أمن دول الخليج يمرّ من واشنطن... لكن مصداقية الولايات المتحدة على المحك

أمن دول الخليج يمرّ من واشنطن... لكن مصداقية الولايات المتحدة على المحك

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 16 سبتمبر 202511 دقيقة للقراءة

تقول الرواية "الرسمية"، والراوي هو مسؤولون أمريكيون، إن إسرائيل لم تبلّغ الولايات المتحدة بنيّتها توجيه ضربة لقادة حركة حماس في الدوحة قبل تنفيذها في التاسع من أيلول/ سبتمبر. وتقول رواية داعمة لها إن الأمريكيين عرفوا قبل وقت قليل من وقوع الواقعة لأن "أجهزة الاستشعار الأمريكية الفضائية التي ترصد بصمات الحرارة بالأشعة تحت الحمراء التقطت عملية الإطلاق ومسار الصواريخ"، وعرفت أن وجهتها العاصمة القطرية.

ما لم تقله الرواية الداعمة التي وردت في تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" هو: لماذا لم تطلق المنظومات الدفاعية الأمريكية صواريخَ تعترض الصواريخ الهجومية المرصودة المتجهة نحو دولة حليفة تقدّم للولايات المتحدة الكثير، وجزء من هذا الكثير احتضانها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وهي قاعدة العديد حيث مقرّي القيادة المركزية الأمريكية والقيادة المركزية للقوات الجوية الأمريكية.

يطرح هذا الأمر تساؤلاً: هل دفاع القوات الأمريكية الموجودة في قطر عن سيادة الدولة التي تستقبلها مرتبط بهوية المهاجم؟ فقبل أقل من ثلاثة أشهر، وبالتحديد في 23 حزيران/ يونيو، رأينا الصواريخ الاعتراضية وهي تتصدى لصواريخ أطلقتها إيران باتجاه الإمارة الخليجية وتفجّرها في سماء الدوحة كأنها مجرّد ألعاب نارية.

قدّمت دول الخليج للولايات المتحدة في العقود الأخيرة أكثر مما طلبت، من استثمارات إلى مشتريات أسلحة إلى احتضان قواعد عسكرية أمريكية، وكل هذا لم يؤدِّ إلى ضمان واشنطن لاستقرار المنطقة ومنع الاعتداءات عليها

مصداقية واشنطن على المحك

"مع تحطم السلام مرتين في غضون ثلاثة أشهر، أتصوّر أن الناس في الخليج بدأوا يشككون في مصداقية الولايات المتحدة كشريك أمني"، تقول السفيرة الأمريكية السابقة في قطر دانا شل سميث.

صحيح أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعرب عن انزعاجه من قصف قطر مشيراً إلى أنه "لا يخدم أهداف إسرائيل أو أمريكا"، كما اتصل برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وطلب منه عدم ضرب الإمارة الخليجية مرة أخرى، وصحيح أن واشنطن وقّعت على بيان أصدره مجلس الأمن أدان "الضربات الأخيرة في الدوحة" وتضامن مع قطر بدون أن يسمّي إسرائيل، ولكن خلاصة الموقف الأمريكي عبّر عنها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو من إسرائيل أثناء زيارته لها في 14 أيلول/ سبتمبر، عندما أعلن أن بلاده لن تعيد تقييم دعمها لإسرائيل.

قدّمت دول الخليج للولايات المتحدة في العقود الأخيرة أكثر مما طلبت، من استثمارات إلى مشتريات أسلحة إلى احتضان قواعد عسكرية أمريكية، وكل هذا لم يؤدِّ إلى ضمان واشنطن لاستقرار المنطقة ومنع الاعتداءات عليها.

وفي ولاية ترامب الحالية، كما في ولايته السابقة، ضاعفت دول الخليج تقديماتها للولايات المتحدة مرات عدّة. كانت هذه الدول تعتقد أن لديها علاقة خاصة مع ترامب، تقوم على أساس قدرتها على تقديم صفقات تجارية له، كما يرى الباحث في سياسات الشرق الأوسط في "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" حسن الحسن، آملة أن يؤدي ذلك إلى "تشكيل تصوّراته وسياساته". لكن سقوط الصواريخ الإسرائيلية في قلب الدوحة قوّض تلك الآمال.

يدفع ما جرى القطريين إلى "التشكيك في قيمة الشراكة مع الولايات المتحدة"، تقدّر الباحثة في "معهد دول الخليج العربية" في واشنطن كريستين ديوان وتضيف: "هذه مشكلة حقيقية بالنسبة إلى قادة الخليج. ويجب أن تُقلق الولايات المتحدة أيضاً".

يضاعف القلق الخليجي أن الدولة المعتدية هذه المرة هي حليف وثيق للولايات المتحدة، وبالتالي من المفترض أنها تمون عليها، خاصة أن أمن إسرائيل كله يعتمد بشكل وطيد على واشنطن التي تزودها بالأسلحة والذخائر وتدعمها بالمنح المالية والعسكرية.

