قبالة الحد الفاصل بين مبنى جامعة الدول العربية وفندق هيلتون النيل وقفتُ. ورائي فندق "هيلتون رمسيس"، هكذا يجب أن يُسمى، وليس "رمسيس هيلتون". نقول: "شيراتون القاهرة، شيراتون الجزيرة، هيلتون طابا". العلامة التجارية لأي سلسلة فنادق عالمية تنتسب إلى الأقدم والأبقى، إلى رمسيس والنيل. على يساري فندق "هيلتون النيل"، وأمامي نفق أسفل كوبري قصر النيل. البعض من كبار السن يعرف أنه "نفق الشهيد كمال الدين صلاح". حمل اسم دبلوماسي مصري مرموق اختتم كفاحه بدعم استقلال الصومال، وفيها اغتيل عام 1957. لا أحد ينتبه إلى لوحة رخامية توثق يوم افتتاح النفق. إهمالها يمنح الأمل في إصلاح التفريغ المتواصل للحمولة الرمزية لميدان التحرير.
استطعت قراءة السطور السبعة لكلمات اللوحة، بتمرير اصبعي في مجرى الحفر الغائر:
أناب السيد الرئيس
جمال عبد الناصر
السيد زكريا محيي الدين رئيس الوزراء
لافتتاح
ممر السيارات تحت كوبري التحرير
يوم الثلاثاء 11 صفر سنة 1386هـ
الموافق 31 مايو سنة 1966م.
لولا متانة المسامير المثبتة للوحة لطردها الجدار الجرانيتي الأقوى من الرخام. مَن يبالي الآن باللوحة؟ للتاريخ شأن آخر.
يرجع إنشاء المتحف المصري إلى عام 1902. أول بناء في العالم يتأسس كمتحف. وفي نشوة الفرح بخلع حسني مبارك طالب المتحف بحديقته الخلفية التي تم اقتطاعها من حرمه. وفي كانون الأول/ديسمبر 2012 كشفت وزارة الآثار ملامح مشروع تطوير المتحف، بإسهامات أهلية لا تكلف الحكومة شيئاً
ورائي ما كانت حديقة للمتحف المصري المطل على ميدان التحرير. على تلك الحديقة أقيم مبنى قبيح يفصل المتحف عن نهر النيل. تلك الحديقة التهمها الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد في عهد عبد الناصر. ذهبت دولة الاتحاد الاشتراكي، واعتقل أنور السادات رموزه في أيار/مايو 1971. الحزب الوطني ورث مبنى الاتحاد الاشتراكي، وقبل ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 طاردتنا لافتات إعلانية عليها صورة جمال مبارك، الحاكم الحقيقي لمصر في ظل أبيه العجوز حسني مبارك. لافتة كبرى على واجهة مبنى الحزب الوطني حملت شعاره، في انتخابات 2010: "من أجلك أنت". الإجماع الوطني على رفض جمال مبارك خرقته أصوات نشاز في الصحافة. أنور الهواري مثالاً.
كان الهواري رئيساً لتحرير مجلة "الأهرام الاقتصادي"، وكاتب عمود يومي في صحيفة "الأهرام المسائي". في 30 نيسان/أبريل 2010 كتب عموداً عنوانه "جمال مبارك"، عن الموعود بالحكم، وامتيازه بالعقل والقلب: "عنده قلب، عنده عقل، عنده أعصاب. هذه هي خصائص القيادة عند جمال مبارك. عاطفة وطنية تلهب حماسه، للاندفاع نحو أعقد القضايا وأصعب المشكلات، عاطفة حب تربطه ببلده، بجذوره، بزمنه، بأهله، بناسه، بأحلامهم، بطموحاتهم، بمطالبهم، برغباتهم في التغيير، بأشواقهم نحو الأفضل. عقل واسع، مطلع، لديه هندسة غريزية، يدرس بها القضايا، يضع الحدود بين العموميات والتفاصيل، بين الأهداف والوسائل، يفرز الأولويات ويعيد ترتيبها، طاقة عقلية تستوعب التفاصيل، صافية لا يلحقها تشويش ولا تعكير".
وأضاف: "لا تختلط عليه القضايا، لا ترتبك أمامه جذور المسائل، لديه قدرة فائقة على تتبع الأزمات من نشأتها، إلى تطورها وتفاعلها، ولديه قدرة مماثلة على إدارتها سعيا نحو حلها، تزدحم القضايا في الواقع، وفي الملفات، وفي الساحات العامة، ولكنها لا تزدحم في عقله... لديه القدرة على إثبات أن العقل الإنساني هو السيد هو الفاعل هو المتحكم هو صاحب القرار. أعصاب قوية منشأها وأصلها قوة التسامح. قوة الثقة في الذات. قوة النظر للرأي الآخر باحترام... قوة الاستقامة الأخلاقية والأمانة في تحمل المسؤوليات العامة... هذه هي خصائص القيادة عند جمال مبارك، كما تتجلى للمراقب المحايد. وقد استمعت إليه، يعرض وجهات نظره، ويستمع إلى وجهات نظر الآخرين، في دأب، وجلد، ومثابرة ـ يحسد عليهاـ على مدى خمس ساعات متواصلة".
