حلايب وشلاتين... ماذا فعلت السياسة بالهوية؟

حلايب وشلاتين... ماذا فعلت السياسة بالهوية؟

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 25 أغسطس 202515 دقيقة للقراءة

عام 1958 نشبت أزمة كبرى بين مصر والسودان على إثر مطالبة مصر لجارتها الجنوبية بالتخلي عن سيطرتها على مثلث حلايب الحدودي، وتمكين القاهرة من ممارسة حقوقها السيادية عليه، وأولها السماح لمواطني تلك المنطقة بالمشاركة في استفتاء رئاسي مُرتقب تنظيمه.

رفضت الخرطوم مطالب القاهرة معتبرةً أن المثلث المُطالَب به جزء لا يتجزأ من أراضيها، وتصاعدت حِدة الموقف عندما أرسلت مصر قوات شرطية عسكرت قُرب المنطقة، فبعثت الخرطوم عدة فرق عسكرية قبضت على موظفين مدنيين وفدوا من القاهرة لترتيب إجراء الاستفتاء.

على وقع تلك الإجراءات تلبّدت الأجواء في ظروف سياسية مشتعلة تعيشها المنطقة منذ سنوات وكادت تفضي إلى حربٍ بين الشقيقتين لولا أن القاهرة استشعرت خطورة الموقف فتراجعت خطوة للوراء، مفضلةً التوصّل لحلٍّ سلمي عن طريق التفاوض المباشر بين البلدين، على أمل إنهاء أزمة لا نزال نعيش آثارها حتى اليوم.

بسبب هذه الأزمات المتتالية ارتبط ذلك المثلث الحدودي بالكثير من الحديث عن النزاع السيادي والقانوني على مُقدّراته، لكن، وللمفارقة الشديدة، لم ينعكس ذلك الاهتمام على أحوال سكانه وأصحابه الحقيقيين، الذين ندر الحديث عنهم وعن حيواتهم وعن التداعيات السلبية التي خلّفها ذلك التراشق المستمر على هويتهم.

عندما ظهرت الحدود

نتيجة تبعية السودان التاريخية لمصر فإن أحداً لم يهتم بتعيين حدود بين البلدين طوال عقود خضع فيها البَلدان للحُكم العثماني حتى صدر فرمان 1841 الذي منح مصر استقلالاً، وخطّ الحدود مع السودان عند خط عرض 21.5 شمالاً. ووفقاً لذلك وقعت منطقة وادي حلفا ضمن أراضي مصر آنذاك.

عندما عُقدت اتفاقية 1899 التي أقرّت الحكم الثنائي (البريطاني/المصري) على السودان تزحزحت الحدود إلى خط 22 شمالاً ونصّت على أن أراضي السودان تشمل جميع الأراضي الكائنة جنوب ذلك الخط، وبهذا اقتُطعت منطقة وادي حلفا وأدرجت ضمن حدود السودان.

حتى ذلك الإجراء لم يُثر حفيظة أحد بالقاهرة في ضوء أن السودان بأسره كان تابعاً لمصر، فلم يُنظر إلى هذه الاتفاقية على أنها تنازل عن أراضٍ وإنما إعادة ترتيب لأوضاع دولة واحدة هي مصر والسودان.

عام 1958 نشبت أزمة كبرى بين مصر والسودان على إثر مطالبة مصر لجارتها الجنوبية بالتخلي عن سيطرتها على مثلث حلايب الحدودي، وتمكين القاهرة من ممارسة حقوقها السيادية عليه، وأولها السماح لمواطني تلك المنطقة بالمشاركة في استفتاء رئاسي مُرتقب تنظيمه

على العكس فإن الانتقادات الكثيرة التي لاحقت تلك الاتفاقية كانت ضرورة عدم تعيين حدود بالأساس بين البلدين في ظل تنامي أحلام وحدة وادي النيل خلال سنوات ما بعد ثورة 1919، وهو كان مطلباً مصرياً ترددت أصداؤه كثيراً داخل السودان، واستمرّ حتى قبلت القاهرة بعد ثورة تموز/يوليو باستفتاء تقرير المصير الذي أفضى لرغبة السودانيين في إعلان دولتهم المستقلة.

