إذا اعتادت آذان العرب سماع لفظة "الموساد" عند كل اختراق لحدود دول الإقليم بعملية اغتيال أو أخرى، فالواقع يؤكد أنّ مؤسسة الاستخبارات والعمليات الخاصة الإسرائيلية ليست وحدها المسؤولة عن إدارة "عالم الظل" في تل أبيب، وإنما تسبقها في تقادم الخبرة والتاريخ الوحدة "نيلي"، التابعة لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك).
تردّد الاسم الكودي للوحدة "نيلي" مع إعلان إسرائيل مسؤوليتها عن محاولة اغتيال قادة حماس في العاصمة القطرية الدوحة في 9 أيلول/ سبتمبر الجاري، وازداد التصاق الوحدة بالعملية مع تحفظ رئيس الموساد دافيد بارنيع على "توقيت الاستهداف"، وغسله يديه لاحقاً من التورط في فشلها.
إلا أنّ أكثر ما ربط "نيلي" بعملية الدوحة، هو انفراد الوحدة باختيار اسم العملية: "قمة النار"، وحصرية جمع المعلومات حول تحركات قادة حماس في العاصمة القطرية، والتنسيق المباشر مع سلاح الجو الإسرائيلي في التنفيذ، وتحييد المؤسسات الأمنية الأخرى عند تحديد ساعة الانطلاق.
ويفضي زخم تعويل القيادة الإسرائيلية على الوحدة "نيلي" بهذا الشكل، إلى طرح علامات استفهام كبيرة حول مدى تعاظم قدراتها، والركون إليها عند التورط في ظروف أمنية بالغة التعقيد، وأدوارها غير النمطية في العديد من العمليات الأمنية، فضلاً عن غيابها تماماً عن الأضواء الإعلامية قياساً بمؤسستَي الموساد، وهيئة الاستخبارات العسكرية (أمان).
ساهم فقه مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي في ترسيخ غموض فوق غموض "نيلي" التي يطرح تعويل القيادة الإسرائيلية عليها الكثير من علامات الاستفهام. فماذا نعرف عنها؟ وما علاقتها بعملية الدوحة؟
غموض فوق غموض
ربما ساهم فقه مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي في ترسيخ غموض فوق غموض "نيلي"، حين صاغ شهادة ميلاد تغاير حقيقة تاريخ الوحدة، الذي يعود إلى بدايات القرن العشرين، أو بالأحرى إلى ما قبل إعلان تأسيس إسرائيل بعقود، إلا أنه قبل العودة إلى بدايات الوحدة، تربط المعطيات الإسرائيلية تلك البداية بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
حينها، تدفقت المعلومات حول تدشين "نيلي" لاصطياد رؤوس حماس، التي دبَّرت ونفذت عملية "طوفان الأقصى" في مستوطنات غلاف قطاع غزة، ولا سيما القياديَين علي القاضي، قائد قوة النخبة في كتائب "عز الدين القسام"، وبلال القدرة قائد الكتائب ذاتها جنوبي خان يونس.
بعيداً عن عملية الدوحة، سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بنشر تفاصيل محدودة عن "نيلي"، جاء فيها أنّ "جهاز الأمن العام (الشاباك) دشَّن 'جسماً جديداً'، أطلق عليه اسم 'نيلي'، وهو اختصار لعبارة بالعبرية تعني 'لا كذب في أبدية إسرائيل'. وبموجب المسموح بنشره إسرائيلياً، يتكون هيكل الوحدة من كوادر استخباراتية خاصة جداً، تنحصر مهامها في 'تصفية الحسابات، واغتيال جميع عناصر حماس التي شاركت في الهجوم على إسرائيل، وعادت أدراجها إلى قطاع غزة'".
بالفعل، وخلال الأسبوع الأول من حرب "السيوف الحديدية" على قطاع غزة، تمكنت كوادر "نيلي" من تصفية العديد من عناصر حماس، بما في ذلك القياديَين علي القاضي، وبلال القدرة الذي عدّته تحريات الوحدة الاستخباراتية مسؤولاً عن مداهمة كيبوتس "نيريم" و"نير عوز" في مستوطنات قطاع غزة. وكما هو الحال في عملية الدوحة، نسَّقت "نيلي" مع سلاح الجو الإسرائيلي في تنفيذ عمليات الاغتيال كافة.
