تضاربت روايات الإعلام الإسرائيلي حول ضربة الدوحة إلى حدّ خلط التخمين بالمعلومة، قبل أن تميل التغطية اليوم إلى قدر من التماسك. لكن الاحتفال سريعاً والافتراض المسبق بنجاح ضرية الدوحة حتى قبل أي إعلان رسمي من أيٍّ من الأطراف، عكسا نوعاً من التخبط الذي ما لبث أن تحوّل إلى تبادل للاتهامات.
فور الإعلان عن العملية، سارعت هيئة البث الإسرائيلية، إلى افتراض نجاح الضربة، مشيرةً إلى أنّ خيار مهاجمة قطر لم يكن وليد الساعة، بل طُرح داخل المؤسسة الأمنية بعد يوم واحد من 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
لكن بعد مرور حالة النشوة الأولية بسبب أنباء النجاح الافتراضي لعملية قصف الطيران الإسرائيلي اجتماع قادة حماس في الدوحة بالأمس، وبعد تصريحات رسمية احتفائية غامضة، بدأت الشكوك في نجاح عملية التصفية تتوسع، وتصاعدت لهجة التصريحات السياسية والاتهامات المتبادلة بـ"مقامرة" غير موفّقة.
في المحصلة، يرى كثيرون في إسرائيل أنّ الرسالة السياسية، سواء نجحت العملية أو فشلت، عبّر عنها معظم الإعلام الإسرائيلي على لسان وزير الحرب يسرائيل كاتس، حين قال: "اليد الطويلة لإسرائيل ستعمل ضد أعدائها في كل مكان… إذا لم تقبل حماس شروط إسرائيل لإطلاق الرهائن ونزع السلاح فسيُباد قادتها وستُدمَّر غزة". فهل وصلت الرسالة كاملةً أو منقوصة؟
لم تفشل بالأمس أحلام كاتس فقط، بل فشل الإعلام الإسرائيلي الذي عانى من بحث محموم عن "سبب" للفشل الأمني، أيضاً.
تبادل الاتهامات عبر التسريبات
بعد ساعات من عدم تأكيد اغتيال القيادات، بدأت التفسيرات تتخبط داخل الصحافة الإسرائيلية، بين من يلقي اللوم على الحكومة، ومن يلقيه على الولايات المتحدة.
الموساد -المعروف تاريخياً باستحواذه على ملف الاغتيالات- حرص على التصريح عبر تسريبات بعدم مسؤوليته عن العملية، وبأنه لم يوافق عليها، وبأنها من تخطيط الشاباك، لتعود تصريحات أخرى وتتحدث عن مسؤولية مشتركة بين الموساد وبقية المؤسسات.
يرى لازار بيرمان في "تايمز أوف إسرائيل" أن الضربة على الدوحة قد تفتح الباب أمام انتقال مركز الوساطة من قطر إلى مصر، إذ يقدّر أن القاهرة قد تصبح اللاعب الأساسي في أي تسوية لاحقة
من جهتها، قدّرت القناة 7، أنّ تسريباً أمريكياً أضرّ بالعملية، بعد أن أبلغت تل أبيب واشنطن عقب العملية بأنّ حظوظ النجاح متدنية، وأنّ الضربة لم تلبِّ التوقعات. وهو أيضاً ما نقلته القناة 12، عن مصدر مسؤول، بأنّ النجاح "مشكوك فيه"، وأنّ "درجة التفاؤل تراجعت".
وفي مقال له في "تايمز أوف إسرائيل"، رأى الكاتب لازار بيرمان، في تحليله، أنّ الضربة قد تفتح الباب أمام قيادة حمساوية أكثر مرونةً تحلّ محل المتشدّدين، خاصةً مع انتقال مركز الوساطة المحتمل إلى مصر. كما قد تمنح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، "صورة نصر" طال انتظارها في حال تأكد نجاحها. في المقابل، أشار بيرمان إلى مخاطر تتعلق بملف الرهائن واحتمال ردّ قطري سياسي أو اقتصادي ضد إسرائيل، لذا تبقى حصيلة العملية برأيه العامل الحاسم في مدى تحقق هذه المكاسب أو المخاطر، حيث لا يزال الغموض يكتنف نتائجها الفعلية.
استدراج؟… لكن من قام به؟
صحيفة "إسرائيل هيوم"، نشرت تحليلاً ليوآف ليمور، شرح فيه أنّ القرار باستهداف قيادة حماس في الدوحة استند إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية: أولها فرصة استخبارية نادرة تمثّلت في اجتماع غير اعتيادي لقادة حماس يمكن عبره ضربهم مجتمعين، وثانيها قناعة إسرائيلية متزايدة بصعوبة التوصل إلى تفاهمات مع قيادة حماس في الخارج، والمترفة بمعزل عن معاناة غزة. أما الثالث، فهو قيمة الردع المتحققة من كسر محظور ضرب هدف على أرض قطر التي لطالما عُدّت "خارج الحدود" نظراً إلى دورها الوسيط ومكانتها الدولية.
