رغم كل ادعاء العالم المتحضر ونحن في القرن الحادي والعشرين حول رعايته للإبداع والفكر والفن واحترامه للتراث الانساني واحتضانه للإنجاز الثقافي، ما زالت الأحداث تكشف زيف هذه الحضارة وعدم مصداقيتها تجاه الأفكار التي تنادي بها، إذ تكيل بمكيالين وتؤكد عدم استقلاليتها وخضوعها للسياسة؛ فها هي اليوم تحجب جائزة لابيراتور (liberatur preis) المقدمة من جمعية "litprom" عن الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، والتي كانت قد فازت بها، ومن المقرر أن تقدم لها في معرض فرانكفورت للكتاب في 20 تشرين الأول/أكتوبر الجاري ضمن حفل تكريم، وأن تشارك الكاتبة في ندوات المعرض.
وقد نالت شبلي الجائزة عن روايتها الأخيرة "تفصيل ثانوي" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية عام 2021، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الأدب الدولية التي تمنحها دار ثقافات العالم في برلين. والجدير بالذكر أن الكاتبة كانت قد نالت جائزة مؤسسة عبد المحسن القطان عن روايتيها السابقتين "مساس" و"كلنا بعيد عن الحب بذات المقدار".
حُجبت جائزة لابيراتور (liberatur preis) عن الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي لروايتها "تفصيل ثانوي" والتي كان من المقرّر أن تُقدم لها في معرض فرانكفورت للكتاب
عدنية شبلي كاتبة فلسطينية من مواليد الجليل عام 1974، نالت أستاذية فريدريك دورينمات الضيف في جامعة برن في سويسرا، وتعمل محاضرة في كلية الدراسات الثقافية والنظرية النقدية في جامعة نوتينغهام في لندن.
حصل لغط شديد حين أعلن عن فوزها بالجائزة لموضوع الرواية التي اعتبرها الإعلام الغربي تحمل معاداة السامية وتصور اليهود كقتلة ومغتصبين، لكن لجنة التحكيم قالت عنها: "ابتكرت عملاً فنياً مكتوباً بشكل رسمي ولغوي صارم يعبر عن قوة الحدود وما تفعله النزاعات العنيفة بالناس"، لينتهي المطاف بحجب الجائزة عنها حالياً بعد أحداث "طوفان الأقصى".
و الرواية (تفصيل ثانوي) تعتمد على اكتشاف الكاتبة لمصادفة ميلادها في يوم وقوع جريمة اغتصاب فتاة فلسطينية بدوية من قبل جنود الاحتلال في معسكر في صحراء النقب. وذلك عام 1949، ومن ثم قتلها ودفنها في الصحراء.
وتؤكد شبلي أن الجوهر في هذه الرواية يكمن في التفاصيل الصغيرة التي دائماً ما تكون عصية عن التقليد ولهذا تكشف الاحتيال كمحاولة تقليد الأعمال الفنية. ويبدو أنها على حق، فمصادفة منحها الجائزة في فترة تشتعل فيها المنطقة، وتُقصف غزة بأبشع انواع الأسلحة رداً على طوفان الأقصى، جعلها تفقد الجائزة، ولعل هذا التفصيل هو جائزتها الحقيقية.
رواية "تفصيل ثانوي" تجري على قسمين؛ الأول هو يوميات الجنود والضابط المسؤول عنهم في المعسكر الذي وضع له مهمة ترسيم الحدود مع مصر ومنع المتسللين من اختراقها وتمشيط القسم الجنوب غربي من النقب، وتنظيفه من العرب، كما يقومون بمناورات لتدريب الجنود على القتال في ظروف الصحراء.
تنوعت ردود الأفعال بعد حجب الجائزة عن الكاتبة عدنية شبلي، فأعلنت هيئة الشارقة للكتاب مقاطعتها لمعرض فرانكفورت إثر ذلك.