تفعيل "هانيبعل" لتصفية الإسرائيليين والفلسطينيين
لكن "نيلي" لم تنسّق مع أي جهة أمنية حين اتخذت قراراً بتفعيل المرسوم "هانيبعل"، الذي قامت من خلاله بتصفية جماعية شملت عناصر حماس ورهائن الجنود والمدنيين الإسرائيليين في معسكر "رعيم" في قاعدة "ناحل عوز" العسكرية، بالإضافة إلى شمولية اغتيال حمساويين ومدنيين إسرائيليين قرب منطقة السياج الأمني، حسب تحقيق استقصائي نشرته صحيفة "هآرتس" بتاريخ 7 تموز/ يوليو 2024. وقال تقرير الصحيفة العبرية حينها، إنّ "أياً من الآليات الحمساوية التي داهمت مستوطنات الغلاف لم تغادر إلى القطاع، وهو ما يؤكد صدور قرار من جهة أمنية عليا بتفعيل المرسوم "هانيبعل".
وخالف قرار "نيلي" في هذا الخصوص، توجيهات قيادة الأركان الإسرائيلية التي ألغى رئيسها الجنرال غادي أيزنكوت، عام 2016، تفعيل المرسوم "هانيبعل"، الذي نصّ على سرعة التعامل عسكرياً فور اختطاف أي جندي إسرائيلي من قبل جهة معادية، ورفع الحظر عن قتل الخاطفين والمخطوفين معاً، للحيلولة دون إدلاء الجندي الإسرائيلي الأسير بمعلومات تضرّ بالأمن القومي الإسرائيلي، وهي الحالة التي رأت وحدة "نيلي" تطابقها مع رهائن جنود الجيش الإسرائيلي داخل قواعد ومستوطنات غلاف قطاع غزة، بعد يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
اعترف الجيش البريطاني بإسهامات "نيلي"، ودورها في إمداد استخباراته بثمين المعلومات، ما دعا قيادة الانتداب البريطاني في مصر إلى منح أعضاء الوحدة أوسمةً متنوعةً
تقادم تاريخ الوحدة وخبراتها خلافاً للمعلن
خلافاً للمعلن، تؤشر سجلات "نيلي" إلى تقادم تاريخها وخبراتها بعقود قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهو ما أكد ارتباط الحاضر بالماضي عند رصد تجول نشاط الاستخبارات الإسرائيلية في المنطقة. تعود بدايات تدشين "نيلي" إلى نهاية آذار/ مارس 1915، حين قررت خلية من شباب المعسكر الاستيطاني -إبان الحرب العالمية الأولى- عرض خدماتها الاستخباراتية على البريطانيين، ومساعدة سلطة الانتداب على خلخلة هيمنة الدولة العثمانية، وبموجب هذه المساعدة، يصبح للخلية حق مطالبة البريطانيين لاحقاً بقضم جزء من أراضي الدولة العثمانية، لتأسيس نواة "دولة" تجمع شتات اليهود من مختلف دول العالم على أرض فلسطين.
منذ ذلك الحين، أطلقت الخليّة على نفسها اسم "نيلي"، وانطلق مؤسسها ليفي يتسحاق شنيرسون، إلى مقر قيادة الانتداب البريطاني في القاهرة لعرض خطة التخابر على الأتراك، لكنه قال في مذكراته الخاصة: "لم تكن هناك خطة بالمعنى المفهوم. فقط قررت نقل رسالة للبريطانيين مفادها: اسمعوا أيها السادة، نحن مجموعة من الشباب اليهود، نعرف كل الخفايا، وقررنا مساعدتكم!".
بعد آذار/ مارس 1915، مرت خمسة أشهر تقريباً قبل صعود شنيرسون على متن سفينة لاجئين أمريكية متجهة إلى مصر. وهناك حاول لفت انتباه مكتب الاستخبارات البريطانية عبر كتابة مقالات عدة (دون توقيع) في نسخة صحيفة "إيجبشن غازيت" الإنكليزية. دار مضمون المقالات حول وضع الدولة العثمانية العسكري والاقتصادي، ووصف شنيرسون ضعف الجيش التركي وانخفاض معنويات جنوده، وأشار إلى إمكانية تنفيذ عملية إبرار بريطانية على شاطئ حيفا.
موافقة بريطانية على تخابر "نيلي" ضد الأتراك
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته، عاد شنيرسون وشقيقته رفقة (كانت في معيته خلال زيارة مصر)، إلى أفراد "نيلي"، حاملَين الخبر اليقين: "وافق البريطانيون على مقترح التخابر على الأتراك، وتعهدوا بالاتصال الدوري مع قيادة الخلية عند ساحل عتليت (منطقة ساحلية في حيفا) من الآن فصاعداً".
في أوائل كانون الأول/ ديسمبر، وصلت السفينة البريطانية "سانت آن" إلى ساحل عتليت، وكان الغرض إجراء أول تواصل مع أعضاء "نيلي"، إلا أنه لسبب ما (يبدو أنه خطأ من بحارة السفينة)، فشلت محاولة التواصل مع أعضاء شبكة التجسس، لكن السبب الأهم كان ارتياب الأتراك في السفينة ومن يعتلي متنها.