فكرة الاستدراج إلى الاجتماع، وندرة لقاء جميع قيادات حماس في مكان واحد، تكررت في أكثر من تحليل إسرائيلي، لكن من الذي قام بهذا الاستدراج وطلب لقاء القيادات؟
بالتوازي، حذّر ليمور من تبعات محتملة على ملف الرهائن جرّاء هذه الخطوة، مرجّحاً أن تبقي إسرائيل قناة الدوحة مفتوحةً للاستخدام في المراحل اللاحقة من المفاوضات برغم كل شيء.
فكرة الاستدراج إلى الاجتماع، وندرة لقاء جميع قيادات حماس في مكان واحد، تكررت في أكثر من تحليل، لكن يبقى السؤال: من الذي قام بهذا الاستدراج وطلب لقاء القيادات؟ هل هي الولايات المتحدة الأمريكية؟
ربما، ففي صحيفة "يسرائيل هيوم" مال الكاتب إيتاي إلناي، في تحليله، إلى فرضية أنّ ما جرى ربما كان "خدعةً مدبّرةً لاستدراج قادة حماس إلى اجتماع واحد"، وأنّ العملية عكست تحولاً في نهج نتنياهو نحو الجرأة العملياتية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد سنوات من الحذر والتردد العسكريين.
وربط إلناي، بين هذا التحول وبين نفاد صبر إسرائيل (والولايات المتحدة) تجاه دور قطر المزدوج، كوسيط من جهة ومضيف لقيادة حماس من جهة أخرى، ثم خلص إلى أنّ الجرأة غالباً ما أثمرت لإسرائيل في السابق، مع التحفظ بأنّ الحكم النهائي على العملية سيبقى مرهوناً بنتائجها الفعلية. كما أكد أنّ كسر "الخطوط الحمراء التقليدية" كاستهداف قيادة عدو في عاصمة بعيدة، بات نهجاً إسرائيلياً ثابتاً في هذه الحرب.
نظرية رفع الحصانة عن قطر
صحيفة "جيروزالم بوست" كانت من أكثر وأسرع المحتفلين بالضربة على افتراض نجاحها، واستخدم الكاتب هيرب كينون، في مقاله، استعارة "الأخطبوط والمرجان" ليؤكد أنّ الرسالة المركزية لضربة الدوحة هي نزع حصانة قطر كمأوى آمن لقيادة حماس، "فـإذا كانت حماس هي الأخطبوط، فإن قطر كانت الشعاب المرجانية التي تتخفى فيها، والآن لم يعد هناك ملاذ آمن".
توقع كينون أن تؤدي العملية إلى تضييق مساحة الحركة أمام قيادات حماس في الخارج، وإلى تداعيات على دور قطر كوسيط إقليمي، كما أشار إلى أنّ هذا التطور يندرج ضمن تحول أوسع في معادلة الردع الإقليمية لصالح إسرائيل، وهو "إظهار أنه لا مكان محصناً أمام ضرباتها" وفق كلماته.
أما سيث فرانتزمان، فوضع الضربة في سياق تاريخي لعلاقة استمرت نحو ثلاثة عقود بين الدوحة وقيادة حماس. وكما فعل كينون، استخدم أيضاً مصطلح "الحصانة"، مشيراً إلى أنّ إسرائيل أنهت هذا الامتياز الذي تمتعت به قيادة حماس في قطر طوال تلك المدة، إذ طالهم الاستهداف المباشر بعد طول أمان. ورجح أن يتأثر دور الوساطة القطري حتماً، كونها قد تلقت ضربةً لمكانة "الوسيط المحصّن" على حد تعبيره.
يرى هيرب كينون في "جيروزالم بوست" أن الضربة الإسرائيلية هي لإيصال رسالة مفادها أن الدوحة لم تعد مكاناً محمياً لقيادات حماس، ما يحدّ من مساحة حركتها ويفرض تداعيات مباشرة على دور قطر كوسيط
وفي الصحيفة نفسها، أشار الكاتب زفيكا كلاين، إلى أنّ الضربة مرتبطة بتعثّر مفاوضات الرهائن التي كانت جاريةً، معتبراً أنها رسالة بأنّ إسرائيل لن تقبل بعد الآن وتيرة التفاوض البطيئة التي تمليها حماس وبيئتها الحاضنة. ويعتقد كلاين أنّ العملية قد تؤدي إلى تجميد قصير للمسار التفاوضي، يعقبه استئناف بوساطة مصرية أقوى، تحت ضغط الواقع الجديد الذي خلقته الضربة، وهو واقع تحاول فيه إسرائيل فرض قواعد تفاوض جديدة أكثر تشدداً مع حماس.
لا مبالاة بالعواقب ومغامرة خطرة
في "هآرتس"، لم يرَ عاموس هرئيل، في مقاله، ملامح الانتصار، بل كتب أنّ قصف الدوحة يمثل تصعيداً إستراتيجياً من جانب إسرائيل، لكنه ينمّ أيضاً عن لامبالاة بالعواقب الدبلوماسية والإنسانية. فـ"الضربة -برغم ما قد تحققه من مكاسب ردعية أبعد من أهداف إسرائيل التقليدية- تنطوي على مغامرة خطرة قد تعرّض حياة الرهائن للخطر وتنسف قناة الوساطة القطرية التي كانت إحدى آخر المسارات الدبلوماسية المفتوحة".
