كانت العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، ولا تزال، مشوبةً بالتوتر، الذي كثيراً ما يطفو فوق سطح المشهد السياسي العراقي، كاشفاً عن حجم الاختلافات العميقة، وانعدام الثقة المتبادلة بين الطرفين.
التوتر ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الخلافات حول قضايا جوهرية، تتعلق بالهوية الوطنية، وتقاسم السلطة، وإدارة الثروات الطبيعية، وتصدير النفط، وأزمة الرواتب.
سيادة المركز وتضحيات الإقليم
المركز في بغداد ينظر إلى نفسه بوصفه الضامن لوحدة الدولة العراقية، والمسؤول الأول عن سيادتها وحدودها، بينما ينظر الإقليم إلى وضعه الخاص باعتباره ثمرة تضحيات تاريخية، ومكسباً سياسياً لا ينبغي التنازل عنه.
سرّ الخلاف الأكبر بين بغداد وأربيل يبقى النفط، إذ ترى بغداد أنه ملك لكل العراقيين، بينما تصرّ أربيل على أنّ من حقها الاستثمار المباشر في مواردها بعيداً عن المركز.
يرجع أصل الأزمة بين الطرفين إلى أسباب وعوامل تاريخية مفصلية عدة، لكن يمكن بالمجمل وصف طبيعة الخلاف الحاصل بين الطرفين، والذي يدور حول محورين مهمين:
الأول، يتعلق بالخلافات المالية، التي تشمل موضوع الاستثمارات النفطية، وما يرتبط بها من مشكلات الموازنة المالية السنوية، وحصة الإقليم من الموازنة الاتحادية. وجزء كبير من هذه الأزمة يرجع إلى النصوص الدستورية.
أما المحور الثاني، فيتعلق بالمناطق المتنازع عليها، وتقف في مقدمتها محافظة كركوك. هذا الموضوع بالتحديد يشوبه الكثير من التعقيدات السياسية والأمنية. وإذا كان لا بد من الدقة، فقد كان للنصوص الدستورية دور كبير في تعميق هذه الأزمة.
تركيا تستورد النفط من كردستان… سرّاً
قبل الانتخابات النيابية في البلاد، المقرر إجراؤها في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، عادت الأزمة من جديد، وتصاعدت حدّة الخلافات بين الطرفين، بعد أن أعلنت وزارة المالية عدم الاستمرار في تمويل رواتب الإقليم، لتجاوزه الحصة المقررة في قانون الموازنة الاتحادية، وهي 12.67%، بمبلغ 13،547 تريليون دينار من إجمالي الصرف الفعلي (نحو 10.42 مليار دولار أمريكي).
هذا القرار جاء على خلفية توقيع حكومة إقليم كردستان عقوداً غازيّةً مع شركات أمريكية، ما جعل حكومة بغداد تعترض على هذا التصرف، وتعدّ العقود المبرمة غير شرعية، وأنّ الإجراءات يجب أن تكون من قبل الحكومة الاتحادية، فالثروات النفطية تُعدّ ملكاً لجميع أبناء الشعب العراقي، وأي إجراء لاستثمار هذه الثروة يجب أن يكون من خلال الحكومة الاتحادية حصراً.
وهذا ما لم يعجب حكومة الإقليم، حين أكدت أنّ هذا الحق في إدارة ثرواتها مكفول للإقليم دستورياً، ككيان فيدرالي ضمن العراق الموحّد.
وفي ظل هذه الأزمة بين الطرفين، وتبادل الاتهامات، يبقى موظفو الإقليم بلا رواتب منذ أشهر عدة، وهي أزمة أخرى تُضاف إلى الأزمات العالقة بين المركز والإقليم.
لعبت أنقرة دوراً في تأجيج الصراع، إذ سمحت بتصدير نفط إقليم كردستان عبر أراضيها من دون موافقة بغداد، ما دفع الحكومة العراقية لرفع دعوى أمام التحكيم الدولي في باريس، انتهت في 2023 بوقف الصادرات النفطية
فمنذ سنوات، لم يُحل ملف الرواتب في إقليم كردستان، وبقي معلّقاً بين الإقليم والمركز. وفي كل عام يتجدد هذا الخلاف مع إقرار الموازنة الاتحادية، التي تضع شروطاً على الإقليم مقابل تسلّمه حصته منها، وأبرزها: تسليمه واردات النفط، وواردات المنافذ الحدودية، والجبايات الأخرى إلى الخزينة المركزية. في المقابل، تستلم خزينة الإقليم حصتها من الموازنة التشغيلية، وتشمل رواتب الموظفين منها.
الحكومة المركزية في بغداد كانت قد ربحت مسبقاً دعوى مُقامة، ما أدى إلى توقف الإقليم عن تصدير النفط في آذار/ مارس 2023، إثر قرار صدر عن هيئة تحكيم في غرفة التجارة الدولية في باريس، بناءً على دعوى كان قد رفعها العراق ضد أنقرة، لسماحها بتدفق النفط من الإقليم منذ عام 2013، بمعزل عن حكومة بغداد ومن دون علمها.