على أية حال فإن التطبيق الحرفي لاتفاقية 1899 خلق عدة مشكلات للقبائل التي تعيش بين الحدود في مناطق توزعت جغرافياً بين البلدين. لذا أصدر وزير الداخلية المصري مصطفى باشا فهمي قراراً إدارياً في تشرين الثاني/نوفمبر 1902 بتعديل الحدود لتصحيح الاوضاع المعيشية للقبائل، فتُصبح قبائل البشارية ضمن دولة السودان وقبائل العبابدة داخل حدود مصر لتحقيق ما أسماه القرار بـ"الأصوبية الإدارية"، وفق ما جاء في بحث "أزمة حلايب سنة 1958" لجمال معوض، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة عين شمس، والذي نُشر من قِبَل مركز بحوث تابع لنفس الجامعة.

بموجب هذا التعديل الإداري انتقل مثلث جبل علبة (مثلث حلايب) إلى إدارة الحكم الثنائي، ومن ثم السودان، كما نُقل جبل بارنازوجا (بير طويل) للإدارة المصرية.

في أواخر 1957 وإثر تراجع فكرة الوحدة بين البلدين وتزايد شائعات نية أمريكا إقامة قاعدة عسكرية في ذلك المثلث، قررت مصر التراجع عن قرار وزير داخليتها، وجاء في مذكرة كتبتها وزارة الخارجية المصرية "إن الأصوبية الإدارية التي سمحت مصر بسببها بترك مثلث حلايب تحت الإدارة السودانية قد انتفت، بأن أصبحت الأصوبية الإدارية في عودة الأراضي المصرية إلى الإدارة المصرية"، وفقاً للبحث المذكور آنفاً.

في ذلك الوقت أيضاً ظهرت اكتشافات مبشرة للمعادن في باطن المنطقة، فضلاً عن تدهور العلاقات بين القاهرة والخرطوم بسبب مطالبة الأخيرة بتعويضات كبيرة لقاء الأضرار المحتمل أن تتعرض لها مناطقها الشمالية بسبب تداعيات بناء السد العالي.

في المقابل فإن منطقة "بير الطويل" الجدباء فقيرة الموارد لم تثر حفيظة أيِّ من البلدين رغم أنها خضعت لنفس ظروف حلايب الحدودية.

في هذا الوقت كانت العلاقات بين مصر والغرب تزداد تدهوراً يوماً بعد يوم، في ظل تأميم قناة السويس وصفقة الأسلحة التشيكية، فسعت أمريكا إلى توثيق علاقتها بحكومة عبدالله خليل، أحد مؤسسي حزب الأمة السوداني المعارض للوحدة مع مصر.

شاعت أنباء كثيرة عن نية السودان تسليم حلايب لأمريكا مقابل بعض المعونة الاقتصادية؛ الأمر الذي أثار قلق مصر، فسارعت القاهرة إلى طلب إعادة بسط سيطرتها على مثلث حلايب.

على وقع هذه الخطوة، اشتعل صراع قانوني بين البلدين ازدحم بالكثير من وجهات النظر القانونية التي يكاد يستحيل التوفيق بينها. فمصر تعتبر أن التعديلات الإدارية التي أُقرّت لاحقاً لا تعادل في قوتها الاتفاقيات الدولية، كما أن وضع السودان يده على المنطقة لا يُكسبه حقاً من حقوق السيادة، مهما تقادم الزمن. بينما اعتبرت الخرطوم أن حلايب خضعت لها إدارياً لعشرات السنوات مارست عليها فيها كل ظواهر السيادة، كمدِّ الخدمات العامة إليها ومشاركة سكانها بالانتخابات، بل إن أحد مشايخ القبائل كان عضواً في مجلس النواب السوداني، بل تمادى بعض السياسيين هنا وهناك لرفض اتفاقية 1899 وتعديلات 1902 بدعوى أنها صيغت بضغطٍ من الاستعمار.

