تلتصق الروائية السورية نجاة عبد الصمد في رواياتها السبع ببيئتها، وواقع مدينتها التي تنطلق منها لتلامس الواقع السوري العام والصعب مع المحافظة على خصوصية المدينة، وهو ما نلاحظه أيضاً في روايتها "أيتام الجبال" الصادرة حديثاً عن دار ضفاف ودار سامح والاختلاف.
تتميز الرواية بجرأة الاقتراب من البيئة الدينية لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، بغية تحريض الوعي عبر سرد التجارب الناجحة في الخروج عن التقليد الأعمى والميل للانفتاح وتحطيم القيود التي ولدت خلال تزاوج التعاليم الدينية مع الإرث الاجتماعي من العادات والتقاليد، عبر الأحقاب التاريخية في مجتمع ذكوري متسلط لتصبح أكثر قسوة، وتتحول إلى قيود تكبل الأجيال المتوثبة لمواكبة العصر، وتحدد لهم الممنوع والمسموح، و تمنح المحيط قوة جمعية لعزل الخارج عن الطاعة المفروضة، في ما يسمى بـ"البُعدة"، وهي آلية من آليات النبذ والعزل الاجتماعي.
تقول الروائية عبد الصمد -على حسابها في "فيسبوك"- إنها بدأت بكتابة الرواية منذ ثلاثة عشر عاماً قبل الإصدار إلى أن استلبتها البطلة "سبيل" لتكتب ما تمليه عليها، استناداً إلى قول الشاعر أمجد ناصر: "لا يولد فجر من دون جرح". ذلك ما يلتبس على القارئ منذ الإهداء، فيشعر أن الرواية سيرة ذاتية، وتجري الأحداث على لسان سبيل، البطلة التي تأخذ دور السارد العليم وتتحدث بلسان الكاتبة، فتروي حكايات كثيرة فرعية ترفد الحكاية الأصلية، من ِسير الجدات والأجداد والعمات والخالات والأخوال وكل ما يصل إليها، وكأنها الخيوط التي تجتمع لحياكة النسيج الأصلي لحكاية حياة سبيل بنت حسين رافع الشيخ الفقير والعامل الكادح وتشكل معها نهراً من التداعيات والذكريات والمشاعر الجياشة.
يجري كل هذا في سرد حميمي يتنقل بين مكانين وزمنين مختلفين؛ موسكو التي تصل إليها البطلة لتدرس الطب كطفلة تتهجى المكان، وبين السويداء حيث طفولتها الأولى، فيتوازى السرد بين الحاضر وبين الماضي الذي تستعيده بالخطف خلفاً، يتنحى أحد المكانَين ليعيد الآخر إلى واجهة الحدث، ويتنقل السرد بين زمنَيه وأمكنته بخفة أدبية ورشاقة تنسحب على طول الرواية.
تُعيد الرواية رسم معاناة الإنسان في مواجهة تقاليد قاسية، حيث تصبح قصة "سبيل" مرآةً تعكس صراع الأجيال بين الرغبة في التحرر وعبء الانتماء إلى مجتمع يختزل الحرية
كمن ينحت بالصخر. كسرت قيداً بعد قيد، وبدأت تشق طريقها نحو العالم، من بيئة قروية مثقلة بالفقر والعادات. رغم ذلك، حققت نجاحاً بعد آخر، وهي تحارب على جبهات عدة؛ فقد عملت بجهد كبير في الأرض والبيت، وحملت شقاءً ثقيلاً، إلى أن تفوقت دراسياً لتردّ اعتبارها أمام نظرات الاستعلاء في مجتمع المدينة، والنفور الاجتماعي بسبب لباسها التقليدي. عانت من نظرات دونية من زميلاتها، فزاد ذلك إحساسها بالعزلة التي أرهقتها. ولكي لتخفف عن نفسها، ابتكرت شخصيتين خياليتين: سميرة والفرس. معهما كانت تبث مكنونات نفسها، وتحاكم أمامهما من يسببون لها الألم.
