بدأت القضية الفلسطينية بفرض وجود إنسان ومحاولة تهجير أو إنهاء وجود إنسان آخر. برغم ذلك، احتلّت الأرض، من بين الأقاليم الثلاثة التي تشكّل الدولة: الأرض، الشعب، السلطة، أهميةً كبرى، حتى باتت الوعود بتحرير فلسطين مرتبطةً حصراً بزيارة أراضيها.
إنّ فلسطين، منذ بدء الهجرة اليهودية وتنفيذ ما وُضع من مخططات، يمكن تحديدها حتى إذا تم احتلالها. لكن ديموغرافية فلسطين، وما تحمله من أبعاد، هي من استمرّت في الانحسار مع كل ما حصل ويحصل منذ ما قبل عام 1948. ومن سبّب ذلك إنسان آخر، مع ما يحمله أو تم تحميله إيّاه من قدرات في مختلف المجالات والمستويات.
الخصوبة والجسد
لعلّ مناقشة وجود الإنسان الفلسطيني من خلال مسارين، يتمحور الأول حول الخصوبة، والثاني حول الجسد الفلسطيني، وما يتعلق عليه من آمال في تثبيت كيانه من خلال قدرات مادية وفكرية ونفسية.
ومن هنا، لا بدّ من تحليل فعل الاحتلال الإسرائيلي على مستوى محاربة الخصوبة عند الفلسطينيين وإنهاك بنيته الجسدية، وما قامت به منذ ما قبل نشوئها في ما يتعلق بزيادة عدد الولادات وتحصينها.
وكدولة احتلال أوجدها الاستعمار، قامت إسرائيل بذلك باستخدام أساليب متنوعة، شملت أدوات ناعمةً أو غير مباشرة، وأخرى صلبة استعانت فيها بالسلاح والقتل بطرائق منهجية. فهل بات الإنسان الفلسطيني مهدداً بوجوده؟
الخصوبة والاستعمار... علاقة وظيفية
تمتلك السلطة في العصر الحديث، بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أدوات سيطرة على حياة الإنسان. وقد أطلق فوكو على إستراتيجيات التحكّم هذه اسم "البيو-بوليتيك"، وقد وضعها في قسمين: القسم الأول يركّز على توجيه قدرات الإنسان في نسق محدد، ووضعه تحت الرقابة واعتباره آلةً يتم استخدامها لتحقيق أهداف محددة، أما الثاني فيتعلق بخصائص الجسد، والتدخل في حياة البشر البيولوجية، وما يرتبط بها من ولادة ووفاة ومعدلات العمر.
وقد أوضح فوكو، أنّ السلطة هي أساساً من تُملي قانونها على الجنس، ما يعني أولاً أنّ الجنس يُوضع من قبل السلطة ضمن منظومة ثنائية (مشروع وغير مشروع، مسموح وممنوع). وقد ارتبطت السلطة الاستعمارية بهذا المفهوم، إذ سعت إلى التدخل في جزئيات حياة الشعوب المُستعمَرة، وحاولت التأثير عليها من خلال تشديد الالتزام بها أو تبديلها بمفاهيم وقيم وعادات وتقاليد أخرى، وكل ذلك مرتبط بمصالحها الآنية وبعيدة المدى.
تبدو الخصوبة كسلاح استعماري قديم وغير مرئي، الاحتلال الإسرائيلي مثلاً لم يكتفِ بالسيطرة على الأرض، بل دخل في أدق تفاصيل الجسد الفلسطيني؛ وسعى لمحاربة قدرته الإنجابية مقابل رفع معدلات الإنجاب عند الإسرائيليين
استُخدمت تلك السلطة في المستعمرات البريطانية والفرنسية، فعلى سبيل المثال شجعت فرنسا الإنجاب في بعض المناطق الإفريقية بسبب حاجتها إلى اليد العاملة في القرن العشرين، بينما كانت لندن تتّبع سياسةً تقوم على تنظيم السكان لأهداف اقتصادية وأخرى تتعلق بتحسين النسل.