وإزاء رفض كل بلد الاستجابة لمطالب الأخرى تزايدت حمى الأزمة، وفي السودان استغلت القوى المناهضة للسياسة الناصرية مثل حزب الأمة لتقود المظاهرات في الخرطوم ضد مصر وهم يمزقون صور عبدالناصر حتى أن جريدة الحزب صدرت بعنوان "جيش عبدالناصر يغزو السودان".

كما رصدت الأجهزة الأمنية المصرية معلومات عن نية أمريكا وإمبراطور الحبشة دعم السودان حال نشوب قتال عسكرية. في النهاية تراجعت القاهرة عن موقفها وأعلنت رغبتها في تسوية الأمر بالتفاوض.

بعد ذلك دخل النزاع "في الثلاجة" وظلّ صامتاً لعدة سنوات حظيت خلاله المنطقة بما يُمكن تسميته "إدارة ثنائية" جلبت الهدوء للمنطقة حتى أوائل التسعينيات، حين تصاعد الخلاف بين النظامَين الحاكمين في كلا البلدين.

فبعد الهوى الإسلامي الذي أظهره النظام السوداني بتقاربه مع إيران، وغلق جامعة القاهرة فرعَ الخرطوم، والسماح للجهاديين بإقامة معسكرات فيها، توّج ذلك محاولة اغتيال فاشلة لمبارك في إثيوبيا حزيران/يونيو 1995، ورفض السودان تسليم المتورطين في محاولة الاغتيال.

تدريجياً عززت مصر قبضتها على المنطقة، وفي 1994 تخلصت تماماً من أي سيطرة سودانية عليها، وفي 2000 أعلنت الخرطوم انسحاب بقايا قواتها من المثلث المتنازع عليه دون أن تتخلّى عن مطالبتها به.

أراضي البجا… لعلك محفوظ

تقع منطقة مثلث (شلاتين، أبو رماد، حلايب) في أقصى جنوب شرق مصر قرب الحدود مع السودان، تبلغ المساحة 60 ألف كيلومتراً مربع، وهي مساحة تمثّل 4/5 مساحة الدلتا.

تبعد عن القاهرة 1600 كم، وعن الغردقة 550كم، وعن أسوان 400 كم. تقطن المنطقة كثافة سكانية متواضعة، فقد بلغ عدد سكان شلاتين 23544 نسمة بحسب تعداد سكاني أُجري 2012، أصبحوا 25018 نسمة بحسب تقديرات إحصاء عام 2015، أما سكان منطقة حلايب وأبو رماد فلقد بلغوا 12195 نسمة.

أغلب هؤلاء السكان ينتمون إلى ما يُسمّى بجماعات "البجا"، والتي تنقسم إلى 3 قبائل رئيسية، هي: البشارية والعبابدة والرشايدة.

قبيلة البشارية: تشكل غالبية السكان وتنحدر من أصول أفريقية حجازية، تعمل بالرعي ويتركزون في الوديان والجبال والآبار، ويعملون بالصيد والتجارة. يتحدثون لغة البجا، وهي لغة محلية منطوقة غير مكتوبة لم تُسجّل بين دفتيْ معجم حتى اليوم.

ويُظهر البشارية انتماءً أكبر لقومية البجا الصحراوية أكثر مما تفعله غيرها من القبائل لدرجة أنهم يصرّون على الحديث بلغتهم المحلية حتى مع العبابدة الذين يعرفون اللسان العربي.

كما أن المحال التجارية المملوكة لأحد أبناء تلك القبيلة عادةً ما يكتب لفظة "البشاري" فوق لافتة المحل اعتزازاً منه بهويته.

