في كتابه "فقه الجهاد"، يستعرض الراحل يوسف القرضاوي، أسباب وموجبات الذهاب إلى "عمليات استشهادية"، وفق توصيفه، ضد العدو. وخلال هذا الاستعراض، يضع لنا تنبيهَين لا بدّ من الأخذ بهما عند التعامل مع فتواه التي تُبيح هكذا نوع من العمليات، وهما:
الأول، أنّ هذه الفتوى تخصّ تحديداً أهل فلسطين، لطبيعة العدو الذي يتعاملون معه، باعتباره مغتصباً لحقوقهم وأرضهم، وأنه لا يجوز تعميم هذه الفتوى لتشمل الدول العربية، وذلك لأنّ القتل ساعتها سيكون قتل مسلمين لمسلمين آخرين، ولأنّ القاتل والمقتول "في النار" إذا كانا مسلمَين، فتجنّب الوقوع في هذه الحفرة لا بدّ أفضل وأنجى للنفس.
أما التنبيه الثاني، وهو ليس أكثر من "خط رجعة" للشيخ في حال اضطر إلى ذلك، فهو أنّ الله أغنى أهل فلسطين عن هذا النوع من العمليات حين امتلكوا الصواريخ التي بإمكانها أن تدكّ العمق الإسرائيلي وتوقع فيه الخسائر المرجوة.
المثير للاهتمام في فتوى القرضاوي، وفي تنبيهاته المدعومة سببيّاً، أنه لم يتطرّق إلى الفائدة المرجوّة من هكذا عمليات، أو إلى ما يمكنها أن تعود به من نتائج إيجابية على المشروع الفلسطيني التحرّري، أو حتى على الإسلام والمسلمين ورسالتهم الكونية. في هذه الفتوى وغيرها، السبب هو الدافع عادةً لا النتيجة، وهذا بالتحديد ما يميّز التفكير السياسي عن التفكير الديني. ففي حين يأخذ التفكير السياسي النتائج المرجوة لأيّ عمل مهما كان صغيراً، يضع التفكير الديني السبب على رأس أولوياته دون التفكير في النتائج.
في حين يأخذ التفكير السياسي النتائج المرجوة لأي عمل مهما كان صغيراً، يضع التفكير الديني السبب على رأس أولوياته دون التفكير في النتائج. ما الذي تقوله "عملية القدس" عن فكر حركة حماس في هذا الشأن؟
لماذا لا يفكر الشيخ في النتيجة؟ الجواب سهل وليس بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة؛ لأنّ النتيجة النهائية عند الله في السماء وليست على الأرض. أنت تفعل ما تفعله ولا علاقة لك بما سينعكس على الآخرين من حولك. إن كان ما تفعله صحيحاً فجزاؤك الجنّة، وإن كان خطأ فعقوبته جهنم، هكذا يفكّر. ولهذا السبب بالتحديد، يتم تقييم "العمليات الاستشهادية" -من حيث الصحة والخطأ- بما ألحقته من ضرر بالعدو، ومن ضمان الجنّة للمنفّذ، أما من سيتركهم خلفه فالله كفيل بهم.
وفيما يجري تقييم هذا النوع من العمليات بكمية الضرر الناتجة عنها في صفوف العدو، يبقى السؤال: من يقرر حدوث "الضرر" من عدمه في النهاية؟ أو كيف يتم احتساب كمية الضرر؟ وما المعيار الذي يتم بناءً عليه الرضا أو الخيبة؟ لا أحد يعلم الإجابة بشكل قاطع، إلا أنه يمكننا تخمينها من اللغة المعتمدة بعد العملية، والتي عادةً ما تشير إلى "تشفّي صدور المؤمنين"، متبوعةً بعبارة "انتقاماً للقائد فلان" أو "ردّاً على مجازر العدو بحق شعبنا".
