صباح الثلاثاء، رصدت رادارات القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة طائرات إسرائيلية تحلّق متجهة نحو الخليج. تواصَلَت مع الإسرائيليين طالبةً معلومات عمّا يجري، "لكن بحلول الوقت الذي قدمت فيه إسرائيل ذلك، كانت الصواريخ قد أصبحت بالفعل في الجو"، بحسب ما نقل باراك رافيد عن ثلاثة مسؤولين أمريكيين في تقرير نشره موقع "أكسيوس".
تفاصيل العملية نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال". الطائرات الإسرائيلية كان عددها أكثر من عشر مزودة بصواريخ جو-أرض بعيدة المدى، وبدون أن تدخل المجال الجوي القطري أطلقت أكثر من 10 صواريخ على مبنى سكني في إحدى ضواحي الدوحة الشمالية، دوّت أصوات انفجاراتها في العاصمة القطرية، والهدف مجموعة من قياديي حركة حماس المجتمعين هناك، على رأسهم خليل الحية وزياد جبارين، وهما بحسب إسرائيل من قادة علاقات الحركة الدولية ويساعدون في جمع الأموال.
رصْدُ الأمريكيين للطائرات الإسرائيلية بدون أن يكونوا على علم مسبق بما تنوي القيام به هي واحدة من الروايات، وتتناسب مع قاله البيت الأبيض ودونالد ترامب عن أن الرئيس الأمريكي لم يُخطَر مسبقاً بالعملية وعرف عنها من الجيش الأمريكي، وعندها طلب من مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الاتصال بالقطريين وإبلاغهم بالأمر. وبحسب هذه الرواية، استنتج الجيش الأمريكي الهدف من تحليله لمسار الطائرات.
وإذا جمعنا هذه الرواية مع ما قاله المسؤولون القطريون، تكون النتيجة أن الأمريكيين عرفوا قبل دقائق فقط، لأن "الاتصال الذي ورد من قبل أحد المسؤولين الأمريكيين (للقطريين) جاء خلال سماع دوي صوت الانفجارات الناتجة عن الهجوم الإسرائيلي في الدوحة"، وليس قبل العملية، بحسب مستشار رئيس مجلس الوزراء القطري والمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد محمد الأنصاري.
بحسب رواية أخرى تناقلتها عدة صحف أمريكية، أبلغ الإسرائيليون الأمريكيين بأنهم سينفّذون ضربات وشيكة ضد حماس، "لكنهم لم يشاركوا تفاصيل عن مواقع الأهداف، بما في ذلك الدولة التي كانوا سيضربون فيها"، بحسب ما نقله تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن مسؤول أمريكي. ويقول تقرير "وول ستريت جورنال" إن هذا الإبلاغ العام جاء "مع تحرك الطائرات لتنفيذ الضربة" وليس قبله، ورغم ذلك "لم يكشف عن الموقع المحدد" للأمريكيين.
بحسب "وول ستريت جورنال"، تلقى قادة حماس في الأسابيع التي سبقت الهجوم "تحذيراً غامضاً لكنه صارم: شددوا على تأمين اجتماعاتكم، حسبما أبلغهم مسؤولون مصريون وأتراك". ولكن في نهاية الأسبوع الماضي، "تدفقوا تدريجياً إلى الدوحة لمناقشة فكرة أمريكية جديدة لإنهاء الحرب"، وجرى ما جرى
فرضية أخرى
هذه الروايات يراها البعض غير مقنعة. ينقل تقرير بعنوان "لا يزال غير واضح إذا كانت الولايات المتحدة قد صادقت على الهجوم الإسرائيلي مسبقاً" نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عن "شخص مطلع على القضية" أن "الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر" لإسرائيل لتنفّذ الضربة، كما ينقل عن "مسؤول استخباري عربي" أن "الولايات المتحدة وافقت على الهجوم".
وبحسب خبراء ومسؤولون أمريكيون سابقون "من الصعب على إسرائيل تنفيذ مثل هذه العملية في دولة تقع في مركز المحادثات الدبلوماسية بين إسرائيل وحماس والوسطاء، وتستضيف وجوداً عسكرياً أمريكياً كبيراً، دون التنسيق مع واشنطن". من بين هؤلاء القنصل العام الإسرائيلي السابق في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية ياكي دايان الذي يقول: "مئة في المئة، لا شك في أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر. أكبر قواعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تقع في قطر. إذا أقلعت طائرة من إسرائيل، فهم يعرفون بذلك."
