منذ إعلان مجلس الوزراء العراقي، موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، تشهد الساحة السياسية العراقية حراكاً مكثّفاً بين القوى الكبرى والكيانات الصاعدة، وسط أجواء تتسم بفتورٍ نسبي لدى الشارع العام، يقابله نشاط متزايد في أوساط القوى الحزبية التي ترى في هذه الانتخابات محطةً مفصليةً لإعادة توزيع النفوذ في البرلمان القادم.
تأتي هذه الدورة في ظل استمرار أغلبية الأحزاب التقليدية المهيمنة على العملية السياسية منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وعلى رأسها قوى "الإطار التنسيقي" الشيعي وحلفاؤه، إلى جانب قوى كردية رئيسية منها حزبا "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، وقوى سنّية بارزة كتحالفَي "تقدّم" و"السيادة"، فيما تبرز قوى وشخصيات جديدة تحاول كسر المعادلة عبر الخطاب المدني أو المستقل، مثل تحالفَي "حلول" و"البديل"، برغم محدودية حضورها الجماهيري مقارنةً بالقوى التقليدية.
تحديات غير متناسبة
تحاول هذه التحالفات المدنية والأحزاب ذات التوجهات الليبرالية والعلمانية -وهي توصيفات تُستخدم للإشارة إلى القوى التي تقدّم نفسها كبديل عن الأحزاب الطائفية أو الدينية التقليدية- الاستفادة من حالة التململ الشعبي وتراجع الثقة بالأحزاب التقليدية، عبر تقديم برامج انتخابية تركّز على قضايا الحوكمة ومكافحة الفساد وتعزيز مبدأ سيادة القانون.
في مواجهة المال السياسي ونفوذ الأحزاب الطائفية التقليدية وشعبيتها… كيف تسعى التحالفات المدنية والأحزاب ذات التوجهات الليبرالية والعلمانية في العراق إلى تحقيق اختراقات في الانتخابات البرلمانية الوشيكة في البلاد؟
وبرغم أنّ الحضور الانتخابي لهذه الأحزاب والتحالفات لا يزال محدوداً في معظم المحافظات، إلا أنها تراهن على جاذبية خطابها الإصلاحي واستقطاب شرائح شبابية ونخب أكاديمية تسعى إلى التغيير في محاولة لاختراق المعادلة السياسية السائدة منذ عقدين من الزمن.
وتشير نسب التحديث العالية لسجلّ الناخبين، والتي أعلنت عنها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، خاصةً ضمن فئة الشباب، إلى ديناميكية انتخابية قد تمنح هذه القوى فرصاً نسبيةً إذا ما نجحت في صياغة خطاب واقعي وبرامج تستجيب لتطلعات الشارع. ووفق بيان المفوضية، قام أكثر من مليون و800 ألف ناخب/ ة بتحديث بياناتهم استعداداً للانتخابات القادمة، ما يُعدّ مؤشراً لافتاً على حيوية المزاج الانتخابي برغم حالة الفتور العام.
تبرز محافظات مثل بغداد والبصرة ونينوى كساحات رئيسية للتنافس، حيث تتداخل اعتبارات الكثافة السكانية الصوتية والثقل الحزبي والقدرة على الحشد الميداني والإعلامي. وبرغم هذا الحراك، تشير البيانات إلى أنّ نسبة المشاركة الشعبية لا تزال دون المطلوب؛ فقد بلغت نحو 41% فقط في انتخابات مجالس المحافظات عام 2023، وفق ما أعلنته مفوضية الانتخابات، وهي نسبة متقاربة مع ما شهدته انتخابات برلمان عام 2021 التي سجّلت أيضاً نحو 41.05%. هذه المقارنة تكشف عن ثبات مستوى الإقبال برغم اختلاف نوع الانتخابات وارتفاع نسب التحديث، ما يضع القوى المدنية أمام تحدّي تحويل هذا الزخم الرقمي إلى مشاركة فعلية يمكن أن تغيّر بعض موازين القوى ولو على نطاق محدود.
