ذوق وأم حسين وعيد وصابر… وجوه خفية وراء بريق المتاحف

ذوق وأم حسين وعيد وصابر… وجوه خفية وراء بريق المتاحف

ثقافة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 24 سبتمبر 20258 دقائق للقراءة

تبدأ ذوق علي يومها في متحف قصر محمد علي منذ السابعة صباحاً، وتغادر بعد ساعات العمل لتتدارك ما قد يوجد من طوارئ، حيث اكتسبت خبرتها كعاملة ترميم على مدار 27 عاماً، حتى انتقلت من مجرد عاملة نظافة في المتحف إلى عاملة ترميم تتعامل مع معدات وأدوات الترميم، وتشرف على أداء عمال النظافة القدامى، وتتابع بعناية دور العمال الجدد، وتقدم لهم الخبرات وشرحاً لكل محتويات المتحف. ذوق البالغة من العمر 63 عاماً يتلخص دورها في التعامل مع مهندسي الترميم والفنيين، فهي المسؤولة عن الأدوات والعُدد، تقوم بحملها ونقلها، كما أنها تتعامل مع الفنيين في تنظيف الرخام بمادة تشبه النشادر.

خلف الواجهة البراقة للمتاحف يقف جيش صامت من العاملين في الترميم والتنظيف. هم الجنود المجهولون الذين لا تُعرف أسماؤهم، لكن كل قطعة أثرية تمرّ من بين أيديهم تحمل أثر خبرتهم الطويلة. لا يحملون شهادات جامعية، بل بمرور الزمن ودقة الممارسة، تحوّلوا إلى خبراء حقيقيين؛ إذ تسجّل أناملهم حضورها في كل زاوية من المتحف، من خلال عين يقظة، وضربة أزميل محسوبة، أو لمسة فوطة جافة تزيل الغبار عن تفاصيل دقيقة، ليبقى المشهد النهائي كما يراه الزائر: متحف يلمع بالحياة.

عنصر الخبرة

عمال الترميم عادة، والقدامى منهم خاصةً، يمتلكون خبرة كبيرة نظراً لسنوات عملهم، تجعل لدورهم أهمية بالغة. تقول ذلك لرصيف22، رحاب جمعة، مديرة إدارة الترميم بمتحف قصر محمد علي بالمنيل جنوب القاهرة، وتضيف: "نحرص على وجود أخصائي الترميم للإشراف على العمل، نظراً لأهمية الدراسة ومعرفة المواد وتأثيرها على القطع الأثرية باختلاف خاماتها. وهو أمر هام يحمي من وقوع أي أخطاء".

وعن دور العمال تقول رحاب إن الخبرة والإتقان لهما دور كبير في إتمام المهمة بشكل جيد، لافتة: "عامل الترميم بيقدم الأدوات والمواد اللي الأخصائي هيشتغل بيها، وبعدين بيقوم بترتيب المواد وحفظها وتخزينها وترتيب المخازن. وطبعاً بنعتمد عليه في التعامل اللي بيحتاج قوة بدنية؛ مثلاً لو عايزين نعمل قطعة نسيج وتتشد على شاسيه، عامل الترميم هو اللي بيشد القطعة أو بيتعامل بالأدوات زي الشواكيش والأزاميل في التكسير. وكمان هو اللي بيرتب المعمل وبيفتحه ويقفله، وبينقل القطع الأثرية والعدد للمعمل لتصليحها وبعدين لقاعات العرض. وكمان من تخصصه الشغل المعماري وتحضير خلطة المونة أو الأسمنت لمعالجة شروخ في القطع الخزفية أو فراغات الأرضيات وحقنها بمواد رابطة أسمنتية والأبواب والنوافذ الخشبية". وعن أهمية دور عامل الترميم تشير رحاب أن بعضهم يبهرنا بخبرته في التعامل مع الآثار وأصبحت يداه حساسه ودقيقة، وبالتالي نعتمد عليه لمساعدتنا وكأنه فني أو أخصائي مع متابعة أدائه.