رغم تعنيف الأهل، تابعت سبيل تعليمها تحت ضغط تفوقها. هذا التفوق جلب لعائلتها عداء "الأجاويد"، تلك الفئة المنغلقة التي تنتمي إليها العائلة، والتي أوقفت حياتها للالتزام الديني، فتفرض على الفتيات التوقف عن الدراسة بعد الصف الخامس. لذلك تضاعف عداء آنسة الدين لها ولأختها، فهي تنظر بتعالٍ إلى الطالبات ذوات الأصول الفلاحية حتى لو كنّ من "الأجاويد" أنفسهم. ومع كل صدام بين والد سبيل والجماعة بسبب تعليمها، كانت هي تدفع الثمن قسوةً وتعنيفاً. أما الأم، الضحية بدورها، فقد أضافت إلى معاناة بناتها قسوةً أخرى، إذ عاقبتهن بحرمانهن من الحنان، محاولةً أن تخفي نقصها بسبب تأخر المولود الذكر.
ورغم كل ذلك، واصلت سبيل نجاحها حتى حصلت على منحة لدراسة الطب في موسكو. المفاجأة أن والدها وافق، ورأى في الأمر امتحاناً من الله. هكذا انطلقت بعيداً، تحمل عالمها الصغير إلى أرض جديدة.
نعيش مع سبيل ذلك الصراع الداخلي الضاغط حيث تتقاذفها أمواج الرغبة بالانعتاق مع جلد الذات بإثم التسبب بالأذى لأسرتها، وتلك المشاعر المختلطة التي تعيشها في الغربة ومحاولة التعافي من الماضي. بينما في المجتمع الجديد تتضاعف الغربة مع جهل اللغة وافتقاد لحميمية الأسرة.
تضيء نجاة البيئة التي صعدت منها سبيل والأبعاد الاجتماعية والسياسية التي قادت الطائفة إلى الانزواء، والمحافظة على عالمها الروحي، وخصوصيتها عبر التاريخ، ومنح لتعاليمها سلطة القوانين، وهو ما يشابه وضع الأقليات عموماً؛ تنقسم الطائفة إلى مجموعات متمايزة (الأجاويد والجهال الجسمانيين) يتم التفضيل بينها وفق الالتزام بسلوكيات تأتي من المكانة الدينية، يضاف إليها التمييز الطبقي والحضري بين الريف والمدينة. فيشكل ذلك شبكة معقدة من التناقضات والأحكام التي تسيطر على الجبل المهمل تاريخياً، وتحكم حياة أبنائه الذين يضرسون بعد أن أكل الأجداد حصرم السياسة والاختلاف.
حكمت على أبناء الجبل عزلةً طويلةً ثاراتهم مع المحيط المختلف طائفياً، وتاريخ المواجهات السياسية مع السلطات المتعاقبة. هذا التهميش دفعهم إلى الانغلاق، والتشبث بسرية تعاليمهم كوسيلة للمقاومة وحماية الذات.
منذ تمردهم على إبراهيم باشا، مروراً بصدامهم مع السلطة العثمانية التي عزلتهم، ثم مجاعة 1905 حين منع جمال باشا دخول القمح إلى الجبل، صار المكان ملجأً للثوار. الأمر يتكرر في ذاكرتنا مع لجوء ثوار درعا إلى السويداء أثناء الانتفاضة ضد النظام.
لاحقاً نشب خلافهم مع الرئيس أديب الشيشكلي الذي اتهمهم بالخيانة، وأرسل الجيش لمحاربتهم. لكن سلطان باشا الأطرش رفض مواجهة جيش بلاده وغادر إلى الأردن. ومع ذلك انتهى الأمر باغتيال الشيشكلي على يد نواف غزالة في البرازيل. ثم جاء غضب نظام الأسد الأب بعد محاولة انقلاب سليم حاطوم.