وفي خضم هذا الزخم الانتخابي المتشابك، تجد القوى المدنية نفسها وقد سلكت مسارات متباينةً تعكس طبيعة التحديات التي تواجهها في محاولة للتأقلم مع قواعد اللعبة الانتخابية السائدة. بعضها اختار الائتلاف ضمن قوائم أكبر لضمان فرص الفوز، فيما فضّلت قوى أخرى خوض المنافسة في خط مستقل لتأكيد حضورها السياسي برغم الصعوبات المالية والتنظيمية. هذا التباين يعكس مزيجاً من البراغماتية والإصرار على التمايز السياسي داخل المشهد الانتخابي من أجل تحقيق حضور مؤثر في البرلمان القادم.
مساران للتحالفات الكبرى
تتوزّع خريطة التحالفات المدنية الكبرى على مسارين أساسيين. الأول، تمثّله قائمة "تحالف حلول الوطني" برئاسة محمد صاحب الدراجي، أمين عام حزب"مهنيون"، وتضم في صفوفها أمين عام حركة "نازل آخذ حقي الديمقراطية" والناشط الاحتجاجي، مشرق الفريجي، ورئيس حزب "أمارجي" الليبرالي، قصي محبوبة. وقد اختار هذا التحالف أن يدخل في ائتلاف مع "الإعمار والتنمية" بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وهو خيار يصفه قادته بأنّه براغماتي في ظلّ القانون الانتخابي الحالي الذي يعتمد نظام الدائرة الواحدة لكل محافظة (سانت ليغو 1.7)، الذي يجعل القوائم الصغيرة أقل قدرةً على بلوغ العتبة الانتخابية إذا لم تحظَ بائتلاف مع قوى أكبر.
ويعتمد "تحالف حلول" على 12 مرشحاً ضمن هذا الائتلاف، جرى اختيارهم بانتقائية، وفق حجم القاعدة الشعبية والنفوذ المحلي في محافظات بغداد والديوانية والناصرية وبابل وميسان والموصل. ومن أبرز الأسماء التي يراهن عليها التحالف قادته المعروفون، الفريجي ومحبوبة، بجانب مرشحين محليين مثل خالد وليد في بغداد، ومريم الكعبي في ميسان، ويعوّل عليهم في تحقيق حضور انتخابي ملموس.
هذا الخيار الذي يراه بعض الناشطين المدنيين تنازلاً عن الهوية السياسية المستقلة، يدافع عنه قادة التحالف باعتباره تكيّفاً مع الظروف وليس تراجعاً عن المبادئ.
وفي هذا السياق، يقول مشرق الفريجي، لرصيف22، إنّ "القانون الانتخابي الحالي يتطلّب من التحالفات إكمال قوائم المرشحين من أجل حصد أصوات جيدة لضمان الفوز، وهو ما لا يتوافر عادةً في القوائم المدنية التي تتشكّل خلال اللحظات الانتخابية الضاغطة، والتي لطالما تفككت لاحقاً بعد كل انتخابات، في حين أنّ تجربة (رئيس الوزراء محمد شياع) السوداني الحالية قدّمت شيئاً ملموساً للناس، ونجد أننا نتقارب معه في بعض وجهات النظر، خاصةً في ما يتعلّق بقرار السلم والحرب في النزاعات الإقليمية الأخيرة ووقوفه بالضدّ من خطاب السلاح المنفلت".
ويضيف الفريجي، أنّ هذا التحالف "يتشابه مع القوائم المدنية من حيث الخلفية والتمثيل، لكنه ليس تحالفاً أيديولوجياً أو عقائدياً بقدر ما هو تحالف برامجي واقعي يجمع كل من يؤمن برؤية الدولة وتفكيرها كمشروع جامع يتجاوز الانقسامات".
أما المسار الثاني، فيتمثّل في تحالف البديل، الذي يعدّه البعض امتداداً محدّثاً لتحالف "قيم" المدني الذي خاض انتخابات مجالس المحافظات في كانون الأول/ ديسمبر 2023، مع إدخال شخصيات جديدة، أبرزها أمين عام حركة الوفاء العراقية ومحافظ النجف الأسبق، عدنان الزرفي، الذي طُرح اسمه لرئاسة الوزراء قبل أن ينسحب لعدم حصوله على تأييد كافٍ.
الزرفي الذي ترأس لاحقاً تحالف البديل الذي يَضُم الحزب الشيوعي العراقي، وحزب الاستقلال، والبيت الوطني، والتجمع الجمهوري، وحركة "كفى"، والحركة المدنية، و"بناة العراق"، وتحالف الاقتصاد العراقي، وحركة المثقف العراقي، وحركة ريادة، والتيار الديمقراطي.
