سجّلت تحويلات العاملين المصريين في الخارج، قفزةً قياسيةً خلال العام المالي 2024-2025، إذ ارتفعت بنسبة 66.2% مقارنةً بالعام المالي الماضي 2023-2024، متجاوزةً توقعات صندوق النقد الدولي التي كانت تشير إلى 24.4 مليارات دولار فقط.
لا يعكس هذا النمو المفاجئ قوة التدفقات النقدية الوافدة إلى البلاد فحسب، بل أيضاً التحول الجذري في أنماط التحويل نفسها بعد قرار الحكومة المصرية في آذار/ مارس 2024، تحرير سعر الصرف.
فبينما كانت السوق السوداء والوسطاء يمثّلان الملاذ الأبرز للمغتربين قبل التعويم، أصبحت التحويلات تتم مباشرةً عبر القنوات الرسمية والبنوك بعد أن فقدت السوق الموازية جاذبيتها.
36.5 مليارات دولار من خارج مصر
أظهرت أحدث البيانات الصادرة عن البنك المركزي المصري، في نهاية آب/ أغسطس الماضي، أنّ تحويلات العاملين في الخارج خلال العام المالي الماضي 2024-2025، بلغت نحو 36.5 مليارات دولار، مقابل ما يقارب 21.9 مليارات دولار خلال السنة المالية 2023-2024، وهو ما أكّد تجاوزها توقعات صندوق النقد الدولي، وفق جدول ميزان المدفوعات المنشور ضمن تقرير مراجعة الأداء الصادر في تموز/ يوليو 2025.
من جهته، يؤكد الدكتور أحمد شوقي، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع السياسي والخبير المصرفي، أنّ تجاوز تحويلات العاملين في الخارج توقعات صندوق النقد الدولي أمر طبيعي، نظراً إلى انخفاض التحويلات قبل تحرير سعر الصرف، ما يجعل المقارنة على أساس ضعيف تُظهر نمواً مرتفعاً تلقائياً.
قفزة تاريخية تلك التي حققتها تحويلات المصريين في الخارج، لتصل إلى 36.5 مليار دولار في عام واحد، بزيادة 66%، متجاوزة كل التوقعات بما فيها توقعات صندوق النقد الدولي، ولتمثل تحوّلاً نوعياً في موارد النقد الأجنبي لمصر اليوم
في 6 آذار/ مارس 2024، قررت لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي رفع أسعار الفائدة بنحو 6%، بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف وتركه ليتحرك وفق قواعد العرض والطلب، ضمن اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي. دفع ذلك قيمة الجنيه إلى التراجع من مستوى 30.8 جنيهات للدولار الواحد إلى 50 جنيهاً، قبل أن يتعافى لاحقاً ليسجّل في الوقت الراهن مستوى 48.50 جنيهاً.
وبحسب بيان اللجنة وقتها، فإنّ توحيد سعر الصرف جاء في إطار حرصها على تحقيق الدور المنوط بها بحماية متطلبات التنمية المستدامة والمساهمة في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي، في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمي والسعر الموازي.
ويوضح شوقي، لرصيف22، أنّ هذه الإجراءات شجعت العاملين في الخارج على إعادة التوجه إلى القطاع المصرفي لتحويل مدّخراتهم، خاصةً مع وضوح سعر الدولار وعدم وجود سوق موازية، وارتفاع العائد على الجنيه من خلال الأوعية الادخارية المرتفعة التي طرحتها البنوك بعد تحرير سعر الصرف.
وتشكّل تحويلات المصريين في الخارج إحدى الركائز الخمس الرئيسية لتدفقات العملة الصعبة في مصر، بجانب الصادرات، وعائدات قناة السويس، وإيرادات السياحة، والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
كما أنّ مصر تحتلّ المركز السابع عالمياً في قائمة الدول الأكثر استقبالاً لتحويلات العاملين في الخارج، وفق بيانات البنك الدولي لعام 2024.
مستقبل سعر الجنيه المصري
ويلفت شوقي إلى أنّ المعيار الحقيقي لتحديد اتجاه العملة هو الفجوة في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات. ولذلك فإنّ أيّ انخفاض في سعر الدولار مقابل الجنيه المصري يحتاج إلى عوامل إنتاجية حقيقية، لا مجرد وفرة مؤقتة في الموارد الدولارية، مضيفاً أنّ القطاعات الخدمية مثل العقار والسياحة مهمة، لكنها لا تكفي وحدها، بينما يجب التركيز على القطاعات ذات الأثر المضاعف مثل الزراعة والصناعة، ولا سيّما الصناعات القادرة على دعم الاقتصاد على المديين المتوسط والطويل.
ساهم تحرير سعر الصرف في ربيع 2024، في انهيار السوق السوداء، واختفى دور الوسطاء، لتتجه التحويلات مباشرةً إلى البنوك.