وفي "هآرتس" أيضاً، جادل الكاتب جوناثان ليس، بأنّ بمقدور ضربة إسرائيل في الدوحة أن تمنح نتنياهو "صورة النصر" التي يتوق إليها داخلياً. وهي برأيه "ليست مجرد خطوة معزولة بل ربما تدشّن حملةً أوسع لتفكيك بنية قيادة حماس في الخارج".
اعتبر عاموس هرئيل في "هآرتس" أن قصف الدوحة هو تصعيد بلا ملامح نصر، وينطوي على مغامرة قد تعرّض حياة الرهائن للخطر وتنسف الوساطة القطرية.
وأشار إلى أنّ الرسالة تتجاوز الاستهداف الآني لتؤسس لمعادلة جديدة مفادها أنّ قادة حماس لن يجدوا ملاذاً آمناً في أي مكان، حتى في دول كانت تُعدّ تقليدياً خارج نطاق التصعيد. كما تطرق إلى أنّ الضربة تُثير تساؤلات حول مستقبل الوساطة: فمع إخراج قطر (جزئياً على الأقل) من المعادلة، يبرز دور مصر المرجّح في أي صفقة قادمة بعد تغيير قواعد اللعبة.
نقل القرار من قادة الخارج إلى الداخل
أما في "يديعوت أحرنوت"، فرجّح الكاتب آفي يسخاروف، أن يكون للضربة أثر قوي على هيكلة القرار داخل حركة حماس نفسها، وقد وصفها بأنها "خطوة مشروعة ومبرَّرة كان ينبغي القيام بها منذ زمن بعيد".
ورأى يسخاروف، أنّ مكانة قطر كوسيط منحت قيادة حماس في المنفى حصانةً زائفةً، وأنّ النتيجة المرجحة الآن هي نقل مركز الثقل من الدوحة إلى غزة، بحيث تصبح الكلمة العليا لقادة حماس داخل القطاع بينما تتصدر مصر دور الوسيط الأساسي.
من جهته، طرح الكاتب ليران فريدمان، في الصحيفة نفسها، رؤيةً مشككةً في جدوى العملية، إذ رأى أنّ قتل قادة حماس لن يُنهي الحرب ولن يُعيد الرهائن: "حتى لو افترضنا جدلاً نجاح تصفية العقول المدبّرة الرئيسية لحماس في الخارج، فإنّ الحرب لا تُظهر أي مؤشر على الانتهاء والرهائن ما زالوا في خطر".
وحذّر فريدمان من أنّ الضربة ربما تطيل أمد النزاع وتزيده دمويةً، إذ قد تدفع قيادة حماس المتبقية إلى مزيد من التعنت والقتال حتى الرمق الأخير، بدلاً من الرضوخ بفعل الصدمة، كما نبّه إلى أنّ توسيع ساحة المعركة لتشمل قطر -التي ليست في حالة حرب مع إسرائيل- يعني أيضاً المجازفة بقطع أحد خيوط التفاوض القليلة المتبقية، ويبعث رسالةً بأنّ إسرائيل ستستخدم القوة في كل مكان حتى لو قوّض ذلك المساعي الدبلوماسية المستقبلية لإنهاء الحرب.
ما وراء العملية… تسريبات الصحافة من المسؤولين
في خضم التغطية الإعلامية الإسرائيلية، ظهرت تفاصيل مهمة حول خلفيات العملية وطريقة تنفيذها، منها أنّ القرار بتنفيذ الضربة سبق أحداث أمس في القدس وغزة. بحسب إذاعة الجيش، لم تكن العملية ردّ فعل مباشراً على هجوم القدس أو تطورات غزة الأخيرة، بل جرى تسريع خطة الهجوم بشكل ملحوظ خلال الأسابيع والأيام الأخيرة.
العملية كانت مستقلةً تماماً وبادرت إليها إسرائيل ونفّذتها منفردةً -أي من دون مشاركة أمريكية مباشرة- وتحمّلت مسؤوليتها الكاملة. ويشير خبر "تايمز أو إسرائيل"، إلى أنّ الجانب الإسرائيلي اختار سرّياً عدم إطلاع واشنطن مسبقاً على توقيت الضربة لتفادي تسريبات أو ضغوط قد تمنع التنفيذ.
أما توقيت التنفيذ فكان معلّقاً، وتحدّد بناءً على فرصة استخبارية سانحة: توافر معلومة عن اجتماع لقادة حماس في مكان وزمان محددين، بحسب "إسرائيل هيوم". وعندما توافرت هذه الفرصة، كانت الخطة جاهزةً وأُعطيت الأوامر فوراً.
وأفادت التسريبات في التقرير نفسه، بأنه عندما تبنّت حماس عملية القدس قبل يوم واحد من الضربة، كانت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي بالفعل في الأجواء وعلى بعد دقائق من توجيه الضربة، أي أنّ العملية كانت قيد التنفيذ بالتزامن مع الحدث ولم تكن نتيجةً له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.