يرفع "البديل" شعار المعارضة الصريحة للسلاح المنفلت وهيمنة الأحزاب التقليدية ويصف نفسه بأنه "ولادة خط سياسي جديد"، إلا أنّ وجود المال السياسي في الانتخابات وتحديات التمويل وقلة المرشحين في بعض الدوائر، ولا سيّما في العاصمة بغداد، شكلت عقبات كبيرةً أمامه في الانتخابات الوشيكة برغم وصول العدد الإجمالي لمرشحيه إلى نحو 250 مرشحاً.
تتوزّع خريطة التحالفات المدنية الكبرى في العراق على مسارين أساسيين، فضلاً عن تحالفات محلية صغيرة في بعض المحافظات تركز على الملفات الخدمية وتعوّل على شخصيات عشائرية وقامات اجتماعية للتغلب على الفروقات المادية واللوجستية الكبيرة
في هذا السياق، تقول الأمينة العامة للحركة المدنية الوطنية وعضوة التحالف، شروق العبايجي، إنّ التحالف يسعى إلى أن يكون "الضد النوعي لمنظومة المحاصصة والفساد وتقاسم المغانم"، موضحةً أنّ المنافسة مع أحزاب السلطة لا تتم بأدواتها نفسها، مثل المال السياسي أو النفوذ الحكومي، بل عبر "مشروع وطني مدني واضح المعالم يقوم على التوعية وتشخيص الأخطاء وبتبنّي مواقف رافضة للسلاح خارج أطر الدولة ". وتشير في الوقت نفسه إلى أنّ التحالف أكمل قوائمه في بعض المحافظات، ولديه تفاهمات انتخابية في محافظات أخرى سيتم الإعلان عنها بعد المصادقة النهائية على القوائم.
ويواجه التحالف، شأنه شأن معظم القوى المدنية، تحديات ماليةً ولوجستيةً تؤثّر على قدرته على تغطية جميع الدوائر، لكنه ماضٍ، بحسب قياداته، في تقديم قوائم قوية تعبّر عن موقفه الرافض لنهج المحاصصة والسلاح.
وفي خضم ذلك، واجه تحالف "البديل" أزمةً مفصليةً بعد استبعاد الأمين العام لحزب الاستقلال الوطني والقيادي في التحالف، النائب سجاد سالم، من خوض الانتخابات، على خلفية مخالفات مرتبطة بقواعد السلوك الانتخابي. وعدّ التحالف، في بيان له، أنّ هذا القرار يشكل "استهدافاً سياسياً مباشراً للقوى المدنية والوطنية"، مؤكداً أنه بدأ يتدارس خيارات مشاركته، في إشارة إلى احتمال مقاطعة الانتخابات إذا لم تتم معالجة القضية. ويأتي هذا في وقت أعلنت فيه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات استبعاد أكثر من 600 مرشح من مختلف القوائم، الكبيرة والصغيرة، بسبب تطبيق إجراءات تتعلّق بـ"قانون المساءلة والعدالة"، وملفات القيد الجزائي والقضائي، فضلاً عن مخالفات خاصة بـ"قواعد السلوك الانتخابي".
وبينما تسعى هذه التحالفات إلى كسب ثقة الناخبين، برغم تعدّد الأسماء والشعارات، يبقى حضور الأحزاب المدنية في الشارع محدوداً مقارنةً بالأحزاب التقليدية. فباستثناء الحزب الشيوعي العراقي، الذي يحتفظ بجمهور تقليدي من النخبة السياسية والمنتديات الفكرية، وحركة "نازل آخذ حقي الديمقراطية" التي توسّعت لتشمل فئات اجتماعيةً متنوعةً كالخرّيجين وأصحاب الدراجات وموظفي الدولة، خاصةً في الاحتجاجات المطلبيّة في بغداد. ويرى مراقبون أنّ جزءاً من ضعف هذه القوى يعود إلى عدم قدرتها على الوصول إلى المناطق الفقيرة والأطراف، والاكتفاء بالخطاب السياسي الموجه للنخبة.