ويتوقع شوقي، أن يظلّ سعر الدولار متوازناً حتى نهاية العام المالي الحالي، مشدداً على أنّ أيّ هبوط سريع في سعر العملة الأمريكية مقابل الجنيه، غير مدعوم بزيادة الإنتاج والصادرات، قد يرفع كلفة خروج الاستثمارات قصيرة الأجل، مثل استثمارات "الأموال الساخنة" التي تدخل بسعر معيّن ثم تتحول إلى جنيه للاستفادة من العائد المرتفع، قبل إعادة التحويل إلى الدولار.
وفق بيانات وزارة المالية المصرية، ومع نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2024، قفز رصيد الاستثمارات الأجنبية في أذون وسندات الخزانة المصرية إلى 41.3 مليارات دولار، مقابل 39.3 مليارات دولار في نهاية حزيران/ يونيو من العام نفسه، وتُعدّ أذون وسندات الخزانة من الأدوات المالية التي يطرحها البنك المركزي المصري نيابةً عن الوزارة على أساس أسبوعي، بهدف توفير السيولة اللازمة لتمويل عجز الموازنة العامة.
ويضيف الخبير المصرفي، أنّ المطلوب هو انخفاض مستدام لسعر الدولار مقابل الجنيه المصري مدفوعاً بعوامل إيجابية حقيقية، وليس انخفاضاً "سلوكياً" مؤقتاً بسبب وفرة آنية في موارد النقد الأجنبي.
التوترات الجيوسياسية
من جهته، يُرجع الدكتور محمد بدرة، الخبير المصرفي، السبب الرئيس وراء هذا النمو غير المتوقع في تحويلات المصريين في الخارج خلال عام واحد، إلى التوترات الجيوسياسية، خاصةً التوتر بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، إذ دفعت العديد من المصريين في دول الخليج إلى إعادة جزء من مدخراتهم إلى البنوك المصرية، عادّينها ملاذاً آمناً يعكس ثقتهم باستقرار البلاد بعيداً عن المشكلات الإقليمية.
وبالعودة إلى بيانات البنك المركزي المصري، ارتفعت التحويلات خلال الربع الأخير من العام المالي 2024-2025 (نيسان/ أبريل - حزيران/ يونيو 2025)، بمعدل 34.2% على أساس سنوي لتصل إلى نحو 10 مليارات دولار مقابل نحو 7.5 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. فيما شهد حزيران/ يونيو الماضي أعلى مستوى شهري في التاريخ عند 3.6 مليارات دولار، بزيادة بلغت 40.7% مقارنةً بالشهر نفسه من العام السابق.
ويضيف بدرة، لرصيف22، أنّ قرار التعويم كان له أثر مباشر على حجم التحويلات، إذ إنها كانت تسجّل مستويات ضعيفةً، لكن بعد التعويم شهدت تدفقات ماليةً كبيرةً وغير مسبوقة، متوقعاً استمرار ارتفاع هذه التحويلات خلال الأشهر الستة المقبلة.
وتشير بيانات مركز المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، إلى أنّ تحويلات العاملين في الخارج سجلت 22.1 مليار دولار خلال العام المالي 2022-2023، مقارنةً بـ31.9 مليارات دولار خلال عام 2021-2022.
لقد سجّل حزيران/يونيو 2025 أعلى مستوى في تاريخ التحويلات الشهرية، بسقف زاد عن 3.6 مليار دولار، وهو دليل على حجم التدفق النقدي غير المسبوق نحو مصر، ويرى البعض أن الظرف الإقليمي المتوتر له دور كبير في زيادة الرقم
ويشير الخبير المصرفي إلى أنّ الانخفاض الحالي لسعر الدولار دون 50 جنيهاً جاء نتيجة ضعف العملة الأمريكية عالمياً وليس لقوة الجنيه المصري، لافتاً إلى أنّ ارتفاع تحويلات المصريين يعوّض جزئياً التراجع الكبير في إيرادات قناة السويس.
فبحسب تقرير أداء ميزان المدفوعات الصادر عن البنك المركزي المصري في تموز/ يوليو الماضي، انخفضت إيرادات قناة السويس بشكل حادّ خلال الفترة من تموز/ يوليو حتى آذار/ مارس من السنة المالية 2024-2025، بسبب التوترات الجيوسياسية التي شهدتها -ولا تزال- منطقة الشرق الأوسط مؤخراً، لتسجل تراجعاً بنسبة 54.1% وتبلغ 2.6 مليارات دولار فقط، مقارنةً بنحو 5.8 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من العام المالي السابق.