هكذا صار "أيتام الجبال" هم أبناء جبل العرب، أيتام الوطن الذي خاصمهم سياسياً، وأيتام العاطفة التي قست عليهم الحياة وتعاليمها. فالحب، كما قال الشيخ حسن رافع، لله وحده.
تُجسد حياة "سبيل" رحلةَ بحث عن الذات وسط تداخل الحبّ، الألم، والتمرد، فتروي رواية "أيتام الجبال" قصة امرأة تكسر الجدران لتشق طريقها بين عالَمين
توغل نجاة عبد الصمد صاحبة "لا ماء يرويها" التي نالت جائزة كتارا عام 2018 في تحليل البيئة الاجتماعية وبنية المجتمع ذي الخصوصية الروحية والفكرية. وتحدثنا خلال ذلك عن عاداته الخاصة في طريقة القَسَم والصيام وعدم زيارة القبور والاحتفال بالأيام العشرة التي تسبق عيد الأضحى.
أظهرت التناقض داخل هذه التعاليم؛ فالمرأة تُعتبر صنو الرجل في العقل كما يقول التنوخي، لكنها في الواقع تخضع لقرار الرجل. كما بيّنت سلسلة الحرمانات التي عانت منها المرأة تاريخياً في مجتمعاتنا الشرقية، والتي ما زالت تتعرض فيها لجرائم الشرف كردّ على خروجها عن الطوق والعادات.
الموحدون ليسوا استثناءً عن هذا، رغم تأكيدهم على العقل. لكن الرجل يشارك المرأة صعوبات مواجهة هذه القيود، ووالد البطلة شاهد على ذلك.
تأخذنا عبد الصمد إلى الأمكنة التي تنتقل فيها، وتخبرنا عن وضعها العام وكيف تأثرت بها، فمن دمشق التي جرفتها بفورة الفكر اليساري وفتحت أمامها أبواب القراءة والسينما، إلى الاتحاد السوفياتي الذي عاشت فيه سبع سنوات من أجمل سنين حياتها قبل انهياره، مشيرة إلى حجم الخلل الذي كان يتسع وحجم التغيير الحاصل جراء الانهيار.
تنتقل "سبيل" في الفصول الأخيرة من الرواية من محاكمة الشخصيات التي تشابكت حياتها معهم إلى تقييم وتحليل الدوافع والظروف ومن العتب إلى التصالح والتفهم، وذلك عبر فهم الذات والأبعاد النفسية والاجتماعية للواقع الضاغط، فترى أنهم جميعاً ضحايا مثلها، وترى أخطاءهم تأتي في السياق الاجتماعي العام؛ فقد ساعدها وعيها الجديد على وضع يدها على الجروح الغائرة في الروح بعد أن غير الزمنُ الكثيرَ، حتى أن والدها يفخر بها بعد ما حققته من نجاح رافقها في بلاد السوفيات، وصار مثارَ حديث يتناقله العائدون من هناك.
تتشابه رحلة سبيل مع رحلة بطلة رواية "ميثاق النساء" للروائية اللبنانية حنين الصايغ، والتي تناولت واقع حياة القرى الدرزية في جبل لبنان، وبين جبل العرب وجبل لبنان قرابة الدم والمعاناة، وهي القرابة التي أشارت إليها عبد الصمد في الرواية عبر علاقات القرابة والأصول.
تعتني نجاة بلغتها الجميلة والشاعرية مع العواطف الحارة، كأن تقول عن جدها الذي يرغم نفسه على أكل التفاح من يد حفيداته: "يأكل ببطء وكسل كمن يغصبه الحب على فعل ما لا يريد"، أو حين تصف تعلقها بوالدها فيؤلمها مكان الجرح الذي أصابه أثناء الحلاقة.
"أيتام الجبل" سرد شيق حميمي لحياة شاقة لأبناء الجبل، وإشادة بإرادة الإنسان القادرة على تحطيم الأسوار والخروج إلى النور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.