وبحسب وثائق "المكتبة الوطنية" الإسرائيلية، توالت محاولات البريطانيين الفاشلة مع أعضاء "نيلي"، ولم تنجح إلا في 16 آذار/ مارس 1916. قبلها كان أعضاء خلية التجسس قد أعدوا كمّاً هائلاً من التقارير المعلوماتية حول تحركات الجيش العثماني، ومدى استعداداته لهجوم محتمل من البريطانيين، وخططه المستقبلية حيال تموضع طلائع معسكرات الاستيطان اليهودي على أرض فلسطين.
منذ هذا التاريخ، وحتى اكتشاف شبكة التجسس في أيلول/ سبتمبر 1917، بعد اعتقال الأتراك أحد أعضائها وتعذيبه، عمل شنيرسون ضابط اتصال بين أعضاء "نيلي" في عتليت من جهة والبريطانيين من جهة أخرى، وأدى معظم خدمته السرّية على متن سفينة استخبارات بريطانية، أو في قواعد بريطانية مختلفة في مصر، إذ عكف على فك الشيفرات وترجمة التقارير التي يتلقاها من رفاقه في المعسكر الاستيطاني.
بينما تبارى أعضاء وحدة "نيلي" في ما بينهم بنجاحات التخابر على الأتراك، ورضا البريطانيين على أداءات العمل الاستخباراتي، أظهرت وثيقة في أرشيف شنيرسون، مدى المعاملة السيئة التي تلقّاها أعضاء الوحدة
معاملة سيئة من عوام المعسكر الاستيطاني
وفي أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 1917، حاصر الجيش العثماني العديد من أعضاء "نيلي" واعتقلهم، وكانت من بينهم سارة آرونسون، التي تعرضت لتعذيب شديد تخلصت منه بإطلاق النار على نفسها. وخلال التحقيقات التي أجراها الأتراك مع أعضاء خلية التجسس في مدينة الناصرة، تم العثور على جثة رؤوفين شوارتز، وهو عضو آخر في "نيلي". أما عضو الخلية يوسف ليشانسكي، فتمكَّن من الهرب لمدة عشرين يوماً تقريباً من الأتراك، لكنه اعتُقل وتم إعدامه في نهاية المطاف بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 1917 في مدينة دمشق.
وبينما تبارى أعضاء وحدة "نيلي" في ما بينهم بنجاحات التخابر على الأتراك، ورضا البريطانيين على أداءات العمل الاستخباراتي، أظهرت الوثيقة التي تم العثور عليها في أرشيف شنيرسون، مدى المعاملة السيئة التي تلقاها أعضاء الوحدة من عوام المعسكر الاستيطاني، ولا سيّما بعد الكشف عن أسرار التخابر على الأتراك.
ووفقاً للوثيقة التي نشرتها "المكتبة الوطنية" الإسرائيلية، لاقى من تبقّى من أعضاء "نيلي" نظرةً سلبيةً من غالبية أفراد المجتمع الإسرائيلي، وعدّوهم مجموعةً من شباب متهور ألحقوا ضرراً بالغاً بالمجتمع، وعرّضوه بأكلمه للخطر. وفي 1919، تلقّى حاييم وايزمان (ثاني أشهر شخصية صهيونية بعد تيودور هرتزل)، رسالةً بهذا المضمون، تضمنت إلى جانب السخط من نشاط "نيلي"، قصة إنشائها والغرض منه، بالإضافة إلى أسماء أعضائها.
على النقيض من ذلك، اعترف الجيش البريطاني بإسهامات "نيلي"، ودورها في إمداد استخباراته بثمين المعلومات، ما دعا قيادة الانتداب البريطاني في مصر إلى منح أعضاء الوحدة أوسمةً متنوعة. ودوَّن شنيرسون نص شهادات التقدير التي تلقّاها من البريطانيين في سجلّ ذكرياته.
وحسب السجل ذاته، لم يحظَ تاريخ "نيلي" بنظرة إيجابية، إلا في ستينيات القرن الماضي، أو بالأحرى بعد إعلان تأسيس إسرائيل، ويعود ذلك على ما يبدو إلى سببين رئيسيين: اكتشاف رفات جثمان عضو الوحدة أفشالوم فاينبرغ، في سيناء بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، وإثارة نقاش مجتمعي واسع في إسرائيل حول نشاط الوحدة بعد هذا الاكتشاف، بالإضافة إلى صدور كتاب في العام نفسه (1967) حول عمليات الوحدة تحت عنوان "من يوميات رجل نيلي"، استناداً إلى يوميات شنيرسون نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.