الثأر لا خدمة القضية
إنه الثأر إذاً، الثأر والانتقام لشخص ما أو حدث ما، وكلما كانت قيمة الشخص الذي يتم الثأر له كبيرةً، ويحظى بمكانة عالية أو رتبة مرموقة، كان الثأر أقسى. وهنا لا حديث عن حقوق الشعب المحتلّ، ولا عن مطالب تخصّ حلاً سياسياً، ولا حتى عن فلسطين ذاتها، إلا باعتبارها غلافاً برّاقاً يعطي لفكرة الثأر قيمةً "وطنيةً" متصوّرةً، وبالتأكيد لا يتمّ استدعاؤها إلا في اللحظات الحرجة، وللدفاع في وجه الإدانات العالمية.
من أجاد ويجيد لعبة الانتقام هذه على الساحة الفلسطينية؟ إنها حركة حماس بالتأكيد، أو على الأقل هي من بدأتها. فهي المُنتَج المثالي لفكر القرضاوي، وفتاواه الجهادية، وهي الممثّل الطبيعي للإسلام السياسي الذي يجاهد "في سبيل الله" لا من أجل دولة فلسطينية. وهي من زرعت في صفوف جمهورها تقبّل فكرة قتل "المدنيين" مستفيدةً بالأساس من سهولة وشرعنة قتل المدنيين الفلسطينيين على أيدي الجيش الإسرائيلي.
برغم كل التحفّظات من شرائح كبيرة من الفلسطينيين على هذا النوع من "الجهاد"، وبرغم أنه لا يليق بنا كحركة تحرّر رأسمالها الأساسي عدالة قضيتها، والأخلاقيات التي يجب أن تتمتّع بها كل قضية عادلة، وبرغم برهنة الكثير من العمليات من هذا النوع على أنه لا "إنجازات" من ورائها، بل زيادة البطش الإسرائيلي، والدخول في دوامة من الدم لا تنتهي، وبرغم ما تسبّبت فيه هذه العمليات من تشوّهات، استطاع اليمين الإسرائيلي أن يستغلّها ويروّج لنفسه من خلالها كضحية للإرهاب، برغم ذلك كله، كانت الملاحظة الأساسية على هذه العمليات، ولا تزال، عنصر التوقيت.
كيف بدأ هذا "الجهاد"؟ ومتى؟
في عام 1992، كان مؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، في السجن الإسرائيلي. حينها قامت مجموعة من عناصر الحركة باختطاف جندي إسرائيلي يُدعى نسيم توليدانو، وطالبت بمبادلته بالشيخ ياسين، مهددةً بقتل الجندي ما لم ينفَّذ طلبها.
رفضت إسرائيل الخضوع لهذا الطلب، فقام الخاطفون بتنفيذ تهديدهم وقتلوا الجندي الأسير. ردّت إسرائيل باعتقال أكثر من 400 كادر من قيادات الحركة وقامت بنفيهم إلى مرج الزهور في لبنان. ردّاً على هذا النفي، قام المهندس يحيى عياش، بتجهيز سيارة وتفجيرها في شمال الضفة الغربية المحتلة. ثم بعد اتفاق أوسلو، استمر في السير على هذا النهج، وذلك بتجهيز سيارات مفخخة وإرسالها إلى العمق الإسرائيلي، إلى أن صار اسمه يتردّد على كل لسان بوصفه "أخطر مطلوب لإسرائيل".
في بداية 1996، قامت إسرائيل باغتيال عياش، فأطلقت حماس سلسلةً من عمليات التفجير تحت عنوان "الثأر المقدّس"، أوقعت خلالها عشرات القتلى الإسرائيليين، بينما كانت عملية السلام تسير بصعوبة، وتتعطّل مع كل عملية، ومع كل ردّ وردّ مقابل.
آنذاك، احتدّ النقاش الفلسطيني الفلسطيني حول جدوى هذه العمليات وتوقيتها، حيث كان واضحاً أنها تتم مع كل تقدّم في مسيرة المفاوضات، إلى درجة أنّ بعض قادة حماس اعترفوا في تصريحات لاحقة بأنها كانت موجّهةً ضد العملية السلمية وضد أوسلو.
أما الجدوى والعائد، فلم يكونا أكثر من تقديم مبرّرات للحكومة الإسرائيلية، أمام العالم وأمام مجتمعها، للتنصّل من استحقاقات الاتفاقات الموقّعة بين الطرفين، ما تسبّب في إحراج القيادة الفلسطينية أمام المجتمع الدولي من جانب، وتزامن معه رفع مستوى التطرّف والانزياح نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي من جانب آخر.
