سيعلنون الحرب علينا؟
بعد عام وثمانية أشهر على بدء الإبادة، أسكن في بعقلين، البلدة التي نشأ فيها والدي. عودة أبي إلى هذا المكان حملتني معها إلى عالم جديد، وغريب، لا يشبه شيئاً مما كنت أعرفه. الجنوب لم يعد يعنيني. كأنني لم أعِش فيه 29 عاماً، كأنّ حياتي هناك طُمست من ذاكرتي
قرأت تحليلات سياسيةً، وتقريراً بعد الآخر، وكلها بلا جدوى. لا أحد يستطيع التنبؤ بسقف الإجرام الإسرائيلي. هذه المرة تخطّت إسرائيل قدرة العقل البشري على الاستيعاب.
كنت أتساءل دائماً طوال فترة سكني في بيروت: هل سأعود إلى بيتنا الآمن برغم فوضى أمي في ترتيب الأثاث؟ كم أشتاق إلى تلك المناوشات الليلية بين أمي وأبي؟ إلى صمت أبي حين يغلبه النعاس؟ إلى عبارات أمي الساخرة التي كانت تحمل حكمة عمر بأكمله؟ هل سأشفى من كل هذا الإحباط أو سأنهار تماماً؟
في حضرة اللاشيء والعدم
حزيران/ يونيو 2025، بعقلين.
بعد عام وثمانية أشهر على بدء الإبادة، أسكن في بعقلين، البلدة التي نشأ فيها والدي. عودة أبي إلى هذا المكان حملتني معها إلى عالم جديد، وغريب، لا يشبه شيئاً مما كنت أعرفه.
الجنوب لم يعد يعنيني. كأنني لم أعِش فيه 29 عاماً، كأنّ حياتي هناك طُمست من ذاكرتي.
واليوم، حين أنظر إلى نفسي، أشعر أنّ الخوف قد تلاشى. أبحث عن علاقات عابرة وكأنني مركب فارغ لا أحد يعبرني ولا أريد أن أعبر أحداً.
أجلس أحياناً مع أصدقائي القدامى، علّ ملامحهم توقظ شيئاً من الماضي داخلي، لكنني أجدني غريبةً بينهم. أما من تعرّفت إليهم خلال الحرب، فأشعر بأنهم جزء مني، وكأننا وُلدنا من الحطام نفسه.
أجد نفسي اليوم أقرب إلى عالم لا يشبه السرديات التي وعيت عليها، لا يشبه جنوب لبنان ومتلازمة شعور الضحية، وكأنني تقمّصت شخصيةً أخرى وحياةً مغايرة. هي اللامبالاة. أنظر إلى نفسي وكأنني نكرة، فارغة، باهتة، ولا أمتلك شيئاً يقينياً وسط هذا التآكل البطيء.
فهل نحن ما نشعر به أو ما نخفيه؟ هل نحن ما نرغب فيه أو ما نتجاوزه؟ وهل الهروب من الذات هو شكل من أشكال مواجهتها؟ أهذا هو الوعي أو هذا هو العجز في أوضح صوره؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.