في مصر ناصريون أشد حماسة لعبد الفتاح السيسي من رهان أنور الهواري على مبارك الصغير. لا يغارون على بقايا اسم عبد الناصر في اللوحة. حروف لا تراها العيون. ورائي فراغ ما بعد هدم مبنى الحزب الوطني. اشتعلت النيران في مجلس الشورى، في آب/أغسطس 2008، فاغترفت المروحيات من النيل، وأطفأت الحريق. لماذا تركوا النيران تلتهم مقر الحزب الوطني المطل على النيل؟ هل أرادوا التضحية بوثائق رسمية، وأراحهم حريق استمر نحو 36 ساعة، حتى أتت النيران على المبنى الذي يضم لوحات من كلاسيكيات الفن التشكيلي؟ مبنى نشاز يؤذي العين، لا تناسق بينه وبين الطراز المعماري للمتحف المصري. وفي نيسان/أبريل 2011 أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكما نهائيا بحل الحزب الوطني، وإعادة ممتلكاته وأمواله إلى الدولة.
يرجع إنشاء المتحف المصري إلى عام 1902. أول بناء في العالم يتأسس كمتحف. وفي نشوة الفرح بخلع حسني مبارك طالب المتحف بحديقته الخلفية التي تم اقتطاعها من حرمه. وفي كانون الأول/ديسمبر 2012 كشفت وزارة الآثار ملامح مشروع تطوير المتحف، بإسهامات أهلية لا تكلف الحكومة شيئاً. تضمن المقترح إنشاء نفق يصل مرسى المراكب النيلية إلى داخل الحديقة المتحفية المستعادة؛ فيتجنب الزائرون المرور بكورنيش النيل. يصلون من النيل مباشرة إلى الحديقة والمتحف، مع إزالة أي حواجز تحجب رؤية المتحف من الخارج. ارتبط ذلك الحلم باستعادة الأرض التي استولى الحزب الوطني. على هذه الأرض، ستقام "أبراج التحرير". زوج من الخوازيق، خازوق شمالي وقرينه الجنوبي.
بإخلاء مجمع التحرير ونهوضه فندقاً سيكون، مع هذين البرجين، كماشة تخنق ميدان التحرير، وتنتقم من رمزيته. ولولا القبضة الخانقة لتمنيت أن يسارع المصورون إلى توثيق معالم القاهرة قبل تصحيرها، وتغيير معالمها
الإعلان عن مشروع البرجين بدأ بالتضليل. يقول: "أبراج التحرير المقرر تنفيذها على أرض الحزب الوطني بالشراكة بين صندوق ثراء ومستثمر أجنبي". المساحة البالغة 16 ألف متر مربع ليست أرض الحزب الوطني، ولا أرض سلفه الاتحاد الاشتراكي. هي حديقة المتحف المصري. الخوازيق السياحية ستحجب المتحف. تقزيم متعمد. من البرجين سيكون المتحف المهيب بناية ضئيلة ملحقة بالخوازيق. تطوير الميادين يراعي هويتها البصرية، بملامحها الجمالية وعناصرها العمرانية. كان يمكن تطوير ميدان رمسيس وتطويعه انطلاقاً من بقاء تمثال رمسيس الشامخ، وليس نفيه. وكذلك المتحف المصري، الصرح الأثري، سيبدو حديقة خلفية للأبراج. منطقة وسط البلد مرشوقة بالفنادق والأبراج. ينقصها الفراغ لا التفريغ. ويستهدفها أعداء الحدائق والأشجار.
بإخلاء مجمع التحرير ونهوضه فندقاً سيكون، مع هذين البرجين، كماشة تخنق ميدان التحرير، وتنتقم من رمزيته. ولولا القبضة الخانقة لتمنيت أن يسارع المصورون إلى توثيق معالم القاهرة قبل تصحيرها، وتغيير معالمها. في رواية "برلين 69" يتحدث صنع الله إبراهيم عن صادق الحلواني. كان يتردد على متحف الفن الحديث، "عندما كان يقع في ميدان التحرير قبل أن يتم هده ويتحول إلى جراج للسيارات". لم أستدل على مكان المتحف. وبالسؤال عرفت أنه كان في قصر هدى شعراوي، يطل على الميدان، ويجاور سينما قصر النيل. أخشى أن يسأل غيري غداً عن مكان المتحف المصري. يجري تفريغ القاهرة، وتغيير ملامحها ونزع محتوى عمقها التاريخي.
خطة بدأها رئيس لص، غير مبارك، وتتسارع الآن مع صعود الموجة الثانية للقوى المضادة للثورة. تم تجفيف العاصمة من أكبر منتدى للغاضبين الحالمين بالتغيير والحرية. كان ذلك المنتدى يمتد من شارع شامبليون ويتماس مع ميدان التحرير، ويتقاطع مع ميدان طلعت حرب وشارعيْ هدى شعراوي وصبري أبو علم، وصولاً إلى شارع الشريفين حيث منطقة البورصة التي كانت عامرة بأكثر من ثلاثين مقهى، وروادها من كافة الأعمار والشرائح الاجتماعية. أطفأ قرار إغلاق المقاهي روح المكان، وعلى اتساعه يضيق حاليا بالمحبطين، غير المطمئنين. فيهم يصدق قول ولي الدين يكن (1873 ـ 1921): "مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...