في صمت القاعات وزوايا المتاحف، ينقش عمال الترميم بمهارة أناملهم قصة حماية الإرث، حيث تتحول الأيادي الخفية إلى خبراء رغم غياب الشهادات، لأن الزمن وحده هو الشاهد

تضيف ذوق لرصيف22: "دوري يقف عند مساعدة الفنيين، ولا أتعامل أبداً مع القطع الاثرية ولا التماثيل ولا المقصورات الزجاجية أو البراويز". وتضيف: "أنا أساعد أمينة النظافة في تنظيف الزجاج ، بس أنا مش عارفة الآثار، لكن أعرف تقسيم المكان والمنشآت؛ يعني أوضة نوم الأميرة أو أوضة استقبال الضيوف". ولفتت ذوق إلى أن عمال النظافة والترميم الجدد عادة يخضعون لملاحظة وإشراف الفنيين.

تحديد مواد التنظيف

التقطت أطرافَ الحديث أم حسين، السيدة الأربعينية عاملة النظافة في متحف "جاير إندرسون" بحي السيدة زينب بوسط القاهرة، ونظراً لخبرتها بالعمل لنحو 10 أعوام تقول أم حسين: "أتعامل مع القطع الأثرية في تنظيفها بوسائل دقيقة، سواءً ريشة أو فوطة قطنية ناعمة وجافة تماماً. وكذلك تنظيف الأرضيات وتلميع ما يحيط بالتماثيل والقطع الأثرية من تراب وغبار. وتضيف: "منذ التحقت بالعمل في المتحف تلقيت العديد من التعليمات من قبل مشرفات قديمات ذوات خبرة عالية مع متابعة مستمرة لكل تحركاتي أثناء العمل. حتى مع التعليمات كنت أخضع للمتابعة الدقيقة، خاصة في العمل داخل القصر والغرف التي تضم قطعاً ثمينة".

وتكمل أم حسين: "كنت دائماً بشتغل حسب الشرح، يعني في الموبيليا والأثاث الخشبي علموني استخدم قطعة قماش جافة بدون أي سوائل"، ومع سنوات الخبرة أصبحت تشرف على العمال الجدد وتوجه الإرشادات لهم، وتشرح محتويات المتحف، وكيفية التعامل مع مقتنياته، وفقاً لأدوات ومواد النظيف المسموحة. أما عن القطع الأثرية فهي لا تتعامل معها ولا تقوم بنقلها من موضعها وتكتفي بتنظيفها من الأتربة والغبار بواسطة قطعه قماش قطنية أو ريشة ناعمة حسب خامة كل قطعة، ويتم ذلك في وجود أمينة العهدة وتحت إشرافها، وفي بعض القطع الأثرية شديدة الحساسية تقوم أمينة العهدة بتنظيفها بنفسها أو نقلها.

ليست مجرد نظافة أو ترتيب، بل فن دقيق يتطلب حِسّاً عالياً وتفانياً لا ينقطع، فهؤلاء العمال هم حراس الجمال والتاريخ، يُعيدون للأثر روحَ الحياة كل يوم

لعل من أخطر ما يتعامل معه العمال هو استخدام أدوات ومواد التنظيف بالقرب من القطع الأثرية أو الفتارين، خاصة ما يتضمن أجزاءً خشبية، خاصة وإن تسرب السوائل عبر فراغات الزجاج ووصولها للداخل قد ينتج عنه عفن يصيب القطع ويؤثر على سلامتها؛ هكذا تتحدث عزة فهمي مديرة إدارة الترميم بالمتحف المصري الكبير بميدان التحرير وسط القاهرة، وتشير إلى أن المتحف لا يضم عمالاً للترميم، فالعاملون فيه إما أن يكونوا فنيين وأخصائيين أو مهندسين نظراً لحساسية محتويات المتحف. وتضيف عزة في تصريحها لرصيف22: "نتعامل فقط مع عمال النظافة وتحت إشراف مباشر من وكيلة المتحف شخصياً مع مراعاة استخدام أقمشة قطنية جافة أثناء عملية التنظيف ولا يُسمح لهم سوى بالتعامل مع الجدران والدرج والأرضيات بمواد تنظيف يتم صنعها خصيصاً، وتكون خالية من أي مبيضات أو مذيبات".

