توأمان في زمن التعويم... ما تقوله جدّتي في الحلم ينسفه الاقتصاد المصري

توأمان في زمن التعويم... ما تقوله جدّتي في الحلم ينسفه الاقتصاد المصري

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 5 سبتمبر 20259 دقائق للقراءة

هل اختبرتم يوماً تصاريف القدر؛ أن تسعوا في طريقٍ فيفرض الله عليكم طريقاً آخر ليس من ضمن خططكم الآنية ولا حتى المستقبلية، ولا يقع حتى في نطاق تفكيركم على الإطلاق؟ دعونا نبتعد عن الكلام المنمّق لأحكي لكم تجربتي مع القدر وتصاريفه.

مرّ عام كامل، أي اثنَي عشر شهراً بالتمام والكمال على الحدث الأكبر في حياتي. ما كنت لأتخيل أن أعيش تلك التجربة بحلوها ومرّها. 

كنت قد خرجتُ للتو من تجربةٍ مهنية أصابتني ببعض الإنهاك النفسي والبدني أيضاً، شكّل انتهاؤها صدمةً كبيرةً لي ولكل زملائي؛ فأين سنجد تجربةً صحافيةً جديدةً تستحق في وسط صحافي مصريٍّ تغيّر بشكلٍ لا يمكن وصفه على مدار العقد الماضي، وهو تغيير لا يمكن مجاراته بأيّ حال من الأحوال: "صحافة التراند" و"الوفيات" و"قلنا وقالوا"؟ 

ماذا يمكن أن نعمل؟ أو عمَّ يمكن أن نكتب؟ وسط هذا الصراع كله، والدعاء بأن يجد الله لي مخرجاً، جاءتني جدّتي المتوفاة في المنام لتسألني: "ماذا ستسمّين الصغار؟". حاولتُ أن أتجاهل سؤالها، أنا الشغوفة دائماً بتفسير الأحلام.

نبوءة جدّتي في الحلم

لا، لا أريد هذا الحلم تحديداً. إنّه من أضغاث الأحلام. أحاول أن أتجاهله، لكن صوتاً داخلياً يحذّرني من أنّه وفي حمليَّ السابقين جاءتني البشرى بالطريقة نفسها. لكن كان الوضع مختلفاً؛ كنتُ حينها شابةً في مقتبل حياتي الزوجية، أفرح بقدوم مولودي الأول بعد عامين من الزواج ومشكلات طبية دعت أحد الأطباء إلى أن يخبرني بأنني قد لا أستطيع الإنجاب مُطلقاً، لا على المدى البعيد ولا القريب. كان الأمر مُزعجاً بالنسبة لي؛ فأنا أريد أن أختبر إحساس الأمومة، أريد أن أسمع كلمة "ماما".

كنتُ دائماً أحلم بأنني في غابة كبيرة وواسعة أجري وراء طفل بعينين ملوّنتين، وفي كل مرة يتركني ولا أستطيع اللحاق به. بعد عامين من الحلم نفسه، تحقّق ما كنت أتمنّاه بعد تدخّل جراحيّ بسيط. حلمتُ حلم الغابة ذاته، لكن تلك المرّة أمسكتُ بالطفل الجميل، فكانت البشرى بمحمّد ابني الأكبر.

كانت الظروف مختلفةً حينها، والوضع الاقتصادي أيضاً مختلفاً. كانت مصر حينها "تنوي" الاستقرار بعد الإطاحة بنظام محمد مرسي ومعه تنظيم الإخوان المسلمين في 2012، وما تبعها من أحداث، ثم تولّي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في منتصف 2014. 

منذ رؤية جدّتي في المنام وسؤالها عن الأبناء الجدد وأنا خائفة من النبوءة، رويت الحلم لزوجي، لينتفض من مكانه: "لا، أنا بخاف من أحلامك… إن شاء الله مفيش عيال تاني، أنتِ شايفة إننا نقدر نصرف على 4 عيال؟"

كنا سعداء بقدوم السيسي، وننوي الاستقرار كما مصر. فبعد عامين من زيارة الأطباء وصعوبة الأمر علينا، كمصر تماماً، جاءنا الرئيس الجديد بالبشرى ووعدنا بأن يحنو علينا، لأننا كشعب لم يجد من يحنو عليه.

خضنا تجارب صحافيةً جديدةً في تلك الفترة تزامنت مع وعود بمزيد من الإصلاح الاقتصادي جعلتنا لا نجزع أنا وزوجي -الصحافي هو الآخر بالمناسبة- عندما علمنا بحملي للمرة الثانية.

شريط من الذكريات مرّ برأسي منذ رؤية جدّتي في المنام وسؤالها عن الأبناء الجدد. أخاف من أحلامي تلك، وحلمِ الإنجاب تحديداً، فتجاربي السابقة تؤكد أنّ الأمر قد يحدث فعلاً. 