هذا التحليل يرجّحه أيضاً الباحث في دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في "مجلس العلاقات الخارجية" ستيفن أ. كوك. يقول: "بإمكانية كبيرة، هناك تنسيق أكبر بكثير مما يريد البيت الأبيض منا أن نعرفه حالياً"، وما الإنكار الإسرائيلي لأي مشاركة أمريكية أو معرفة مسبقة بالعملية إلا سياسة لتمهيد الأرضية لواشنطن كي تتمكّن من إنكار أي علاقة بها بالأمر. رغم ذلك، لا يستبعد كوك تماماً الروايات السابقة، فبرأيه "لدى الإسرائيليين أيضاً نمطٌ من 'من الأفضل الاعتذار بعد الفعل بدلاً من طلب الإذن'".
فرضية "الخديعة"
قبل أيام، قدّمت الولايات المتحدة خطة لإيقاف الحرب في غزة، وقال ترامب إن الإسرائيليين وافقوا عليها، داعياً حماس إلى القيام بالمثل ومحذراً الحركة من عواقب رفضها، مضيفاً في منشور كتبه على "تروث سوشال": "هذا آخر تحذير مني، ولن يكون هناك تحذير آخر!".
بحسب ما تسرّب للإعلام، ينص اقتراح ترامب على إطلاق حماس سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، الأحياء وجثث الأموات، مقابل إطلاق إسرائيل سراح نحو ألف أسير فلسطيني، وبدئها بالانسحاب من كامل غزة، وبعد ذلك يشرف الرئيس الأمريكي على مفاوضات حول الانتقال السياسي في القطاع وإعادة الإعمار.
هذه الخطة والمفاوضات التي كانت جارية بشأنها يعتبر الباحث في الشؤون الفلسطينية في جامعة جورجتاون الأمريكية خالد الجندي أنها "كانت مجرد 'غطاء' لاستمرار الحرب وتصعيدها". ويشبّه ما جرى بما حدث عندما شنّت إسرائيل هجوماً على إيران في حزيران/ يونيو الماضي، حين "كانت الولايات المتحدة تغري إيران بالدخول في مفاوضات، وتوهمهم بوجود عملية دبلوماسية، وتسمح لإسرائيل بالهجوم".
ونشرت تقارير عدة أن بعض قادة حماس كانوا خارج الدوحة وقدموا إليها للمشاركة في المفاوضات. وبحسب تقرير نشرته "وول ستريت جورنال" اعتمدت فيه على مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين وقطريين وعرب، وأشخاص في الجيش والحكومة الأمريكية، تلقى قادة حماس في الأسابيع التي سبقت الهجوم "تحذيراً غامضاً لكنه صارم: شددوا على تأمين اجتماعاتكم، حسبما أبلغهم مسؤولون مصريون وأتراك". ولكن في نهاية الأسبوع الماضي، "تدفقوا تدريجياً إلى الدوحة لمناقشة فكرة أمريكية جديدة لإنهاء الحرب"، وجرى ما جرى.
مستقبل الوساطة القطرية ومصير غزة
"البنية الكاملة التي نتعامل معها منذ هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر- البنية الدبلوماسية بأكملها- انهارت للتو"، يقول الباحث في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" غيث العمري في تعليق على الضربة الإسرائيلية.
هل انتهت الوساطة القطرية مع ما يعنيه ذلك من أننا صرنا أمام حرب لا يوجد أي طرف قادر على لعب دور الوسيط بين أطرافها؟ "بعد هجوم اليوم لم يعد هناك شيء قائم"، قال رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في إشارة إلى دور بلاده في المفاوضات حول مستقبل غزة. لكن في الوقت نفسه قال أيضاً إن "الوساطة في الدبلوماسية القطرية جزء من هويتنا وستستمر، ولن يثنينا شيء عن الاستمرار في هذا الدور".
في مقال بعنوان "هجوم نتنياهو في قطر ضيّق خيارات إسرائيل"، اعتبر الكاتب الأمريكي دايفيد إغناتيوس في "واشنطن بوست" أن الهجوم الإسرائيلي يُظهر أن رئيس الحكومة الإسرائيلية المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو "مصمم الآن، وربما يائس، لتدمير حماس لدرجة أنه يتجاوز المعايير والقيود السابقة"، مضيفاً: "إذا كنت تبحث عن تشبيه أدبي، فكر في اللحظة في رواية ‘موبي ديك’ عندما يحطّم القبطان آهاب بوصلته ويقامر بكل شيء في مطاردته للحوت الأبيض".