هذا الضعف يرتبط أيضاً بإرث "حراك تشرين" عام 2019، الذي كان في بدايته حراكاً سياسياً واجتماعياً واسعاً جمع مطالب متعدّدةً، لكنه مع مرور الوقت تفتّت إلى تيارات واتجاهات مختلفة. وكما يوضح الناشط السياسي والمجتمعي، باهر الهاشمي، لرصيف22، فإنّ "جمهور تشرين اليوم متنوّع بين المقاطعة والمشاركة، وهذا جزء من طبيعة الديمقراطية والتعددية السياسية، حيث تتوّزع المواقف تبعاً للرؤى والخيارات المختلفة"، مضيفاً أنّ "عدم قدرة الأحزاب المدنية على توحيد هذا الجمهور تحت برنامج انتخابي واحد أفقدها فرصةً ذهبيةً لخلق كتلة انتخابية ضاغطة في الدورة القادمة".
تحالفات محلية ومخالفات انتخابية
بجانب هذين المسارين الرئيسيين، برزت تحالفات محلية صغيرة في بعض المحافظات، مثل قائمة "شعلة الديوانية" التي تركّز على الملفات الخدمية، وحراك "أهالي الشرقاط" في صلاح الدين، الذي يسعى إلى تمثيل مصالح منطقته، بالإضافة إلى قوائم محلية أخرى في الموصل وواسط وديالى، تعتمد على شخصيات عشائرية أو اجتماعية تحظى بثقة محيطها بمن فيهم رئيس قائمة "شعلة الديوانية"، حيدر حواس الأعرجي. وبرغم محدودية تأثيرها على المستوى الوطني، إلا أن هذه القوائم قد تتمكّن من حصد مقاعد بفعل قوة الارتباط المحلي، حسب ما يرى مراقبون.
وعلى مستوى السلوك الانتخابي، تُسجَّل ممارسات ملموسة خلال الحملات، وثّقتها تقارير قضائية وإعلامية. أبرزها لجوء بعض المرشحين إلى شراء الأصوات أو خداع الناخبين بوعود خدمية مثل التعيينات أو القروض أو الرواتب مقابل التصويت.
في هذا السياق، أعلنت محكمة تحقيق الكرخ الثانية، القبض على أحد المرشحين بعد قيامه بهذه الأساليب، مؤكدةً أنها استكملت التحقيقات معه ومع آخرين استناداً إلى قانون الانتخابات، وأشعرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لاتخاذ الإجراءات اللازمة واستبعاده من السباق. كما وثّقت تقارير لشفق نيوز استمرار ظاهرة شراء الأصوات والبطاقات الانتخابية في عدد من المحافظات، عبر تقديم مبالغ مالية أو مواد غذائية مقابل تسليم بطاقات الناخبين أو الالتزام بالتصويت لمرشح محدد، وهو ما يُعَدّ أحد أبرز التحديات أمام نزاهة العملية الانتخابية في العراق.
ووفقاً لبيان صادر عن شبكة شمس لمراقبة الانتخابات، وهي شبكة منظمات غير حكومية تُعنى بمراقبة الانتخابات عبر برامج رصد مستقلة وتصدر تقارير دورية عن الشفافية وتمويل الحملات والمخالفات الانتخابية، فقد رصدت فرقها في الدورات الانتخابية السابقة أنشطةً منظّمةً لشراء الأصوات في محافظات عدة، تضمّنت تقديم مبالغ مالية أو مواد غذائية، ووعود بتعيينات حكومية مقابل بطاقات الناخبين أو الالتزام بالتصويت لمرشح معيّن، برغم أنّ هذا السلوك محظور قانونياً. وشدّد البيان على أنّ هذه الممارسات تمثل أحد أبرز التحديات أمام نزاهة الانتخابات، داعياً إلى تكثيف الرقابة وفرض عقوبات رادعة بحق المتورطين.
وعلى مستوى الأجهزة الأمنية، لم يخلُ المشهد الانتخابي من ممارسات مثيرة للجدل من قبل بعض الأطراف، منها هيئة الحشد الشعبي.