أما القسم الثاني فيدور بعد 25 عاماً حيث تقرأ الكاتبة تحقيقاً صحافياً لكاتب يهودي عن تلك الجريمة المرتكبة في المعسكر، فتسعى هي لاكتشاف ملابسات الجريمة، ومن أجل ذلك تسافر باتجاه المكان محاولةً تقصي الحقيقة.
تخبرنا الكاتبة في هذه الأثناء كيف يعيش فلسطينيو الداخل في ظروف لا إنسانية، حيث البلاد مقسمة إلى مناطق معزولة، وكيف تغيرت الجغرافيا جراء الاحتلال، فهناك قرى كثيرة اندثرت ولم يعد لها وجود. كما في منطقة كانت تحوي عشرات القرى الفلسطينية تذكر أسماءها لنرى أن مكانها يقوم اليوم منتزه واسع يسمى "منتزه كندا" في محاولة لمحو الذاكرة، وقرى تغيرت أسماؤها، ونرى تلك الحواجز التي انتقلت من الجغرافيا إلى داخل الإنسان ليصبح الخوف رفيقه ويصبح سجنه داخله كما في غزة التي باتت سجناً مفتوحاً في الهواء الطلق.
تذكرنا عودة البطلة للبحث عن تفاصيل الجريمة المثبتة في وثائق الاحتلال بعودة غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا" باحثاً عن البيت والابن الضائع والذي بقي ضائعاً في إشارة لضياع الحق والفعل، بينما تشير عدنية إلى أن حادثة الاغتصاب والقتل حادثة تنطلق من فرديتها إلى فعل جماعي، إذ يُغتصب شعب بكامله ويُقتل يومياً.
تنوعت ردود الأفعال بعد حجب الجائزة عن الكاتبة عدنية شبلي فأعلنت هيئة الشارقة للكتاب مقاطعتها لمعرض فرانكفورت إثر ذلك.
ويبدو من مصادفات التاريخ الغريبة أن يكون هذا الحدث في ألمانيا التي تحاول التماس الرضى من دولة إسرائيل وإبراز التزامها بالسياسة الدولية، متناسية ما يحصل على أرض الواقع في فلسطين من جرائم تدور أحداثها منذ حوالى قرن من الزمان، منذ وعد بلفور مروراً بنكبة العام 1948 إلى يومنا هذا.
تعتمد رواية "تفصيل ثانوي" على اكتشاف الكاتبة لمصادفة ميلادها في يوم وقوع جريمة اغتصاب فتاة فلسطينية بدوية من قبل جنود الاحتلال في معسكر في صحراء النقب عام 1949
ويبدو جلياً أن هذا العالم يرى الحوادث بشكلها الفردي وبعدها الزمني، فهو يدين جريمة اغتصاب فتاة حدثت منذ عشرات الأعوام، ولكنه يتساهل في إدانة جرائم إسرائيل الحالية. كما يدين إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي في الماضي، لكنه لا يتحمل إدانة السياسة الأمريكية في الوقت الحاضر. المعايير تبدو مضطربة وفق رؤية الأقوياء، ومصلحة السياسة التي يرسمونها، ضاربين بعرض الحائط حرية الرأي والفكر والإبداع، حيث يحارب العاملين فيها بأشكال شتى، وتمر الجرائم المرتكبة بحقهم بلا أدنى تأنيب ضمير، ما يذكرنا بما حدث مع سلمان رشدي وغيره من الأدباء والمفكرين الذين لم تقتصر خسارتهم على فقدان الجوائز، بل تجاوزتها إلى الاعتداء وزهق الروح أحياناً.
تجدر الإشارة إلى أنه في حادث مماثل، منع مهرجان "بريشيا" للسلام في إيطاليا، الحقوقي والباحث المصري باتريك زكي من الحضور، وألغيت دعوته بعد تصريحاته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بشأن إسرائيل ووصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "قاتل متسلسل". فألغت عمدة المدينة لورا كاستيليتي، الدعوة الموجهة إلى الباحث المصري، وقالوا إن "كلامه عن إسرائيل لا يمثل الرسالة التي تريد المدينة إيصالها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...