من شدّة خوفي، رويت الحلم لزوجي، لينتفض من مكانه: "لا، أنا بخاف من أحلامك… إن شاء الله مفيش عيال تاني"، مستطرداً: "الوضع لا يحتمل. أنتِ شايفة إننا نقدر نصرف على 4 عيال؟".

ونبوءة الاقتصاد المصري في الواقع

تربية الأطفال في مصر ليست سهلةً على الإطلاق؛ الوضع الاقتصادي الذي يعيشه "البلد" بعد 11 عاماً من تولّي الرئيس السيسي، صعب خاصةً منذ إعادة تعريفه للحنّية معتبراً أنّها ليست مجرد طبطبة كما أكّد لنا في أحاديثه الشاعرية بُعيد تولّيه الحكم، وإنما هي مزيد من "الكباري" لتيسير حركة المرور مهما كلّفت، وهذا ما يحتاجه المواطن، كما قال.

في غرفتي القديمة في منزل والدي، لا أتوقّف عن التفكير في حلم جدّتي المتكرّر. أريد أن أُبعد "دماغي" عن التفكير فيه. أتصفّح بعض الأخبار عن عدم نية الحكومة المصرية القيام بتحرير جديد لصرف الجنيه المصري. أَغفو قليلاً؛ تزورني جدتي للمرة الرابعة، وتعاتبني لأنني لم أختر بعدُ أسماء لأطفالي الجدد. أسأل الله متمنّيةً ألّا يحدث ذلك.

يُقودني الفضول لإجراء اختبار منزليّ للحمل؛ على الرغم من أنّ نفسي تحدّثني باستحالة حدوثه لأنّ "حملي عزيز"، ببساطة كما قال لي الطبيب، بخلاف أنّني أتخذ كل الاحتياطات التي تمنع حدوثه. فلِم لا أُجرّب الاختبار من باب التجربة فقط، ولأتحقّق من رسالة جدتي؟ وكانت الصدمة: النتيجة "إيجابية".

بعد أن قال: "مبروك توأم"، خرجتُ وزوجي من عند الطبيب ونحن في حالة ذهول جعلته يضحك ضحكاً هستيرياً طوال سيرنا في الشارع!

كيف يحدث ذلك؟ كنتُ أدعو الله في الأيام السابقة أن يرزقني عملاً جديداً. أريد أن أنطلق في حياتي المهنية التي تخليتُ عن كثيرٍ من طموحاتي بشأنها لتربية ابنيّ. هما الآن قد كبرا، ويستطيعان الاعتماد على نفسيهما. أريد بدايةً جديدةً، تكون بعيدةً كلياً عن البدء بتربية أطفال جدد. تُحدّثني نفسي من جديد أنّ هذا أمرٌ لا يمكن السكوت عليه. لا حلّ سوى الإجهاض، والإجهاض فقط.

داخل غرفة طبيب النساء نهاية 2023، يأتي صوت التلفاز ليُعلن السيسي رئيساً لمصر لولايةٍ ثالثة. أُخبر الطبيب الذي أبدى اندهاشه من معرفتي بالحمل في هذا الوقت المبكر واستغرابه من ظهوره في الاختبار المنزلي بحلم جدّتي، وكل ما يدور في رأسي ورغبتي في الإجهاض. يُجيب: "أنا لا أُجري عمليات إجهاض، ومهما كانت الظروف الاقتصادية وما يحدث في العام أو الخاص فهذا فعلٌ حرام وتحدٍّ لقدرة الله. كيف تريدين ذلك وأنتِ مَن كنتِ تبحثين عن الإنجاب وتزورين عيادات الأطباء قبل 12 عاماً؟". 

يسألني منهياً الحديث في الأمر، محذّراً من عواقبه الصحية لا حرمته فحسب.

سكتنا بعض الوقت، لكنني عدتُ لأخبره عن طموحاتي المؤجّلة والوضع الاقتصادي الصعب الذي لا يحتمل وجود طفلٍ جديدٍ في ظل ارتفاع أسعار كل احتياجات الأطفال التي لا يمكن الاستغناء عنها أو إيجاد بدائل لها، وكيف زادت أضعافاً مضاعفةً وكيف أثّر ذلك على حياتنا أيضاً. رفض كل المحاولات، وصمّم على إجراء كشف مبدئيّ ليُخبرنا: "مبروك: توأمان".

"توأمان؟"؛ أصابني الانهيار. لا، لم أكن مستعدةً لذلك. يجيبني: "نعم، أحدهما سيكون وزيراً للداخلية والآخر وزيراً للدفاع". أجيبه: "لا، نحن بحاجةٍ إلى وزير للاقتصاد". ولكن لا أستطيع الانتظار. من المؤكد أنّ مصر لن تنتظرني أنا لأنجب لها وزيراً يُعدّل "المايلة". الأهم الآن أن تسير الحياة كما خطّطنا لها مع ولدَين فقط؛ لا نحتمل وجود ولدَين آخرين.