استهداف الدوحة أعاد إحياء الشعور الخليجي بالخيبة من الولايات المتحدة، وهو شعور اختبَرَته الرياض في العام 2019 عندما تساقطت صواريح الحوثيين وطائراتهم المسيّرة المنطلقة من اليمن على منشآت تابعة لشركة أرامكو في بقيق وهجرة خريص في المنطقة الشرقية من السعودية.

ورغم اتهام المملكة إيران بالمسؤولية عن الهجوم، وهو ما تقاطع مع التقديرات الأمريكية وقتها، لم تجد الرياض ما كانت تنتظره من دعم أمريكي في هكذا موقف، لا بل وجدت العكس، إذ خرج ترامب ليقول إن بلاده لن تهاجم إيران وإن على السعودية أن تدافع عن نفسها، و"إذا كانت هناك حماية منّا للسعودية فإنه يقع على عاتقها أيضاً أن تدفع قدراً كبيراً من المال... إذا ما قررنا اتخاذ أي إجراء، عليهم أن يدفعوا، وهم يفهمون ذلك جيداً".

هذه التجربة، وما تلاها من إعلان واشنطن في شباط/ فبراير 2021 إنهاء دعمها للعمليات الهجومية التي ينفّذها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، دفعت السعودية إلى إعادة تقييم سياستها الخارجية، فاندفعت باتجاه تصفير مشاكلها، أقله المباشرة، مع إيران، وتجلى ذلك في اتفاق مصالحة بين البلدين جرى التوصل إليه في آذار/ مارس 2023 برعاية صينية.

وفي العام 2022، تجرّع الإماراتيون من نفس الكأس عندما استهدف الحوثيون مستودع نفط تابع لشركة بترول أبو ظبي الوطنية ومنطقة قيد الإنشاء في مطار العاصمة الإماراتية. دفعهم الأمر إلى نفس الاستنتاج: الاستقرار يحتاج إلى تحسين العلاقات مع إيران، فـ"الانفتاح على إيران في كل الظروف هو السياسة، وهو الاستراتيجية، وهو المسار المستقبلي"، بحسب تعبير الأكاديمي الإماراتي المتخصص في العلوم السياسية عبد الخالق عبد الله.

إضافة إلى هذه التجارب المباشرة، ارتاب قادة دول الخليج من تجربة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتخلي واشنطن عن حلفائها وتركها لهم لقمة سائغة في فم حركة طالبان، كما ارتابوا أكثر من تعاطي الولايات المتحدة مع الأزمة الأوكرانية وظهورها بمظهر التاجر الذي لا يُعتمد عليه في الضرّاء، وارتابوا أيضاً مؤخراً عندما شاهدوا كيف شنّت إسرائيل هجوماً على إيران في وقت كانت الأخيرة تتفاوض مع الولايات المتحدة.

الطريف في ما جرى أن الصواريخ الإسرائيلية انفجرت في الدوحة في وقت كانت قطر تشارك في تدريبات تقودها القوات الأمريكية على الأراضي المصرية، وتجمع إلى جانب الدولة المضيفة دولاً أخرى، من بينها السعودية أيضاً.

كانت دول الخليج تعتقد أن لديها علاقة خاصة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تقوم على أساس قدرتها على تقديم صفقات تجارية له، آملة أن يؤدي ذلك إلى "تشكيل تصوّراته وسياساته"، لكن سقوط الصواريخ الإسرائيلية في قلب الدوحة قوّض تلك الآمال

لا بديل عن الولايات المتحدة

لكن...

لا بديل عن الولايات المتحدة يمكن أن تعتمد عليه دول الخليج لحماية أمنها واستقرارها وهذا جزء من سوريالية المشهد: مهما فعلت الولايات المتحدة ستبقى دول الخليج في الوقت الحالي وفي الأمد المنظور تندفع بنفسها للاعتماد عليها.

"المأساة هي أن دول الخليج ليس لديها بديل جيد لضمان دفاعها وأمنها"، يقول حسن الحسن، مضيفاً أن الصين وروسيا لا تُعتبران بديلين موثوقين، وهذا ما يجعل "الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة متجذراً بعمق، ومن الصعب الانفصال عنه".

يلخص عبد الخالق عبد الله المعضلة الخليجية بقوله: "أعتقد أننا عالقون في عالم أحادي القطب. هناك قوى صاعدة منافسة، لكن واشنطن لا تزال هي التي تملي القرارات إلى حد كبير".

هذا الواقع هو ما دفع قطر إلى المسارعة إلى نفي تقرير نشره موقع "أكسيوس" الأمريكي في 11 أيلول/ سبتمبر، نقل عن مسؤول أمريكي أن رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أبلغ مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف أن بلاده بعد تعرّضها لهجوم من إيران ثم من إسرائيل خلال فترة قصيرة "ستجري تقييماً عميقاً لشراكتها الأمنية مع الولايات المتحدة"، "وربما تجد شركاء آخرين" يمكنهم دعم أمنها عند الحاجة. النفي القطري جاء في بيان أصدره مكتب الإعلام الدولي، أشار إلى أن "الشراكة الأمنية والدفاعية بين دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية أقوى من أي وقت مضى وستستمر في النمو".