وكمثال على التدخل في العادات الخاصة بالشعوب الأصلية، عملت بريطانيا على تشجيع ختان الإناث في كينيا، في وقت كانت تريد فيه تقييد جسد المرأة من خلال ضبط الخصوبة داخل إطار الزواج. ولكن في فترات أخرى، هاجمت الدولة الاستعمارية تلك الثقافة وعدّتها أعمالاً متخلّفةً، وكان ذلك في سياق تحويل ضبط الخصوبة من العادات والتقاليد إلى سلطة الدولة الحديثة في ظل إعادة تشكيل المجتمع وفق ثقافة جديدة.
أورد كارل أتمن، الباحث في التاريخ الحديث البريطاني، في كتابه A Problem of Great Importance، أنّ الديموغرافيا أصبحت ذات أهمية كبيرة في السياسة الاستعمارية البريطانية بعد تزايد القلق بشأن استقرار الحكم الإمبراطوري، وانخفاض معدل الولادات لدى البريطانيين.
كما أنّ الخصوبة حظيت بأهمية كبيرة في مؤتمر فرساي عام 1919، والذي حدد مصير فلسطين وغيرها من الأراضي بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرايخ الثالث في ألمانيا، أنشأ في عام 1935، مراكز "Lebensborn" لمساعدة النساء الحوامل على الولادة، وكانت هذه المراكز تقدّم خدماتها للنساء ذوات الأعراق "النقية" واللواتي سيلدن أطفالاً يحملون الصفات الآرية بالتحديد، وتحولت في ما بعد إلى تربية الأولاد الذين يمتلكون الصفات الآرية حسب البروباغندا النازية حتى وصل الأمر إلى انتماء هؤلاء إلى هذه الأماكن ورفضهم العودة إلى عائلاتهم.
أهمية الخصوبة في إسرائيل
سيطرت إسرائيل عام 2016، على أعلى مستوى من تقديم الخدمات المساعدة على الإنجاب، والتي تشمل الإخصاب في المختبر، وبلغت نسبة الولادات باستخدامها 4.7% من الولادات، وهي من بين أعلى النسب عالمياً.
وقد ركّز البعض على السمات حتى ذهب ويليام فيلدمان، المحاضر في الصحة العامة وفيزيولوجيا الأطفال في لندن، إلى أبعد من ذلك إذ صرّح بأنّ الديانة اليهودية تسمح بتعقيم المرأة إذا كان من المرجح أن تلد أطفالاً يحملون عيوباً جسديةً أو عقلية.
تحولت فلسطين إلى مختبر حيّ تُجرَّب فيه سياسات "البيو-بوليتيك"، أي جعل الجسد الفلسطيني تحت الرقابة والسيطرة وكأنه آلة.
حافظت إسرائيل على مستوى الخصوبة فيها برغم انخفاضه في دول العالم في السنوات الأخيرة، خاصةً منذ جائحة كورونا وما تبعها من أزمات اقتصادية، بل ارتفع هذا المعدل استثنائياً. ففي عام 2022، سمحت الحكومة الإسرائيلية بتوسيع الفئات التي تستفيد مما تقدّمه الدولة من تقنيات تساعد على الإنجاب لتشمل الأزواج من الجنس نفسه والعابرين جنسياً.
بالإضافة إلى ما سبق، تُعدّ الولادة عند اليهود الحريديم من العوامل التي تساعد على المحافظة على نسب الإنجاب المرتفعة، حيث يتراوح معدل الخصوبة عندهم بين ستة وسبعة أطفال لكل امرأة، وهذا ما يؤدي إلى أن تتضاعف نسبة الحريديم من سكان إسرائيل تقريباً في كل جيل، وفق ما يشير إليه دان بن دافيد، وهو اقتصادي في جامعة تل أبيب ومعهد شورِش للأبحاث.
كما يبلغ معدل الخصوبة نحو ثلاثة أطفال لكل امرأة من غير الحريديم، والتي تُعدّ منفتحةً على العمل أكثر من النساء عند الحريديم، وهذا المعدل مرتفع بالمقارنة مع نساء دول أوروبية تتقارب إسرائيل معها من ناحية التطور العلمي.
ينبع التمسك بالخصوبة من تداخل القومية والانتماء إلى العائلة والدين في إسرائيل لإنتاج هوية يحمل الفرد مسؤوليةً تجاهها، وفي شأن الولادة، على المرأة الإسرائيلية واجب عليها تأديته من خلال إنجاب عدد من الأطفال لا طفل واحد فقط، إذ "تدين المرأة بتقديم تبريرات للمجتمع إذا أنجبت أقل من ثلاثة أولاد".