ويقول إغناتيوس: "بالنسبة إلى نتنياهو وترامب، السؤال هو: ما التالي؟ كلاهما يطالب باستسلام حماس. ولكن كيف سيتفاوضان مع تحطم القناة القطرية واحتمال عرقلة المسار المصري الموازي أيضاً؟"، ويضيف: "من خلال تقويض الخيارات الدبلوماسية لإنهاء النزاع، ضيّقت إسرائيل طريقها إلى الأمام. وقد يكون خيارها الوحيد الآن هو إعادة الاحتلال العسكري لمعظم غزة- وهو أمر يقول المسؤولون الإسرائيليون إنهم يرغبون بشدة في تجنبه".
بدوره، اعتبر المبعوث الأمريكي لإيران في إدارة جو بايدن ومستشار الرئيس باراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط روبرت مالي أن ما جرى يؤكد عدم اهتمام الحكومة الإسرائيلية بالتوصل إلى نهاية تفاوضية للحرب في غزة، لا بل يسمم الأجواء لأي دولة ترغب في الوساطة مستقبلاً.
ويشير مالي إلى أن غياب معارضة سياسية ذات شأن في الداخل الإسرائيلي لقرار نتنياهو بتنفيذ الضربة، مستنتجاً أن ذلك يعكس كيف أصبح "الدمار التام والاستسلام غير المشروط" سياسة مقبولة على نطاق واسع في إسرائيل وسط صراعاتها المستمرة مع المنافسين الإقليميين.
أياً يكن الحال، فإنه بعد ما جرى، خاصة في ظل الحديث عن "خديعة" أمريكية، ستصير المفاوضات مع حماس أكثر تعقيداً، وحتى لو نجت قيادات حماس العليا من الضربة الإسرائيلية، كما قالت الحركة، "قد يعيق الهجوم التواصل مع قيادتها داخل غزة"، بحسب ما يقول المدير الإداري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة يوراسيا فراس مقصد، مضيفاً: "يعرف الجميع أن أولئك الذين استهدفتهم إسرائيل اليوم في الدوحة لم يكونوا صانعي القرار، لكنهم كانوا نقطة الاتصال الرئيسية مع صانعي القرار".
سلبية ترامب تجاه جموح نتنياهو تؤثر سلباً على صورة الولايات المتحدة ومكانتها. يرى السيف أن "الخاسر الأكبر هو الولايات المتحدة"، لأن واشنطن، رغم كونها أهم حليف أجنبي لإسرائيل وأكبر مزوّد لها بالأسلحة، تبدو إما غير راغبة أو غير قادرة على كبح الهجمات الإسرائيلية في المنطقة، بما يقوّض مصداقيتها كضامن للأمن في الخليج
إضرار بمصالح الولايات المتحدة
في موقفه المعلن، انتقد ترامب بشدة إسرائيل، وقال في منشور على منصة "تروث سوشال" إن "القصف الأحادي داخل قطر، وهي دولة ذات سيادة وحليف مقرب للولايات المتحدة وتعمل بجدية وشجاعة وتخاطر معنا للتوسط من أجل السلام، لا يحقق أهداف إسرائيل أو الولايات المتحدة"، ولو أنه أضاف أن "القضاء على حماس، التي استفادت من معاناة سكان غزة هدف يستحق السعي إليه".
ولكن في الواقع، فإن ترامب "هو الآن في مرحلة 'بيبي، افعل ما تريد'، والتي قد لا تكون بالضرورة ما سيكون عليه غداً"، كما يقول الدبلوماسي الأمريكي السابق والمدير الأول لمركز أوراسيا في المجلس الأطلسي حالياً جون إي. هيربست.
سلبية ترامب تجاه جموح نتنياهو تؤثر سلباً على صورة الولايات المتحدة ومكانتها. يرى أستاذ مادة التاريخ في جامعة الكويت بدر السيف أن "الخاسر الأكبر هو الولايات المتحدة"، لأن واشنطن، رغم كونها أهم حليف أجنبي لإسرائيل وأكبر مزوّد لها بالأسلحة، تبدو إما غير راغبة أو غير قادرة على كبح الهجمات الإسرائيلية في المنطقة، وهذا يقوّض مصداقيتها كضامن للأمن في الخليج.
ويذهب روبرت مالي إلى استنتاج مشابه بقوله إن "إسرائيل ترسل أيضاً رسالة مفادها أن لا فلسطيني آمن في أي مكان، وليس حتى في عاصمة شريك أمريكي مقرب، ووسيط رئيسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ومصدر مالي مربح للعديد في محيط ترامب"، مضيفاً: "ماذا قد يفكر المسؤولون في مصر أو تركيا؟ هل سيرغبون في لقاء قادة حماس اليوم، وهم الذين قد يصبحون أهدافاً محتملة غداً؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.