ووصل آل ثاني إلى الولايات المتحدة في 12 أيلول/ سبتمبر والتقى بترامب ونائبه جي دي فانس وروبيو ومسؤولين آخرين. ونقلت وكالة "رويترز" عن "مصدر مطّلع على الاجتماع" أن آل ثاني ناقش مع روبيو وفانس قضية "التعاون الدفاعي" بين البلدين.

وكان ترامب قد وجّه روبيو في يوم الضربة بتسريع المناقشات مع قطر بخصوص عقد اتفاق أمني بين البلدين ترغب فيه الإمارة الخليجية، في سياق سعيها إلى الحصول على ضمانات أمنية أمريكية واضحة تحميها.

وفي أيار/ مايو، أثناء زيارة ترامب إلى قطر، وقّعت الدوحة وواشنطن "بيان نوايا لتعزيز شراكتهما الأمنية، يُحدد استثمارات محتملة تتجاوز 38 مليار دولار، تشمل دعم تقاسم الأعباء في قاعدة العديد الجوية، ودعم القدرات الدفاعية المستقبلية المتعلقة بالدفاع الجوي والأمن البحري"، بحسب مستند نُشر على موقع البيت الأبيض. وجاء إعلان النوايا هذا في سياق توقيع اتفاقية واسعة بين البلدين "تُسهم في تعزيز التبادل الاقتصادي بينهما بقيمة لا تقل عن 1.2 تريليون دولار"، ومن "صفقات اقتصادية تجاوز مجموعها 243.5 مليار دولار".

نظرة إلى المستقبل

ذكر ترامب قطر كثيراً في خطاباته بعد الضربة وكال لها حلو الكلام كثيراً ولكن كيف نعرف إذا كان الكلام سيقترن بفعل؟ 

ترى الباحثة في "مجموعة الأزمات الدولية" ميراف زونشتاين أن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كان ترامب جاداً في التصدي لـ"وقاحة" إسرائيل، فضلاً عن إصلاح العلاقات مع دول الخليج هي إذا "قام بكبح نتنياهو وأنهى الحرب في غزة" وتضيف: "في غياب ذلك، ستظل الرسالة نفسها: بإمكان إسرائيل أن تفعل ما تشاء، والولايات المتحدة ستوفر الذخيرة".

لا بديل عن الولايات المتحدة يمكن أن تعتمد عليه دول الخليج لحماية أمنها واستقرارها وهذا جزء من سوريالية المشهد: مهما فعلت الولايات المتحدة ستبقى دول الخليج في الوقت الحالي وفي الأمد المنظور تندفع بنفسها للاعتماد عليها

ترسم دول الخليج كل سياساتها واستراتيجياتها ورؤاها لمنطقة الشرق الأوسط ومستقبلها على أساس توفير الأمن والاستقرار فيها لا على أساس خوض حروب. ولهذا اندفعت اثنتان منها إلى توقيع اتفاقيتي سلام مع إسرائيل وكانت دول أخرى تفكر في الالتحاق بركب مسار اتفاقيات أبراهام.

"كان الهدف من الاتفاقيات دمج إسرائيل كشريك متساوٍ في المنطقة"، يقول الباحث الزائر في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورجتاون الأمريكية خالد الجندي. لكن بدلاً من ذلك، تتصرف الدولة العبرية كقوة مهيمنة، ما تَسبَّبَ للدول الخليجية بما يصفه الجندي بـ"ندم المشتري".

تشعر دول الخليج بأن إسرائيل لا تعمل على ملاقاتها في منتصف الطريق الذي تشاركوا في رسمه للمنطقة، وبأنها تتمادى في سياسات تأخذ المنطقة إلى عكس ما خُطط له، ومن هنا أتى تحذير الإمارات، على لسان المبعوثة الخاصة لانا نسيبة، في الثاني من أيلول/ سبتمبر، من أن قيام إسرائيل بضم أراضٍ من الضفة الغربية بشكل أحادي يشكّل "خطاً أحمر" لبلادها، ومن شأنه "تقويض فكرة التكامل الإقليمي"، ما فسّره البعض على أنه تهديد بالانسحاب من اتفاقيات أبراهام.

ويمكن قراءة البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الاستثنائية المنعقدة في الدوحة في 15 أيلول/ سبتمبر للرد على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف قادة من حركة حماس في قلب العاصمة القطرية على ضوء هذا التهديد، وربما يكون ورقة القوة الوحيدة بيد دول الخليج بشكل خاص والدول العربية والإسلامية بشكل عام.

أتى البيان باهتاً وأشبه بما يمكن أن يصدر عن منظمات حقوقية، إذ اكتفت 57 دولة عربية وإسلامية بالاستنكار و"حث المجتمع الدولي" على ردع إسرائيل! ولكن النقطة الوحيدة ذات الأهمية فيه هي النقطة الأولى التي جاء فيها أن الاعتداء على قطر والممارسات الإسرائيلية في فلسطين وعلى رأسها "جرائم الإبادة الجماعية" في غزة، "يهدد كل ما تم إنجازه على طريق إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، بما في ذلك الاتفاقات القائمة والمستقبلية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image