ويوضح التقرير تراجع الحمولة الصافية العابرة للقناة بنسبة 61.9% لتبلغ 360.3 ملايين طنّ، زيادةً على انخفاض عدد السفن المارة بمعدل 44.8% نتيجة استمرار التوترات الأمنية التي يشهدها البحر الأحمر، ما دفع العديد من شركات الشحن العالمية لتحويل مساراتها إلى ممرات بديلة.
ويرجح بدرة أنه في حال عودة دخل قناة السويس إلى مستوياته الطبيعية واستمرار ضعف الدولار عالمياً، قد نشهد مستويات تتراوح بين 44 و45 جنيهاً مقابل الدولار خلال الفترة المقبلة.
السوق السوداء للدولار
تكشف شيماء رجب (اسم مستعار)، وهي مصرية مقيمة في السعودية منذ أكثر من 10 سنوات، كيفية تغيير طريقة تحويل الأموال لعائلتها في مصر بعد التعويم عما قبله.
تقول إنها في البداية كانت قد طلبت من والدها فتح حساب بالدولار في أحد البنوك المصرية كي تسهل عليها عملية التحويل من السعودية إلى مصر. فقبل التعويم كانت تحوّل المبلغ الذي تريده إلى حساب والدها في البنك، لكنه كان يسحبه بالدولار، ثم يذهب إلى أحد تجار الذهب المعروف عنهم أنهم يعملون في السوق السوداء، نظراً إلى اختلاف سعر الصرف بين البنك والسوق السوداء والذي كان يصل في بعض الفترات إلى آلاف الجنيهات، و"هم أولى بهذا الفرق أياً كان".
في ظل تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 54% بسبب التوترات في البحر الأحمر، جاءت حوالات المصريين في الخارج لتشكل صمام أمان وتعوّض جزءاً كبيراً من خسائر الاقتصاد.
يشار إلى أنّ سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية سجّل في نهاية كانون الثاني/ يناير 2024، أعلى مستوى في تاريخه، بعدما قفز إلى نحو 74 جنيهاً. غير أنّ المشهد تبدّل جذرياً عقب قرار التعويم الأخير، الذي تزامن مع صفقة رأس الحكمة التي أبرمتها الحكومة المصرية مع الشركة القابضة الإماراتية (ADQ)، أحد أبرز صناديق الثروة السيادية التابعة لحكومة أبوظبي، بقيمة 35 مليار دولار. إذ أدت هذه التطورات إلى تراجع نشاط السوق السوداء بصورة كبيرة بعدما فقدت جاذبيتها في ظل تقارب السعر الرسمي مع السعر الموازي.
كما أنّ هذا الأمر تغيّر كلياً بعد قرار تحرير سعر الصرف، بحسب ما تقول رجب، ولم تعد السوق السوداء هدفاً، إذ تذهب الأموال مباشرةً إلى البنك حيث يحوّل والدها المبلغ إلى الجنيه المصري وفق سعر صرف اليوم للبنك.
وتأتي السعودية في المرتبة الأولى في قائمة أعلى الدول العربية في قيمة تحويلات المصريين خلال 2022-2023، حيث بلغت 8.3 مليارات دولار، تلتها الإمارات بـ2.9 مليارات دولار، ثم الكويت بـ2 مليار دولار، تليها قطر بـ940.3 ملايين دولار، ثم الأردن بـ453.5 ملايين دولار، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
يكشف "محمد أحمد"، وهو اسم مستعار لمواطن مصري مقيم في السعودية، عن أسلوب مختلف كان يلجأ إليه قبل قرار التعويم لإرسال المال إلى أسرته في إحدى محافظات صعيد مصر.
يوضح أنه كان يعتمد على ما يُعرف بـ"الوسيط"، وهي طريقة منتشرة بين العاملين في الخارج، تقوم فكرتها على شراء الوسيط للأموال المراد تحويلها بسعر السوق السوداء، ثم يقوم أحد أقاربه داخل مصر أو في قرية مجاورة بتسليم قيمتها بالعملة المحلية إلى أسرته.
ويؤكد محمد أحمد، أنّ هذه الآلية، برغم عدم قانونيتها، إلا أنها كانت الأسرع والأكثر شيوعاً قبل التعويم، إذ تصل الأموال إلى الأسر في فترة وجيزة، ما جعلها خياراً مفضلاً للعديد من العاملين في الخارج. لكن مع قرار البنك المركزي المصري تحرير سعر الصرف تغيّرت الصورة بالكامل.
ويضيف أنّ دور "الوسيط" تلاشى تدريجياً بعد أن اختفى الفارق بين السعر الرسمي والموازي، ولم يعد هناك وجود فعلي للسوق السوداء. ونتيجةً لذلك، أصبح الكثير من المصريين يعتمدون على البنوك بشكل مباشر وآمن لتحويل أموالهم، وهو تحول جوهري في مسار تحويلات المصريين في الخارج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.