الخصوبة في ميدان الصراع
وصف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، رحم المرأة العربية بأنه سلاحه الأقوى. في المقابل، عبّر بنيامين نتنياهو قبل أن يصبح رئيساً للوزراء عن أسفه من الفارق بين معدلات الولادة بين العرب والإسرائيليين، ورأى أنه يشكّل تهديداً لإسرائيل. فهل عالجت إسرائيل هذا التهديد؟
على الرغم من حجم الأحداث والمحطات التي شهدتها أطول فترة حكم لرئيس وزراء في تاريخ إسرائيل، إلا أنّ مواجهة الخصوبة عند الفلسطينيين لم تبدأ خلال حكم نتنياهو. فمنذ أن كانت فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، ومع بدء الهجرة اليهودية إليها، كانت الأطراف المشتركة في عملية تمهيد احتلال فلسطين أرضاً قد بدأت بالتحرك لاحتلال الوجود الخاص بالشعب الفلسطيني.
تشرح فرانسيس هاسو، البروفيسورة في جامعة ديوك، في كتابها Buried in the Red Dirt، كيف تم استخدام الصحة العامة، وعلم السكان، وأفكار تحسين النسل كأدوات لإعادة البنية السكانية للمشروع الاستيطاني خلال فترة الانتداب.
ففي تلك الفترة، جذبت المؤسسات الصحية اليهودية الجزء الأكبر من الاستثمارات البريطانية في فلسطين على حساب الخدمات المقدمة للفلسطينيين. انعكس هذا الإهمال على البيانات الصحية والديموغرافية الخاصة بالفلسطينيين، والتي تشمل الولادات والوفيات على عكس تلك المتعلقة بالإسرائيليين والتي كانت تتّسم بالدقة.
كانت الإحصاءات في فلسطين تحكمها العنصرية، فبحسب الكتاب لم تكن الحكومة الاستعمارية تسجل سبب المرض أو الوفاة إلا إذا حدّده طبيب وتم إبلاغ ضابط الصحة في المدينة المعيّن من قبل البريطانيين، برغم سوء الخدمات الصحية للفلسطينيين وتعدد المراكز الخاصة باليهود.
وتخلص الكاتبة إلى أنّ الاستعمار الصهيوني الاستيطاني كان وما زال مشروعاً ديموغرافياً يهدف إلى تهجير السكان الفلسطينيين الأصليين.
لم يتوقف الاحتلال عند القتل والحصار، بل وصل إلى استهداف الخصوبة بشكل ساخر ومرعب، كما حدث عام 2009 حين ارتدى جنود إسرائيليون قمصاناً عليها شعارات تسخر من الأرحام الفلسطينية وتدعو لتقليل الحمل
من جهة أخرى، برزت في العقود الأخيرة مبالغة في تقدير أعداد الفلسطينيين في فلسطين وخارجها. ففي لبنان، نُشر أول إحصاء رسمي للفلسطينيين المقيمين في 21 كانون الأول/ ديسمبر عام 2017، وقد بلغ عدد الفلسطينيين بحسب هذا الإحصاء 174،422 فقط، وليس نحو 500،000 كما كان يُقدَّر سابقاً من قبل بعض الجهات، بما في ذلك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).
وتظهر هذه المبالغة أيضاً في إحصاءات الإدارة المدنية الإسرائيلية التي تعمل تحت إشراف وزارة الدفاع -وقد تقلصت صلاحيات الجانب العسكري فيها لتسهيل عمليات الموافقة على توسيع الاستيطان والتغيير الديمغرافي- وقد سهّل ذلك الظهور المفاجئ للأغلبية اليهودية في فلسطين من خلال الفارق الذي تظهره المقارنة بين الأعداد الحقيقية وتلك التي كان يتم نشرها.
هذه العملية تحقق مصالح اليمين المتطرف في إسرائيل، إذ يستخدم هؤلاء الأعداد غير الدقيقة لتبرير أفعالهم تجاه مواجهة الفلسطينيين، بعد بثّ الخوف بين الإسرائيليين من هذه الأعداد.