ويُقال إن هذه القبيلة ترجع إلى الجد الأكبر بشار بن كاهل من قبيلة الكوهلة السودانية التي تنحدر من نسب الزبير بن العوام، تزوّج بشار من امرأتين من البجا، إحداهما حملت اسم أم علي والأخرى أم ناجي. من كلا المرأتين خرجت البشارية. بعد التقسيم الأخير في الحدود تواجدت "بشارية أم علي" داخل مصر أما "بشارية أم ناجي" فعاشوا بالسودان.

قبيلة العبابدة: تنحدر أصولها من شبه الجزيرة العربية، فهُم ينسبون أنفسهم إلى عبدالله بن الزبير بن العوام، يعملون بالرعي والصيد ومع بعض شركات التعدين. يتحدثون العربية ويعرفون أيضاً لغة البجا للتواصل بها مع البشارية.

وأخيراً قبيلة الرشايدة: تنحدر أصولها من وسط وغرب آسيا، وهي قبيلة "دخيلة" نسبياً على المنطقة؛ فبعدما وفدوا إليها انتشروا جنوب الشلاتين، ويعملون بالتجارة ورعي الجمال. يتحدثون لغة عربية أقرب للعامية المصرية، تعيش بمعزل عن باقي القبيلتين إلا لحاجة تجارة أو رعي.

البعض عاد بنسبها إلى قبيلة بني عبس بن عدنان، التي قدمت إلى مصر قبل أكثر من 200 عام من شبه الجزيرة العربية عبر السودان بحثاً عن الغذاء والماء، كما اختلطت تلك القبيلة العربية بقبائل البجة عبر المصاهرة.

وبحسب إحصاء سكاني أجري في 1993 قُدّر أن البشارية يمثلون 70% من السكان والعبابدة 20% أما الرشايدة فعددهم لا يزيد عن 10%.

عاش هؤلاء السكان لفترة طويلة بدون حكومة مركزية فدخلت تلك القبائل في صراعات وحروب كبيرة في ما بينها؛ لهذا فإن التحية المتبادلة بينهم باللغة المحلية ارتبطت بإظهار الرغبة في الأمن وأشهرها كلمة "دَبَايوا" التي تعني حرفياً "لعلك محفوظ" أو "دَبَي دِلهَيتت"، التي تعني "مكان آمن".

بعد دخول الإسلام إلى مناطق البجا واعتناقهم الإسلام وميلهم إلى المذاهب الصوفية، تأثرت لغة البجا تأثراً كبيراً بالعربية والمصطلحات الإسلامية وخاصة الكلمات ذات الأصل العربي كأسماء الشهور والأيام مع تغير كبير في طريقة النُطق.

رجال رمسيس: الإخوة الجيدون

أصل كلمة "البجا" أو "البجة" تعود للزمن المصري القديم، فيُعتقد أنها مشتقة من كلمة "الماجوي" وهي لفظة فرعونية قديمة بمعنى الحارس أو المحارب، فلقد استخدم ملوك مصر الفرعونية القبائلَ القديمة التي سكنت تلك المناطق في أعمال الحرب وحراسة حدود الصحراء.

أشهر مَن استعان بهم في حروبه هو الملك رمسيس الثاني الذي جنّدهم في عدة معارك، وبعد انتصاره عليهم أطلق عليهم لقب "ميجاوي"، وتعني الرجل المحارب في الفرعونية، كما أمر بتخليد تلك المساهمة في صورة نُقشت لهم وهم يحيطون به خلال الحرب، ولا تزال تلك اللوحة موجودة في معبد إدفو.

بعد عدة جولات قتالية بسط المصريون القدماء سيطرتهم على المنطقة، ونجحوا في استخراج الذهب من المناجم وتسخير أهالي المنطقة للعمل في تلك المناجم أو في تأمين القوافل وحماية الحدود.

من جانبها قدّست قبائل البجا إيزيس وأوزوريس وكانوا يزورون معبد فيلة، ويحملون معهم تماثيل إيزيس في رحلاتهم على سبيل التبرّك.

