يرِد على لسان ضابط إسرائيلي في مسلسل "الاجتياح": "إنتو يا نسوان فلسطين ما حد بيقدرلكو، ولو بقدر أعتقل اللي في بطنك ما قصّرت، لإنو جواتكو في قنابل موقوتة"، وهي جملة تختصر منطقاً استعمارياً يرى في خصوبة النساء الفلسطينيات تهديداً مؤجّلاً، ويحوّل أرحامهنّ إلى ساحات مواجهة، حيث يصبح الحمل نفسه فعلاً مقاوماً يستدعي العقاب.
منذ النكبة، كان استهداف أجساد النساء الفلسطينيات وجنسانيتهنّ جزءاً أصيلاً من منظومة القمع الإسرائيلية، التي لطالما نظرت إليهنّ بوصفهنّ تهديداً ديموغرافياً يجب تعطيله.
تجلّى هذا الاستهداف في صور ورموز علنية عبر فترات زمنية مختلفة، جاءت بما يُثبت الهوس الإسرائيلي بالخصوبة الفلسطينية والرغبة في الحدّ منها؛ ففي العدوان الإسرائيلي على غزة في 2008/ 2009، ارتدى جنود الاحتلال قمصاناً عليها صورة امرأة فلسطينية حامل تقَع في مرمى قناص إسرائيلي مع شعار "طلقة واحدة، قتيلان اثنان"، في إشارة إلى قتل الأمّ وابنها المحتمل.
وفي أيار/ مايو 2025، انتشر فيديو يظهر فيه جنود إسرائيليون يفجّرون منزلاً في غزة، ليهتف أحدهم عند انبعاث دخان أزرق: "إنه ولد"، في محاكاة ساخرة لطقوس الكشف عن جنس الجنين. هذان المشهدان يكشفان الهوس ذاته في تدمير الخصوبة الفلسطينية، سواء بالقتل والاستهداف المباشر، أو بزيادة معدلات الخصوبة الإسرائيلية لتكون خصوبةً مضادةً لخصوبة الفلسطينيات.
هذه الوقائع ليست حوادث معزولةً، بل حلقات ممتدة من النكبة وصولاً إلى حرب الإبادة الجارية في غزة اليوم. وفي هذه الحرب، ظهرت ملامح استهداف أجساد النساء الفلسطينيات بشكل أوضح وأجلى، عبر سياسات وممارسات متعددة طالت أرحامهنّ وجنسانيتهنّ، وهدفت إلى إعادة تشكيل حياة الفلسطينيات وسلب استمرارهنّ ومقاومتهنّ.
الإبادة الإنجابية
"الإبادة الإنجابية" هي استهداف قدرة النساء الفلسطينيات على الإنجاب بشكل ممنهج، عبر ضرب كل ما له علاقة بالولادة والرعاية بعد الولادة، وقد وصفت الباحثة حلا شومان، هذا النوع من العنف بـ"الإبادة الإنجابية"، لأنه يستهدف الحاضر والمستقبل معاً.
تتعرض الفلسطينيات إلى أنماط عنف جنسي ممنهج أثناء الاعتقال أو لدى مرورهنّ عبر الحواجز العسكرية، مثل التجريد من الملابس، واللمس القسري، ونزع الحجاب، والاعتداءات بأنواعها، لكن الأسوأ هو اعتبارهن هدفاً لتدمير الميزان الديموغرافي
مارس الاحتلال الإسرائيلي سياسة "الإبادة الإنجابية" خلال حرب الإبادة الجارية في غزة، بمظاهر عدة تمثّلت في الاستهداف والقتل المباشرَين للنساء، سواء بالغارات الجوية أو الإعدامات الميدانية، واستخدام النساء كدروع بشرية، وتعريضهنّ للتعذيب الوحشي والاعتداءات الجنسية، ما أسفر عن مقتل آلاف النساء وإصابة عشرات الآلاف، مع آثار نفسية شديدة على الناجيات، تشمل الاكتئاب المستمرّ، وصعوبة النوم، والتوتر المزمن، وكوابيس نتيجة القصف وفقدان الأمن داخل العائلة والمجتمع.
شملت هذه السياسة أيضاً استهداف المستشفيات ووحدات الولادة ومراكز حفظ الأجنّة ووحدات الإخصاب، ما أدى إلى تدمير مخزون آلاف الأجنّة وعيّنات الحيوانات المنوية والبويضات غير المخصبة. كما شملت حرمان النساء من المعدات الأساسية للرعاية الإنجابية، مثل الحاضنات وأجهزة الأشعة والفوط الصحية وأدوية تنظيم الحمل.
تضمنت السياسة كذلك أساليب التجويع التي هدفت إلى تقليل قدرة النساء الفلسطينيات على الإنجاب وخلق الحياة الجديدة، ومن ثمّ تقليل قدرة المجتمع الفلسطيني على الاستمرار.
