"كوارث لا يسلَّط الضوء عليها"... عمّا تستهدفه إسرائيل من "مذبحة الأبراج" في غزة

حياة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 16 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

"عندما رأيت الأبراج في غزة لأول مرة، شعرت أنها مبانٍ عملاقة لا يمكن الوصول إلى نهايتها… كنت أظنّها من عجائب الدنيا، فأنا لم أرَ الدنيا خارج غزة أبداً. اليوم، انهار أعلى برج في غزة… كذلك انهارت دهشتي أمام ارتفاع العالم الأخير"؛ بهذه الكلمات، اختصرت الشاعرة الغزّية نعمة حسن، أثر "مذبحة الأبراج" التي كثّفت إسرائيل العمل عليها خلال الأيام الأخيرة، على الغزّيين/ ات.

منذ 5 أيلول/ سبتمبر الجاري، بدأت إسرائيل تصعيداً جديداً في عملياتها العسكرية داخل قطاع غزة، وفي مفارقة يبدو أنها تختصر حرب الإبادة المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومدى استعداد إسرائيل لإنهائها، كان ضمن الدفعة الأولى من الأبراج المستهدفة "برج السلام" الذي نسفته إسرائيل.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل "برج السلام"، إذ قصفته في عام 2014، ما أدّى إلى مقتل 11 فلسطينياً من بينهم أسرة كاملة.

انتهاك القوانين والاتفاقيات الدولية

بقصفها أبراج الغزّيين، تنتهك إسرائيل القوانين والمعاهدات الدولية. بحسب المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فحتى في زمن الحرب، يُحظر تدمير الممتلكات على نحو لا تبرّره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة. كما تنصُّ المادة 52 في بروتوكولها الأول الإضافي لسنة 1977، على أنّ "الأعيان المدنية لا تكون محلاً للهجوم أو لهجمات الانتقام".

في مخالفة للقوانين والمعاهدات الدولية، استهدفت إسرائيل بشكل ممنهج أبرز الأبراج في غزة على مدار الأيام الأخيرة حتى استحال ما لا يقلّ عن 50 منها أنقاضاً. لكن تبعات ذلك "أكثر من مدمّرة"

وهنا يجب التأكيد على أنّ البروتوكول نصّ على حماية "الأعيان المدنية"، وليس "المباني المدنية" فقط، لأنّ الجملة الأولى أشمل بكثير، فهي تضمُّ كل ما يستخدمه المدنيون كالعقارات والمرافق العامة والطرق وحتى الأراضي الزراعية والحقول.

على وقع تلك السوابق القانونية، وصف المقرر الخاص المعني بالحق في السكن اللائق لدى الأمم المتحدة، بالاكريشنان راجاغوبال، خطة "استهداف الأبراج" الإسرائيلية بأنها "عمل إجرامي بموجب القانون الدولي".

أبواب الجحيم

وكان وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس، قد توعّد غزّة بفتح "أبواب الجحيم"، مهدداً بالمزيد من الدمار طالما لم ترضخ حركة حماس لشروط إسرائيل، متعهداً في الوقت عينه بـ"إعصار هائل سيضرب غزة" حيث "ستهتز أسقف أبراج الإرهاب". ولا تمتلك غزة أبراجاً بالمعنى المفهوم خارج حدودها، وإنما هي مبانٍ مرتفعة بمتوسط 15 دوراً تزيد أو تنقص قليلاً حسب كل برج.

بعدها، شنّت الطائرات الإسرائيلية سلسلة غارات على المباني المرتفعة في غزة والتي يُنظر إليها باعتبارها من معالم المدينة الرئيسية، وعادةً ما تستضيف مكاتب مؤسسات حكومية وتجارية ودولية وإعلامية.

بالإضافة إلى "برج السلام"، نسفت إسرائيل عدداً آخر من الأبراج عن بكرة أبيها من أبرزها "برج مشتهى" (12 طابقاً)، و"برج السوسي" و"برج الرؤيا" و"برج مكة" (16 طابقاً)، و"برج الكوثر" و"برج الغفري" -الذي يُعد الأكبر في المدينة- حتى وصل عدد الأبراج التي استحالت أنقاضاً إلى ما لا يقلّ عن 50 برجاً، وفق الدفاع المدني الفلسطيني.

وفي كلمة مصوّرة، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، سكان الأبراج إلى المغادرة فوراً بعدما ادّعى أنّ طائراته دمّرت "أبراجاً إرهابيةً" خلال يومين.