الحرب حدّ فاصل؟
ما ورد سابقاً يشير إلى استخدام أدوات غير مباشرة لمحاربة الخصوبة عند الفلسطينيين، وما تشهده غزّة من قتل وحصار مباشرَين يوحي بأن الاحتلال يختفي بتمرير المخططات بطرق غير مباشرة خلال فترات التهدئة، بينما يستخدم العنف في أثناء الحروب فقط. فهل تُعدّ الحرب حدّاً فاصلاً بين ما يتجه الاحتلال إليه من أساليب؟
في أثناء الهدوء النسبي، وتحديداً قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لم تكن الخدمات الجنسية وخدمات الصحة الإنجابية تتوافر لنحو 94،000 امرأة في غزة بحسب تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
باتت المواجهة على هذا الصعيد تدخل في سياق الحياة اليومية، فقد تفرّعت تدخلات الاحتلال في حق الفلسطيني الإنجابي لتصل إلى الأسرى في سجون إسرائيل، إذ تُطبَّق الممارسات العنصرية داخل جدران هذه السجون، فتسمح دولة الاحتلال بالزيارات الزوجية للسجناء الإسرائيليين، بينما تمنع ذلك عن الأسرى الفلسطينيين السياسيين والأمنيين.
ويدفع ذلك العائلات الفلسطينية إلى اتخاذ قرار بالإجماع بتهريب نطف الأسير الفلسطيني الذي تطول مدة سجنه، حتى إذا خرج من السجن لم يكن باستطاعته الإنجاب بسبب تقدّم عمر زوجته أو لأسباب أخرى. وتتسم هذه العملية بالسرّية والتكلفة المرتفعة، حيث تتم من خلال التقنيات المساعدة على الإنجاب والتي تكلّف آلاف الدولارات.
أمّا خلال الحرب، فقد جرى تدمير معظم المستشفيات والمراكز الصحية وكل ما يقدّم من خدمات يمكن أن تستفيد منها النساء الحوامل والأطفال، لتصبح غزة مكاناً يصعب فيه الإنجاب. فحتى عام 2024، عانت أكثر من 177 ألف امرأة من مخاطر تهدد حياتهنّ خلال فترة الحمل، وكان الاحتلال قد هاجم بشكل مباشر الحمل خارج أجساد النساء من خلال استهدافه مركز البسمة الذي يقدّم خدمة الإخصاب خارج الجسم، ما أدى إلى قتل 5،000 روح داخل المركز.
وفي هذا السياق، قال صندوق الأمم المتحدة للسكان إنه يتم استهداف منظومة الصحة في غزة بشكل منهجي، ما يشكل وضعاً لا يُحتمل بالنسبة للأمهات والأطفال.
منذ بداية الحرب الحالية وحتى 30 تموز/ يوليو 2025، قتلت إسرائيل أكثر من 60،000 فلسطيني في غزة، بلغت نسبة النساء والأطفال منهم نحو 47%، بحسب وزارة الصحة في غزة.
وعلى الرغم من أنّ خشونة الحرب والعنف الذي تتسم به من خلال استخدامها للأسلحة، إلا أن تأثيرها لا يقتصر فقط على هذا النحو، بل يمتد ليشمل استهداف البنية الجسدية والنفسية عند الفلسطينيين، من خلال ما تنتجه الحرب من ظروف يلعب الحصار والتجويع والتوتر والاعتقال دوراً مهماً فيها يؤثر على الخصوبة عند الفلسطينيين.
وبالعودة إلى الحرب على غزة عام 2009، أنتج أفراد كتائب إسرائيلية خلال الحرب قمصاناً مكتوبةً عليها شعارات معادية للخصوبة عند الفلسطينيين وتستهدف النساء الحوامل بشكل خاص، وكانت أبرز الشعارات: "طلقة واحدة هدفاً"، و"أراهن أنك اغتُصِبْتِ"، و"من الأفضل وضع واقٍ"، في إشارة إلى التقليل من الحمل والتأثير نفسياً على النساء باتهامهنّ بعدم شرعية الحمل.
السلطات الاستعمارية تاريخياُ استخدمت سياسات ديموغرافية للتحكم بالشعوب، وهو ما نراه عبر استثمارات تمييزية عزّزت الخدمات الصحية لدى الإسرائيليين وأضعفتها للفلسطينيين.
وهذا ما ينقلنا إلى نتائج الحرب على صعيد الضغط النفسي، وحتى التجويع واستخدامهما من أجل التأثير على البنية النفسية للفلسطينيين.