في العام 2000، فشلت مفاوضات الحلّ النهائي المنعقدة في منتجع كامب ديفيد، ما تسبّب في اندلاع الانتفاضة الشعبية الثانية التي عمّت كل تجمّعات الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة، والتي سمّاها الرئيس الراحل ياسر عرفات، وذلك كما نُقل على لسانه: انتفاضة تحريك لا تحرير، أي أنّ الرجل كان يهدف من خلال هذا التحرّك الشعبي إلى أن يضغط على إسرائيل وعلى الأطراف الراعية للمفاوضات من أجل تحقيق مكتسبات أكثر مما هو معروض.
لكن حماس سارعت إلى استغلال الحالة الشعبية الغاضبة، وبدأت مجدّداً بإرسال "الاستشهاديين" إلى العمق الإسرائيلي، الأمر الذي اتخذه الجيش الإسرائيلي ذريعةً لاجتياح المدن الفلسطينية وتدميرها، ثم بناء الجدار العازل حول الضفة الغربية، والانسحاب من عملية السلام، وقتل الرئيس الفلسطيني، وصولاً إلى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإلى الإبادة الإسرائيلية لكل ما في غزة من بشر وحجر، وفي الوقت الذي تنصبّ فيه جهود أطراف فاعلة عدة في الملف الفلسطيني على إيقاف هذه الإبادة، وعلى منع امتدادها إلى الضفة الغربية، وفي اللحظة التي مالت فيها كفّة التضامن العالمي لصالحنا، نحن الفلسطينيين، ما تجلّى في قرارات دول وازنة ومهمة في أوروبا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية نهاية أيلول/ سبتمبر الجاري، وفي ذروة الإدانات اليومية لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، وتعريتها كحكومة فاشية من قِبل الجميع باستثناء حليفها الأمريكي.
كيف استفاد نتنياهو ورفاقه من "عملية القدس"؟ تلقّفوا العملية وكأنها جاءتهم على طبق من ذهب، ليتملّصوا من الضغوط الداخلية والخارجية، ويحققوا العديد من المكاسب وجميعها سياسية
خلال هذا كله، تعلن حماس تبنّيها "عملية القدس"، التي قُتل فيها ستة إسرائيليين كانوا على متن حافلة، بالإضافة إلى المنفّذَين الفلسطينيين.
هنا، لا بد من طرح السؤال المزمن أمام هكذا عمليات: ما الذي تحقّق للفلسطينيين من هذه العملية؟ وما الذي استفاده نتنياهو ووزير ماليته المتطرّف بتسلئيل سموتريتش؟ الجواب من دون تفكير طويل: لقد انتقمنا ولو بشكل بسيط، وأشفينا صدور قوم مؤمنين، وأخفنا الإسرائيليين، وزدناهم قناعةً بأن لكل جريمة ثمناً، وأثبتنا أنّ شعلة الجهاد لا تخبو برغم كل القتل والحصار...
جيّد! لكن كل هذا يدخل في باب المعنويات، دون الحصول على مكتسبات سياسية.
أما السؤال عن استفادة نتنياهو ورفاقه من الأمر، فقد تلقّفوا العملية، وكأنها جاءتهم على طبق من ذهب، ليتملّصوا من الضغوط الداخلية والخارجية، ويطلقوا العنان لجيشهم للتنكيل بالقرى التي خرج منها المنفّذان، وزادوا من حصارهم للضفة الغربية ومن تقطيع أوصالها، ولم يتوقّفوا ولو للحظة عن تدمير غزة، بل زادوا من وتيرة ذلك، وهاجموا كل الدول التي تنوي الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووصفوها بأنها "داعمة للإرهاب"، وزادوا من تماسك حكومتهم ومن التفاف جمهورهم حولهم، إلى ذلك من مكتسبات جميعها سياسية.
الغريب أنّ هذه العملية تأتي بعد سنوات من مراجعات حماس وتخلّيها عن هذا النوع من العمليات، لأنّ ضررها أكثر من نفعها، حسب ما أقرّت الحركة في العام 2017.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.