تمهيد للاجتياح البرّي... وأكثر

الرواية الرسمية التي تُبرّر بها إسرائيل التدمير المنهجي للمباني متعدّدة الطوابق في غزة هي أنها تضمّ بنيةً تحتيةً عسكريةً تستغلّها حركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة، وأنّ حماس "دمجت وسائل استخباريةً ومواقع قنص وإطلاق صواريخ وأنشأت مراكز سيطرة في أبراج في غزة"، وهو ما تنفيه الحركة والعديد من المؤسسات الدولية والحقوقية وما أثبتته تحقيقات صحافية أيضاً.

ويبدو أنّ تل أبيب تسعى -عبر هدم الأبراج- إلى فرض المزيد من الضغوط على الغزيين وقتل مقوّمات الحياة الأساسية كافة في القطاع، بما يشمل أيضاً إلحاق صدمات نفسية بالغزّيين بتدمير مبانيهم الكبرى ورموز مدينتهم المعمارية، فضلاً عن فرض وضع أكثر بؤساً عبر زيادة أعداد النازحين من المدينة إلى الجنوب ضمن خططها لتهجيرهم قسرياً.

هذا ما فسّر به مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، أمجد الشوا، في تصريحات إعلامية، اعتماد إسرائيل على سياسة "هدم الأبراج" إذ أكد أنها تنشر بها الذعر بين الناس حتى تدفعهم إلى الهرب جنوباً.

وهو الأمر نفسه الذي أشار إليه راجا غوبال، عبر تأكيده أنّ إسرائيل تهدف من وراء تلك الخطة إلى جعل المنطقة غير قابلة للعيش بالنسبة للمواطنين وإجبارهم على مغادرتها والنزوح إلى مناطق أخرى.

فضلاً عن ذلك، ومع بداية العملية البرية في غزة خلال الساعات الأخيرة، تشير تحليلات عسكرية متزايدة إلى أنّ "مذبحة الأبراج" مقدّمة لعملية الاجتياح البري التي تسعى من خلالها إسرائيل إلى احتلال مدينة غزة، وتمهّد لها بنسف المباني العالية التي قد يتمترس فيها مقاتلون ليستهدفوا الجنود الإسرائيليين خلال الانتشار المرتقب في نواحي المدينة. 

وبحسب أستاذ القانون الدولي في الجامعة العبرية، يوفال شاني، فإنّ إسرائيل تهدف إلى ترسيخ معادلة أنّ غزة لن تعرف الرخاء طالما وُجدت حماس، لذا تضرب الأبراج "رمز التقدّم الاقتصادي والحضاري الحديث" في القطاع، "على أمل أن تفقد الحركة تعاطف النخبة الاقتصادية المحلية التي أدارت أعمالها في مثل هذه المباني في غزة، وحينها تُحجم الحركة عن خوض أي مغامرة عسكرية ضد إسرائيل".

هذا السيناريو، نفّذت إسرائيل مثله مرات عدة في الضاحية الجنوبية لبيروت في اشتباكاتها الأخيرة مع حزب الله، تطبيقاً لعقيدة إسرائيلية عسكرية بُنيت وفق فلسفة "الرد المفرط في القوة"، والتسبب في "أضرار ودمار كبيرين"، والتي سبق أن كشف عنها رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت.

بحسب الأكاديمي الإسرائيلي، "تهدف إسرائيل إلى ترسيخ معادلة أنّ غزة لن تعرف الرخاء طالما وُجدت حماس، لذا تضرب الأبراج رمز التقدّم الاقتصادي والحضاري الحديث في القطاع، على أمل أن تفقد الحركة تعاطف النخبة الاقتصادية المحلية"

تاريخ من الاستهداف

وهذه السياسة في غزة بدأتها إسرائيل قبل الشهر الجاري بكثير. فبعد ساعات قليلة من هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استهدفت إسرائيل بالقصف الجوي "برج فلسطين" -الذي كانت تعيش فيه 82 أسرةً- بزعم احتوائه على "وحدات ومنظومات" تابعة لمنظمة حماس "تُستخدم لتوجيه العمليات الإرهابية"، بحسب إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، آنذاك.

وخلال حرب عام 2014، استهدفت إسرائيل قرابة 11 برجاً منها "برج الباشا" و"برج الظافر" (كان يضمّ 65 شقةً). وخلال حرب أيار/ مايو 2021، دمّرت إسرائيل بالكامل برج هنادي المكوّن من 13 طابقاً، والذي كان يؤوي 80 عائلةً، فضلاً عن استضافته مكاتب شركات خاصة ومؤسسات تجارية، وألحقت أضراراً بـ"برج الجوهرة" المكوّن من 10 طوابق، بعدما قصفت أدواره السفلى بـ6 صواريخ.