بالعُطل وخارج ساعات العمل

ومن القاهرة للإسكندرية يروي عم عيد، عامل نظافة في متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية شمال مصر، أوقاتَ العمل الأكثر خلال العطلات الأسبوعية نظراً لخلوّ القاعات من الزوار والموظفين، مما يهيئ الجوّ لإجراءات النظافة بشكل أفضل، ويتم تقسيم العمال وفقاً لخبراتهم: الأقل خبرةً يتولى تنظيف الحديقة، والأكثر خبرة يتعاونون معنا في تنظيف قصر المتحف. ويضيف عيد إبراهيم: "تقسيم العمال حسب خبرتهم مهم للحفاظ على محتويات القاعات، لأن أي تعامل غير صحيح قد يكسر شيئاً مهماً. عملنا يبدأ قبل مواعيد فتح المتحف يومياً، من تنظيف السجاد بالمكنسة الكهربائية وتشميع الأرضية بالشمع، إلى مسح أرضيات القاعات الرخامية والدروج. وخلال العطلات ننظف السقف من الغبار والعنكبوت، وننظف الزجاج والنوافذ ودورات المياه والأبواب الحديدية وأسوار الدرج، ولا بد من أن يرافقنا إشراف من مديري الترميم لمتابعة العمل، لأن الأبواب والأسوار أثرية ودقيقة، وقد تتأثر بأي حركة غير صحيحة نقوم بها".

بعض المتاحف، مثل متحف المجوهرات، قد لا تحتاج لعمال ترميم، وتكتفي بعمال النظافة؛ تقول ذلك ريهام شعبان مديرة متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية، وتضيف: "حتى عمالة النظافة نقوم بتولية مشرفة بخبرة تصل إلى 30 عاماً للإشراف على فريق العمل الذي يضمهم". وعن دور عمال النظافة تضيف: "إنهم يشتغلون على تلميع وتنظيف 'الباركيه' لأنه أثري، والشبابيك والزجاج المعشق تحديداً يتم تنظيفه برقابة من الأثريين. وفي كل مراحل التنظيف نستبعد استخدام أي منظفات أو كيماويات وكلور".

عيد الذي بلغ نحو 25 عاماً من العمل داخل المتحف أثناء تنظيفه للقطع الأثرية والتماثيل لا بد أن يكون دوره تحت إشراف من الترميم، ويستخدم فرشاة دقيقة وناعمة للغاية وجافة، وقطعاً قطنية نظيفة، ولا يرتدي أي معادن في يديه، تفادياً لحدوث خدوش في القطع التي يتعامل معها.

تعامل خاص مع الأخشاب

يهتم عمال الترميم بترتيب وتنظيم الأدوات ومواد الترميم وعناية الجدران والموبيليا؛ هكذا يروي محمد صابر (59 عاماً) الذي يعمل منذ 37 عاماً كعامل للترميم بمتحف قصر محمد علي. يقول صابر: "حسب احتياج القطعة الأثرية لترميم، يتم التعامل معها إما في موضعها بواسطة المهندسين والفنيين أو يتم نقلها إلى المعمل، ليتم التعامل معها وفقاً لحاجتها للترميم؛ منها علي سبيل المثال القطع والمشغولات الخشبية (الأرابيسك)، وقطع الأثاث والمقاعد، وكذلك الإطارات الخشبية للوحات. وللدهان والطلاء، سواءً للأخشاب أو الجدران، يوجد متخصصون للترميم بالزيوت للتعامل مع هذا النوع من الترميم".

ويضيف عم صابر لرصيف22: "يبدأ اليوم قبل مواعيد عمل المتحف بنحو ساعة؛ نتفقد المكان، فإن كانت القطعة تحتاج إلى الترميم فتتم معالجتها، وإن اكتشفنا فيها مشكلة وحاجة للترميم فنأخد آراء الكل. أنا أنقل العدة للفني، وأجهز خلطة الأسمنت أو المواد الرابطة". وعن العمال الجدد بالمتحف يقول صابر: "علشان سنين الخبرة في الترميم وكمان معرفتي بالمتحف، أي عامل بينضم جديد أنا بتولى تعليمه وتدريبه، وبعرفه محتويات القصر وطبيعة الغرفة ونوعية الأدوات، علشان لما يكون مطلوب منه أداة معينة يكون عارفها كويس. وحتى مع التعليم أنا مسؤول عن متابعته أثناء الشغل، علشان لسه خبرته محدودة، ومفيش أي احتمالية للخطأ لأن أي خسائر تمنها غالي جداً، وعادة أنا بتعامل مع القطع الأثرية الخشبية بنفسي حسب حاجة كل قطعة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image