خرجتُ وزوجي من عند الطبيب ونحن في حالة ذهول جعلته يضحك ضحكاً هستيرياً طوال سيرنا في الشارع، حاملاً طبقاً من "البسبوسة" راح يأكل منه في الشارع من فرط الصدمة.

أُقاطع ضحكاته: "يجب أن نبحث عن فتوى للإجهاض". يرفض تماماً، ويُخبرني بأنّه لن يتحمّل إثماً ولن يتحدّى إرادة الله، مبرّراً أنّه قد تكون هناك حكمة في هذا الحمل. "ولكنّنا سنعاني خلال رحلة توفير الاحتياجات الأساسية، بالإضافة إلى توفير نفقات ولدَيّ الأوّلين من تعليم باهظ زادت نفقاته خلال العقد الأخير بشكل كبير ومتزايد؛ فماذا سنفعل؟". يُجيبني: "فلندعها لما تجري به المقادير".

بعد بضعة أيام أخبرنا المقرّبين بالحمل. أصيب الجميع بالذهول، وكان السؤال الأبرز: "ليه حد يخلّف في الظروف دي بعد التعويم كمان؟". لم أكن أتحمّل كلمةً واحدةً؛ فأنا أعلم جيداً تلك الظروف الصعبة. لم أعد أشرح لأحد ما حدث. لا أتحمّل أن يلومني أحد. أعرف جيداً ما سيقولون وتحليلاتهم للوضع الاقتصادي.

تغلّبنا خلال فترة الحمل على ارتفاع أسعار الدواء والمراجعات الطبية، وبلغت تكاليف الولادة أربعة أضعاف ولادتي الأولى إبّان الولاية الأولى للرئيس السيسي. وارتفعت بالقدر نفسه منتجات العناية بالأطفال والحفاضات والملابس والأدوية

"السيسي لو عرف إنكم خلّفتوا توأم هيحبسكم"؛ يقول أحد الأصدقاء ممازحاً. لكن لماذا قد يحبسنا السيسي في بلد لا يُقدّم أيَّ دعم حقيقيّ للمواطن، بل هناك نيةٌ لسحب الدعم تدريجياً؛ حتى الخبز المدعّم لم يَسلم وارتفع سعره للمرة الأولى منذ 36 عاماً؟

ترافقت أشهر الحمل مع الكثير من البكاء، والكثير والكثير من هجمات الاكتئاب، لكنها مرّت بسلام. تغلّبنا على ارتفاع أسعار الدواء والفيتامينات المخصّصة للحوامل ومتابعة الأطباء والتحاليل الطبية اللازمة، ثم جاءت أسعار الولادة التي اخترنا لها مستشفى ذا سعرٍ متوسط، فبلغت أربعة أضعاف سعر ولادتي الأولى إبّان الولاية الأولى للرئيس السيسي. ارتفعت بالقدر نفسه أسعار منتجات العناية بالأطفال والحفاضات والملابس أيضاً. أمّا أسعار الكشف والمتابعة والأدوية فحدّث ولا حرج.

بخلاف ذلك كله، تكمن الأزمة الكبرى في زيادة أسعار اللبن الصناعي بشكلٍ كبير. فعبوة اللبن الواحدة التي كنّا نشتريها إبان الولاية الأولى للسيسي، بنحو 65 جنيهاً (1.1 دولار)، تبدأ أسعارها الآن من 250 جنيهاً (5 دولارات)، وتصل إلى أكثر من 450 جنيهاً (9 دولارات) للعبوة الواحدة. وفي حالة التوأمَين، فإنّ عبوةً واحدةً بالكاد تكفي يومين فقط مع الرضاعة الطبيعية، ولا تصرف الدولة لبناً مدعّماً إلا لطفل واحد فقط. فكيف إذاً تستطيع أسرةٌ بسيطةٌ توفير اللبن للطفل الآخر بما يعادل في المتوسط 5،000 جنيه (100 دولار)، مع ثبات الرواتب وعدم وجود زيادة في دخل الفرد وتقلّص فرص العمل؟

أَشفق على جميع المتزوجين الجدد. كيف سيستطيعون الإنفاق على أبنائهم المستقبليين؟ في إحدى المجموعات الخاصة برعاية التوائم، أسأل الأمهات عن حِيَلِهنّ للتغلّب على نفقات أبنائهنّ. إجابةٌ واحدةٌ جمعتْهُنّ: "لا حيل لدينا... الوضع فقط يسير ببركة الله".

هكذا هي الحياة، وهذه هي خلاصة التجربة. ففي مصر لا حِيل مع تصاريف القدر؛ تسير حياتنا فقط ببركة الله، لا بأيّ تفكير ولا خطط. وضعُنا الخاص لا يختلف كثيراً عن خطط الدولة في الإصلاح والتنمية، فلا عِنادَ للقدر.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image