بسبب تلك العلاقة القديمة والوطيدة وقع تبادل لغوي بين الشعبين، وشاعت كلمات لغة كل قوم على لسان الآخر، منها مثلاً كلمة "سنفرو" التي تعني "الأخ الجيد" في اللغة البجاوية، وشاعت في مصر القديمة حتى تلقّب بها مؤسس الأسرة الرابعة ووالد الفرعون خوفو.

كذلك كلمة "بس" التي تعني "القطة" في اللغتين القديمتين، ولا يزال المصريون حتى اليوم يستخدمونها عند الإشارة للقطط في العامية المصرية.

أكثر من مجرد إقليم صحراوي

بسبب موقعها الجغرافي الفريد الواصل بين مصر والسودان وكذلك إطلالتها البحرية على سواحل اليمن والسعودية، أصبح المكان حلقة وصل تاريخية بين جميع تلك الدول.

هذه المكانة الجغرافية جعلت المنطقة محطةً مهمة في طريق الحج القديم، الأمر الذي جعلها محطًا لآلاف الزائرين الطامعين في زيارة الأراضي المقدسة.

تقع منطقة مثلث (شلاتين، أبو رماد، حلايب) في أقصى جنوب شرق مصر قرب الحدود مع السودان، تبلغ المساحة 60 ألف كيلومترا مربع، وهي مساحة تمثّل 4/5 مساحة الدلتا.

عام 614هـ، قام الرحالة ابن جبير برحلة شهيرة للمنطقة وقدّم وصفاً دقيقاً لها وخاصة ميناء عيذاب القديم الذي كان يُطلُّ على البحر الأحمر، وكان طريق الحجاج إلى جدة ومنها على مكة.

قال عنها ابن جبير في رحلته: "هي أحفل مراسي الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائد إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة، وهي صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل منها شيء إلا مجلوب، لكن أهلها بسبب الحجاج والتجار تحت مرفق كبير".

وحين تحدّث عن أهلها ألمح إلى أنهم يعيشون حياة قاسية بقوله "فسبحان مُحبب الأوطان لأهلها، على أنهم أقرب إلى الوحش منهم إلى الإنس، وهؤلاء البجاة نوع من السودان ساكنون بالجبال".

أيضاً تحدّث المقريزي في خططه عن المنطقة قائلاً: "على يمين عيذاب ناحية القبلة جبل خلفه صحراء عظيمة بها مراع واسعة وخلق كثيرون يسمون البيجا (البجا) وهم قوم لا دين لهم ولا ملة ولا يؤمنون بني أو إمام". بالطبع فإن ذلك الحديث جرى قبل اعتناق تلك القبائل الإسلام.

ليس هذا وحسب، وإنما أثبتت الحفريات الجديدة أن تلك المنطقة كانت حافلة بالحياة البشرية خلال عصور ما قبل التاريخ، وأن سكان تلك المناطق اتصلوا بنظرائهم في شبه الجزيرة العربية عبر البحر، وأنهم أظهروا براعة كبيرة في بناء المنشآت الحجرية وفي تزويدها بأدوات بدائية كالمطارق والصحون وأطباق الفخار.

رقصات الكرابيج!

الطبيعة الصحراوية الانعزالية التي نشأت فيها قبائل البجا صنعت كثيراً من عادات أهلها، فأغلب الرجال يطلقون شعورهم للوقاية من أشعة الشمس، كما أنهم يدهنونها بالودك، وهو دهن الغنم المأخوذ من الاجناب والبطن، ويُطهى على النار حتى يصير سائلاً خفيفاً تضاف عليه أعشاب عطرية مثل الصندل، لتمنحه رائحة ذكية.