كذلك، دمّرت إسرائيل بالكامل "برج الشروق"، و"برج الجلاء" الذي كان يضمُّ مكتب قناة الجزيرة القطرية ومقر وكالة الأسوشيتد برس، ومجمّع بنايات أنس بن مالك الذي كان يضمّ 63 شقةً، و"برج الباشا" وكان عبارةً عن 13 طابقاً، و"المجمّع الإيطالي المكوّن من 14 طابقاً، مُتسببةً في خسائر أولية قُدِّرت بـ16.8 ملايين دولار أمريكي.

حكايات الغزّيين مع أبراج مدينتهم

بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، سُمح لعشرات الآلاف من الفلسطينيين بالعودة من الخارج إلى الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة. في ضوء انتعاش آمال الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة، شجّعت السلطة الفلسطينية على بناء بيوت متعدّدة الطوابق. وفي 1994، بدأ التوسّع الرأسي/ العلوي داخل قطاع غزة كحلِّ لاستيعاب الأعداد العائدة إلى القطاع الكثيف السكان والصغير المساحة، وسريعاً نالت الأبراج شهرةً كبيرةً حتى أنّ بعض الأحياء سُميت بأسمائها.

لا تمتلك غزة أبراجاً بالمعنى المفهوم خارج حدودها، وإنما هي مبانٍ مرتفعة بمتوسط 15 دوراً تزيد أو تنقص قليلاً حسب كل برج، لكنها لطالما مثّلت أهميةً خاصةً لدى الغزّيين، ورافقت نسف إسرائيل العشرات منها خلال الآونة الأخيرة تأثيرات عميقة عليهم

لعبت هذه الأبراج دوراً مهماً في تخفيف أزمة اكتظاظ السكان في غزة، فضلاً عن احتواء طوابقها السُفلى على محال تجارية وخدمية جعلت من تلك الأبراج مراكز حيويةً لخدمة السكان، وهو الأمر الذي حوّلها بمرور الوقت إلى "رمز حضاري" للمدينة وواحدة من دعائم هويتها العمرانية.

أصبحت هذه الأبراج هدفاً لإسرائيل، في سياسة عواقبها أكثر من مُدمّرة وستكون طويلة الأمد على غزة حيث أن كل بُرج تُسقطه إسرائيل يسقط معه المزيد من بقايا الإحساس بالأمان الذي يطارده الغزيون في أيِّ مكان، بعدما اعتقدوا أن محيط الأبراج أكثر أماناً من الخيام المكتظة التي طالما استهدفتها إسرائيل.

وتكشف تعليقات العديد من الغزّيين التي تابعها رصيف22، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن خسارة فادحة بتدمير هذه الأبراج حيث يأخذ كل برج معه جزءاً من الذاكرة الاجتماعية الجماعية للفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، تعدّدت شهادات سكان هذه الأبراج حول أنّ إسرائيل لا تمنحهم سوى وقت قصير للإخلاء قبيل نسف البرج، ما يترتب عليه عدم قدرتهم على اصطحاب الكثير من أغراضهم وممتلكاتهم، فيما تخلّف تلك التجربة تداعيات جمّة على نفوس سكانها الذين تحوّلوا من سكان أبراج أنيقة إلى خيمة نزوح ممزقة لمجرد أنّ إسرائيل تريد ذلك.

من بين هذه التعليقات، يقول مصطفى البنا عبر فيسبوك: "حتى نقرّب صورة الكارثة ولو قليلاً، حين يدمَّر برج يضمّ مئات النازحين، فهؤلاء لا يمكن أن يذهبوا ليبيتوا ليلتهم عند أقاربهم، فجميع البيوت والخيام متكدّسة حدّ الانفجار، ولا تستطيع أغلب العوائل النازحة أن تجد خيمةً بسرعة قبل أن تغيب الشمس، وستبيت النساء مع بعضهنّ بعضاً في خيام أقاربهم، وسينام الرجال في العراء، حتى يحل صباح الغد. عائلات أخرى ستبني خيمةً من الأخشاب والنايلون، وكثيرون سينامون جلوساً على الطرق أو بجوار جدران المشافي… هذه كوارث لا يسلّط أحد الضوء عليها!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image