الميزان الديموغرافي!
أظهرت حرب الإبادة الجارية في غزة، والموجودة بشكل مختلف في الضفة الغربية، حجم الممارسات المكثفة التي يشنّها الاحتلال على أجساد النساء وجنسانيتهنّ، من خلال أنماط عنف جنسي ممنهج تتعرّض له الفلسطينيات في أثناء الاعتقال أو لدى مرورهنّ عبر الحواجز العسكرية، مثل التجريد من الملابس، واللمس القسري، ونزع الحجاب، والاعتداءات الجسدية واللفظية الجنسية.
الإبادة الإنجابية... يراها الناس كنظرية وتعيشها الفلسطينيات كتطبيق. من استهداف الحمل والحوامل، إلى تدمير وحدات العناية الصحية، إلى حرمانهن من الإنجاب.
هدفت هذه الممارسات إلى إخضاع الفلسطينيات وإذلالهنّ، وكانت لها آثار مباشرة وبعيدة المدى على الصحة البدنية والإنجابية، مثل الالتهابات، وانخفاض وزن المولود عند الولادة، والولادة المبكرة، وفقدان الأجنّة من خلال الإجهاض، إلى جانب آثار نفسية طويلة الأمد.
امتدّ العنف الجنسي أيضاً إلى منظومة الاعتقال والسجون، حيث تعرّضت الأسيرات الفلسطينيات لممارسات هدفها فرض السلطة الإسرائيلية على أجسادهنّ والتحكّم بها، مثل الإهمال الطبي، والعزل الانفرادي، والاحتجاز، والعنف الجسدي والجنسي، وسوء التغذية، والتهديدات المستمرة بالاغتصاب.
أثمان لا تدفعها إلا النساء
أفضت الحرب الجارية في غزة، إلى تغيّر واضح في الأدوار الجندرية التقليدية، خاصةً بعد موجات التهجير والدمار الواسعة. فبحسب تقارير المؤسسات الحقوقية، فقدت 800،000 امرأة وفتاة منازلهنّ، واضطررن إلى البحث عن مأوى بديل وآمن، بينما تعرضت نسبة كبيرة منهنّ لتهجير متكرر، تراوح بين 8 و10 مرات. هذا الواقع فرض على النساء مواجهة تحديات لم يسبق لهنّ أن واجهنها، إذ أصبح عليهنّ التحرك ضمن أجواء الحرب المستمرة والتكيف مع فقدان الأمان والاستقرار الأسري.
برز التغير أكثر مع فقدان نساء معيلهنّ بعد استشهاد أكثر من 13،000 رجل، حيث دفعت هذه الأعداد الكبيرة للضحايا من الذكور، النساء إلى تجاوز الأدوار التقليدية، والقيام بمهام كان يُنظر إليها سابقاً على أنها ذكورية، مثل إعالة أسرهنّ، ونصب الخيام، وجمع الحطب، والوقوف في صفوف توزيع المساعدات والمياه العذبة، وتأمين الطعام والمال لأبنائهنّ.
حتى وإن عكست الحرب قدرة النساء على الصمود والتكيّف وسط تغيّر الأدوار التقليدية داخل الأسرة، لكنها أيضاً أظهرت الأثمان الباهظة التي تدفعها المرأة في الحروب، وتضاعف الأعباء النفسية والجسدية عليها
وحتى إن كانت هذه التغيّرات تعكس قدرة المرأة الفلسطينية على الصمود والتكيف، لكنّها توضح أيضاً الثمن الباهظ الذي تتحمله النساء في الحرب الجارية، من فقدان الأمان وتضاعف المسؤوليات، إلى الضغط النفسي والجسدي الناتج عن هذه الأدوار الجديدة.
في ظل الإبادة الجارية في غزة، لا تُعدّ العدالة الإنجابية مجرّد حق فردي للنساء الفلسطينيات، بل هي حق سياسي واجتماعي مرتبط بتحرر المجتمع الفلسطيني عموماً؛ فهي الطريقة الأساسية لمواجهة الاستهداف الممنهج لأرحام النساء وجنسانيتهنّ، وتمكينهنّ من السيطرة على أجسادهنّ وحياتهنّ الإنجابية، وضمان وصولهنّ إلى الرعاية الصحية والخدمات اللازمة للإنجاب والعيش بكرامة.
كما تشكّل هذه العدالة سلاحاً ضد محاولات الاحتلال طمس الوجود الفلسطيني وإفناء الأجيال، حيثُ إنّ حصول النساء عليها يُمثّل خطوةً أولى نحو كسر دائرة العنف الممنهج وبناء مجتمع قادر على الصمود والاستمرار برغم أصعب الظروف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.