كذلك يستخدمون لتصفيف شعورهم أمشاطاً خشبية طويلة الأسنان قادرة على تصفيف خصلاتهم الكثيفة. لا تخلو تلك الأمشاط من فنِّ بسيط فهم ينحتون عليها قطعاً تشكيلية مستمدة من تراثهم وثقافتهم؛ مثلثات ترمز للجبال التي تحميهم من غزوات الأعداء، الهلال الذي يهتدون به خلال رحلاتهم، البطل الشعبي أبو زيد الهلالي ممتطياً جملاً بدلاً من الفرس تأثراً بالبيئة الصحراوية.

برغم أن مصر حسمت السيطرة العسكرية على المنطقة لصالحها، فإن حسم مسألة الهوية الجامعة للأهالي لا تزال محل نظر بعدما ظلَّ الأهالي يترنّحون في انتماءاتهم بين الهوى السوداني أو المصري ربما حتى اليوم، بسبب تعقيدات السياسة والجغرافيا التي عصفت بأرضهم

كما يشيع بينهم استخدام أحجبة مربّعة الشكل لحماية الأرواح وجلب الأرزاق وأيضاً الوقاية من الثعابين والعقارب، تعلّق في الرقبة أو تُثبت على الذراع أو الساق بعد ربطها بشريط مبروم من جلد الماعز.

ويشيع جداً بين الذكور استخدام العصا بغضِّ النظر عن العُمر؛ فالطفل يحمل عصا مستقيمة للدفاع عن النفس، والصبي يحمل عصا هلالية الشكل لصيد الغزلان والأرانب، والرجل يحمل عصا مائلة من أحد طرفيها تسمّى "الحداثة" يستخدمها لفض المنازعات بين القبائل والاعتماد عليها في السير.

أما الخناجر فلا تُستخدم إلا متأخراً، إذ يُنظر لها على أنها علامة العبور من مرحلة المراهقة إلى النُضج، ويعدُّ من طقوس الزواج شراء العريس خنجراً له لأول مرة.

أما السيوف فعادة ما لا تُستخدم إلا في الرقصات مثل "الأوسيف"، وتشيع بين الرجال البجاوية رقصات دامية يلهبون فيها جلودهم بالسوط حتى تُدمى لإظهار الجلد وقوة الاحتمال خاصةً أمام العروس في حفل الزفاف، كما يمارسون رقصة أقل وطأة هي "البيبوب" التي يضربون فيها السياط عند أقدام بعضهم.

أما النساء فإن الطبيعة المحافظة انعكست على إبداعاتهن، فمارسن "الكوشيت"، وهي رقصة يهززن فيها رقابهن فقط.

الهوية المزدوجة

رغم أن مصر حسمت السيطرة العسكرية على المنطقة لصالحها، فإن حسم مسألة الهوية الجامعة للأهالي لا تزال محل نظر بعدما ظلَّ الأهالي يترنّحون في انتماءاتهم بين الهوى السوداني أو المصري ربما حتى اليوم، بسبب تعقيدات السياسة والجغرافيا التي عصفت بأرضهم.

عملياً فإن الكثير من عادات أهالي حلايب ظلّت "سودانية" لفترة طويلة من الزمن، بدءاً من الملابس وحتى طبخ الطعام طقوس الزواج والمياتم والأغاني الشعبية. رغم ذلك فإنهم يحملون هويات مصرية ويتلقون الخدمات والإمدادات الطبية والغذائية فقط من القاهرة، وهو ما دفع أحد مواطني حلايب للتصريح قائلاً: "نحن سودانيو العقل مصريو المعدة والبطن، ولا مشكلة عندي في ذلك".

على الرغم من ذلك فإن القاهرة بذلت ما يكفي من جهود لتمصير منطقة حلايب، بدءاً من عدم السماح للسودان بإدراج سكانها في تعداداته السكانية أو التحكم الدقيق في عمليات الدخول والخروج، والاهتمام بتوطين الخدمات الأساسية للسكان وربطهم بشبكة الطرق الرئيسية بالبحر الأحمر، فضلاً عن قيام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بزيارة للمنطقة، حظيت بتغطية إعلامية مكثفة حرصت على إظهار حفاوة أهالي المنطقة وهم يرحبون برئيسهم!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image