لا تقتصر نتائج الحرب على ذلك فقط، فالحصار والتجويع والضغط النفسي من العوامل ذات التأثير المباشر على الخصوبة والقدرات الجسدية. من أهم ما توصّل إليه الفيلسوف وطبيب الأعصاب النمساوي فرويد، هي الثنائية التي يعتمد عليها الإنسان بشكل أساسي للنجاة، وتتشكل هذه الثنائية من الطعام والجنس، اللذين يحتاجهما الإنسان ليبقى على قيد الحياة.
في غزة، استهدف الاحتلال هذه الثنائية بشكل مباشر وغير مباشر، تاركاً من لا يزال على قيد الحياة أمام مصير حصار يؤدي إلى فقدان الطعام، ويترك البشر الحاليين والمستقبليين من الأطفال الذين سيولدون أمام ضعف في الخصوبة والبنية النفسية والجسدية لدى والديهم أو عندهم على صعيد الجسد.
والتجويع قادر على التأثير على الإنجاب، الذي يعتمد بشكل أساسي على ما يؤمّنه الطعام من بنية جسدية ونفسية قوية، وتالياً فإنّ عدم توافر ذلك يؤدي إلى ضعف القدرة الجنسية وانخفاض معدل الولادات.
كما أنّ التلوث الناتج عن القصف، وما لذلك من نتائج على الطعام والهواء، يؤثر على الصحة الجسدية عند الفلسطينيين. فبحسب ما صرّح به محمد أبو العفش، مدير الإغاثة الطبية في مدينة غزة ومحافظة الشمال، تضرر من ذلك التلوث واحد من بين أربعة أطفال حديثي الولادة خُلِقوا بتشوّهات جسدية.
وبالعودة إلى البنية النفسية، فإنّ تعرّض هذه البنية لأضرار عند الفلسطينيين خلال هذه الحرب، بل حتى في أوقات التهدئة، يؤثر بشكل مباشر على الخصوبة عندهم. إذ إن هناك علاقةً وثيقةً بين التوتر والقلق، وبين تراجع الرغبة الجنسية، وذلك بحسب دراسة نُشرت في مجلة Oxford Academic، وتشير الدراسة إلى أنّ التأثير يمتد لـ14 يوماً لدى رجال ونساء أصحّاء، فكيف إذا كانوا تحت الحصار والقصف!
إن فقدان أحد العنصرين اللذين يشكّلان الثنائية التي تكلّم عنها فرويد يؤثر بشكل مباشر على نسبة الولادات.
تهديد وجودي
تنخفض معدلات الخصوبة في دول العالم منذ سنوات، لكن هذا لا ينطبق على إسرائيل. وقد يبدو الأمر غريباً إذا ما ربطناه بالأسباب التي أدت إلى أزمات الخصوبة في بقية الدول، لأننا سنجد أنّ هذه الأسباب موجودة أيضاً لدى دولة الاحتلال، كالأزمة الاقتصادية التي أثّرت على العالم منذ جائحة كورونا.
تسيطر إسرائيل على معدلات الخصوبة عند مواطنيها والشعب الذي تحتلّ أرضه، فهي لا تنظر إليها كأمر شخصي يخصّ المواطنين، بل تسعى إلى ربطها بالقومية والانتماء إلى المجتمع اليهودي. وبات الإسرائيليون يتعاملون مع الإنجاب على أنه واجب لا بد من تأديته للدولة والمجتمع.
ويوظّف الاحتلال قدراته من أجل تفكيك القدرات والبنى الاجتماعية لدى الفلسطينيين من خلال القتل، والحصار، والاعتقال، وتدمير بنية الإنسان الجسدية والنفسية. وما يشهده الفلسطينيون في غزة يمثّل عمليةً واسعةً لإنهاء الوجود الفلسطيني، ليس فقط عبر ما يُعلن عنه من رغبة في التهجير.
فبعد تجويع المواطنين في غزة، وإمدادهم بغذاء لا يساعد على بناء جسد قادر على مواجهة الظروف الصعبة، وبعد قتلهم وتفكيك أسرهم، وإحداث صدمات نفسية عميقة، وتدمير المستشفيات ومراكز الفكر من جامعات ومراكز أبحاث، يبدو أنّ الإنسان الفلسطيني يواجه تهديداً وجودياً شاملاً، جسدياً ونفسياً، وفكرياً بالطبع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.