فقد رُصدت خلال الفترة الماضية، محاولات توظيف مواقع النفوذ في سياق انتخابي بطرق غير قانونية. وفي هذا الإطار، أشار آمر فرقة العباس القتالية التابعة لحشد العتبات، ميثم الزيدي، في فيديو متداول له، إلى حادثة سجن أحد المنتسبين في مؤسسة الحشد لعدم جلبه عشر بطاقات انتخابية، وسحب "بطاقات الراتب (الماستر كارد)" من آخرين لعدم توفير أربعين بطاقةً، عادّاً أنّ هذه الممارسات تمثّل تجاوزاً خطيراً على شكلية مؤسسة الحشد وانتهاكاً للعملية الانتخابية.
المشهد المدني العراقي يرتقب الانتخابات البرلمانية الوشيكة التي تحمل في طياتها اختباراً مزدوجاً: القدرة على التحشيد الجماهيري من جهة، والقدرة على التكيّف مع القواعد المعقدة للعبة الانتخابية السائدة من جهة أخرى
جمهور الصدر
بجانب هذه الممارسات التي تلقي بظلالها على نزاهة الاقتراع، يبرز عامل آخر قد يؤثّر على المشهد الانتخابي، هو موقف زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الفائز الأكبر في انتخابات 2021، من الانتخابات بعدما انسحب من العملية السياسية إذ يعوّل عدد من التحالفات المدنية والمرشحين المستقلين على إمكانية استقطاب جزء من جمهوره، استناداً إلى تغريدة نشرها الصدر في وقت سابق على منصة إكس (تويتر سابقاً)، وفُسّرت على أنها دعوة إلى انتخاب من يقف ضد السلاح المنفلت وضد الفساد. وقد لاحظت تغطيات سياسية أنّ موقف الصدر الصارم والمتجدد تجاه إصلاح العملية السياسية، مثل دعوته إلى تسليم السلاح المنفلت للدولة والبحث المتكرر عن القوائم المشاركة، يُعدّ رسالةً قويةً يمكنها تحريك جمهور التيار الصدري المقاطع، خاصةً في مراكز نفوذه، بما يجعل الأصوات المدنية الوجهة الجديدة المحتملة لهم.
ومع ترقّب تأثير هذا الموقف على المشهد الانتخابي، تتجه الأنظار أيضاً إلى النسبة العامة للمشاركة في الانتخابات القادمة، فيرى الناشط السياسي علي القيسي، في حديثه إلى رصيف22، أنّ النسب ستكون "متقاربةً أو أعلى بقليل من انتخابات 2023، في ظل النسب المرتفعة لتحديث السجل الانتخابي، خصوصاً من قبل الشباب"، مشيراً إلى أنّ "هذه المؤشرات قد تمنح زخماً إضافياً للقوى المدنية إذا ما نجحت في التواصل مع الناخبين بلغة واقعية وبرامج قابلة للتنفيذ".
غير أنّ أثر المشاركة سيبقى متفاوتاً بين القوى المدنية. فالقوائم المتحالفة مع كتل أكبر مثل "حلول"، تمتلك فرصةً أوضح لعبور العتبة الانتخابية، بفضل ما يوفّره نظام التوزيع الداخلي للأصوات داخل الائتلاف، وهو ما يُعرف بـ"التصويت التراكمي"، الذي يسمح للقوى الأصغر داخل القائمة بالحصول على مقعد أو أكثر حتى مع محدودية أصواتها المباشرة. في المقابل، تبقى القوائم المستقلة مثل "البديل" أكثر حساسيةً لانخفاض نسب المشاركة، إذ يعتمد وزنها الانتخابي على عدد المرشحين في الدائرة وحجم الأصوات المتراكمة لكل منهم، ما يضعها في مواجهة مباشرة مع معادلة العتبة والتمثيل النسبي بكل تعقيداتها.
في المحصلة، المشهد المدني العراقي أمام انتخابات جديدة تحمل في طياتها اختباراً مزدوجاً: القدرة على التحشيد الجماهيري من جهة، والقدرة على التكيّف مع القواعد المعقدة للّعبة الانتخابية السائدة من جهة أخرى. وبينما تسعى هذه القوى إلى إثبات حضورها والخروج من دائرة النخب إلى فضاء الجمهور الواسع، يبقى الرهان على ما إذا كانت ستنجح في اختراق معادلة النفوذ التقليدي أو ستظلّ محاصرةً بخطابها المحدود في انتظار دورة أخرى لالتقاط الفرصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.