تعطيل رواتب الإقليم… من يدفع الثمن؟
الأزمة وحلّها قد يقعان على عاتق حكومة الإقليم، إذ إنّ عدم التزامها بتسليم النفط لشركة "سومو"، والعائدات المالية غير النفطية من الضرائب والمنافذ، وأيضاً تسليم قوائم الموظفين، واعتماد نظام التوطين، وتسليم الحسابات البنكية للحكومة الاتحادية، قد تفضي بلا شك إلى تعميق الخلاف بين الطرفين.
في السياق نفسه، صرّح رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، قبل أيام بالقول: "بغداد عاصمتنا، وإقليم كردستان جزء من العراق"، مؤكداً استمرار التواصل مع الحكومة الاتحادية في بغداد لحلّ أزمة رواتب موظفي الإقليم، فيما أشار إلى استمرار المفاوضات مع الأحزاب والشركاء الكرد لضمان عودة تدفق النفط.
وهذا ما يحاول الكثيرون فهمه، إذ إنّ هذا الخطاب من الممكن أن يؤدي إلى تفاهم مشترك بين الطرفين، ما سيؤدي في النهاية إلى تجاوز الخلافات، والعودة مرةً أخرى إلى الطاولة، ووضع حدّ للتجاوزات المستمرة، سواء كانت من قبل الإقليم أو من قبل الحكومة المركزية بعدم التزامها بالقواعد القانونية والدستورية.
غموض الدستور العراقي بعد 2003 فجّر خلافات متكررة بين بغداد وأربيل، إذ نصّت المادة 111 على ملكية الشعب للنفط والغاز من دون آليات توزيع واضحة، فيما قيدت المادة 112 المعنى بجملة "الحقول الحالية"، ما سمح بتأويلات أوسع وتعاقدات منفردة
ما يجب أن تدركه القوى السياسية من الطرفين، هو أنّ المواطن هو المتضرر الوحيد من تفاقم الخلاف وتعميق الأزمة بين الطرفين. ويجب وضع أولوية المواطنين العراقيين فوق كل اعتبار، بغض النظر عن قوميتهم.
الأولوية القصوى تتمثل في وضع إستراتيجية وطنية شاملة، تتيح للطرفين حلّ الخلافات العالقة منذ سنوات، على أساس التفاهم والعيش المشترك، ووضع حد للتجاوزات المستمرة على الآخر، مع ضرورة التأكيد على الإسراع في حلّ التعديلات الدستورية التي فاقمت الأزمة.
في السياق نفسه، وقبل يومين، أعلنت وزارة المالية والاقتصاد في إقليم كردستان إيداع الإيرادات غير النفطية لشهر حزيران/ يونيو الماضي، في الحساب المصرفي لوزارة المالية الاتحادية، والبالغة 120 مليار دينار عراقي (نحو 92.3 ملايين دولار أمريكي). بدورها قامت وزارة المالية الاتحادية بصرف رواتب الإقليم.
قد يعتقد البعض أنّ هذا هو الحلّ أو نهاية الأزمة بتسلم الواردات مقابل تسليم الرواتب، ولكن الأزمة أكبر من تسليم رواتب شهر أو شهرين، فقد تعود الخلافات بين الطرفين في أي وقت ما لم يجد الطرفان حلولاً واقعيةً تنهي الأزمة بالكامل باتفاق شامل يشمل كل نقاط الخلاف ويفضي إلى حلول طويلة الأمد وليست مرحليةً.
الدستور العراقي... قاعدةً تشريعيةً غير واضحة
ولعلّ ما يجب أن نستدركه هنا، أنه من الضروري إعادة النظر في بعض المواد الدستورية التي من شأنها أن تجعل الانسجام أسرع بين الإقليم والمركز، والتي تُعدّ بالأساس خلافات تشريعيةً جوهريةً كبيرة. ولا ينبغي أن تُحلّ تلك الفقرات على شكل صفقات دستورية توافقية، يتم فيها تمرير نصوص دستورية زمنية لا أكثر.
يزداد التوتر اليوم مع الانتخابات المرتقبة، لتنفجر أزمة الرواتب المتوقفة من جديد، وتتحول إلى ورقة سياسية ضاغطة يستثمرها كل طرف لتقوية موقعه التفاوضي.
وأوّلها المادة 111، التي تنصّ على أنّ "النفط والغاز ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات"، والتي لا بد أن تُعدّل بإضافة كل الثروات الطبيعية والموارد الأخرى التي تعود وارداتها لجميع العراقيين، على أساس تعدادهم السكاني والخطط العامة للدولة.
كذلك، إعادة النظر في المادة 112، التي تنصّ على أن "تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية، مع حكومات الأقاليم والمحافظات الحالية..."، إذ إنّ كلمة "الحالية" قد ضيّقت من ثروات الشعب عامة وقت كتابة الدستور. فهناك ثروات وحقول مستكشفة جديدة، وهي تعادل نصف ميزانية العراق. فلا بد من رفع كلمة "الحالية"، واعتبار كل الثروات والحقول المكتشفة ملكاً لجميع العراقيين، وتخضع لإدارة الحكومة الاتحادية، بالتنسيق مع الأقاليم والمحافظات.
كما ينبغي العمل على مشاريع القوانين الدستورية التي لم تُحدَّد ولم يُبت فيها، مثل قانون الاختصاصات المشتركة، ضمن المادة 115، التي تعطي أولويةً وهيمنةً للأقاليم والمحافظات على الحكومة الاتحادية، وفرض قانونها الذي يضعف الفيدرالية ويحدّ من فاعليتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.