"فقدت نصف قلبي وأكتب لأنّ التذكّر مقاومة"... قصة علا حبيب والسويداء

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 10 سبتمبر 20258 دقائق للقراءة

تُشتّت المتابعة الانفعالية (أو الباردة)، على مواقع التواصل الاجتماعي السورية، الانتباه عن الأفراد وما ألمّ بهم، نتيجةً لأعداد الضحايا المتزايدة والمتابعة الآنية لحدثٍ بعينه؛ حدثٌ يتضمن عنفاً مهولاً ورعباً يتكرر، بحيث يصبح انتظار الستاتوس أو الفيديو القادم مجرد انتظارٍ لإضافة عددية ورقمية، تستعرض أخباراً وأسماء لضحايا جُدد قضوا في هذا اليوم، أو لمخطوفين آخرين أو مفقودين أو مشرّدين أو نساء مغتصبات. هذا هو حال السوريين القابضين على إنسانيتهم والمتضامنين مع الضحايا، منذ آذار/ مارس الساحل وصولاً إلى تموز/ يوليو السويداء. 

يأمل كثيرون في استراحة أو هدنة مع الذات ومع فيسبوك لالتقاط الأنفاس، لعلّها تكون فرصةً لهم، وفرصةً لذوي الضحايا قبل أيّ أحدٍ آخر، لكي يمتلكوا حقّهم في الحزن، وحقّهم في توديع أحبّتهم دون الخوف من مجزرة إضافية تخترق العزاء، وأيضاً لكي يلتقطوا أطراف القصة ويعثروا على أحرف مفتاحية لروايتها، أقلّه لأنفسهم ولأطفالهم حينما يكبرون. ثمة قصص كثيرة تستحق أن تروى، وهذه إحداها.

نكتب لأنّ "التذكر مقاومة"

في صباح يوم 30 آب/ أغسطس 2025، كانت عُلا حبيب، واحدةً من كثيرات وكثيرين من المتظاهرين في العاصمة الإيطالية روما، وأيضاً في عدد من المدن والعواصم الأوروبية، وهي مظاهرات ضمّت سوريين من مناطق عدة، خصوصاً من أبناء السويداء، وأيضاً من أبناء الساحل والأكراد وسوريين من مناطق أخرى، من المناهضين اليوم لسلطة الأمر الواقع الحالية في سوريا.

"قريتي الصغيرة التي كانت يوماً ما مهداً للحياة والأمل، لم تعد اليوم سوى ذكرى محطمة"... صرخة علا حبيب لوقف ثالوث القتل والحصار والتهجير في السويداء

تقف ابنة قرية الثعلة الواقعة في ريف السويداء، وزوجها وابنتها وهم يحملون صوراً لأشخاص فقدوهم ولآخرين لا يزالون محاصرين بعد إغلاق السلطة طريق دمشق السويداء، ضمن عملية متعمدة تهدف إلى منع أبسط مقومات الحياة من الدخول إلى المنطقة. تلقي ابنتها جوليا كلمة والدتها باللغة الإيطالية، وتقول فيها: "قريتي الصغيرة التي كانت يوماً ما مهداً للحياة والأمل، لم تعد اليوم سوى ذكرى محطمة، تأكلها النيران وأصوات الأسلحة. كل حجر ساقط، وكل بيت مهدّم، جرح غائر في قلبي. بيتي، ملاذي الدافئ المفعم بالدفء والذكريات، دُمّر مع ذكريات طفولتي، واللحظات التي جمعتني بعائلتي، والأحلام المتجذرة في تلك الأرض. انتُهكت أرضي واختفى معها السلام والابتسامات، ووعود الغد. وكأنّ الزمن توقف بألم، ولم يبقَ منه إلا الصمت والرماد.

حسان شقيق علا المغدور

وسط الأنقاض فقدتُ أخي الأكبر. لم يكن مجرد أخ، لقد كان بطلنا الشجاع، الرجل النبيل الكريم ذا القلب الرقيق والذراعين المفتوحتين. كان سيد البيت الذي استقبل الجميع بحبّ وفرح، وركيزة عائلتنا، وشهيد أرضنا وشرفنا. لكن أخي لم يمُت هكذا، بل انتُزع من الحياة بوحشية لا أستطيع استيعابها. أطلقوا عليه النار في رأسه، لكن الرصاصة اخترقت روحي أيضاً. ابتسامته ستبقى حيّةً في ذاكرتي، لكن الفراغ الذي خلّفته هوّة لن أستطيع أن أملأها. لن أتمكن من معانقته مجدداً، وهذه حقيقة وواقع يمزقانني كل يوم. حجزتُ رحلةً لأعانق أحبائي مجدداً، ولأعيش من جديد عبير وطني ودفء شعبي، لكن الحرب محت حتى ذلك الحلم. عدم قدرتي اليوم على رؤية عائلتي أشبه بالعيش وقد فقدتُ نصف قلبي. أنا بعيدة، لكن كل فكرة لديّ وكل نفس من أنفاسي، مع من يُكافحون من أجل البقاء، ومن يُقاومون، ومن لا يزالون يتحلّون بالأمل. لا يُمكن وصف هذا الألم بالكلمات. إنه صرخة صامتة تعيش في صدري، وجرح لا يتوقف عن النزيف. لكنني أكتب، لأنّ التذكّر مقاومة".

هذه صرخة من صرخات كثيرة تحاول مخاطبة العالم ودوائره الدولية ومراكز صنع القرار فيه، بعد أن فشلت المناشدات السورية-السورية بين من كان يُعتقد أنهم أبناء بلد واحد و"قضية" واحدة، لفكّ الحصار وفتح الطرق؛ صرخةٌ وألمٌ كبيران يستدعيان الوقوف عندهما مليّاً، ليس فقط بسبب البعد الإنساني والوجداني الذي يُبكي صخور جبل العرب وسوريا بأسرها، بل أيضاً بسبب ما تحمله تجربة تلك السيدة وما تختصره ضمن ثالوث الرعب الذي نزل بالمنطقة: القتل والحصار والتهجير، ومقتل أخيها ومعاناة ابن أختها بسبب الحصار، وهو الطفل المصاب بالسرطان، وتهجير أهلها واستباحة بيوتهم. 

مقتل حسان وحصار آخيل

دخل مسلّحو السلطة والعشائر إلى منزل شقيقتها، وظلّوا فيه ليلتين كاملتين، بعد أن نصبوا رشاشين من طراز "دوشكا" على الشرفة، ووضعوا المسدسات في رؤوس كل أصحاب البيت، ومن بينهم ابنهم، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة. لا تزال تستغرب وتشكر القدر على إبقائهم أحياء من قبل رجال السلطة برغم أنهم قتلوا كل جيرانهم. خرج حسان، أخوها، من أجل الوقوف مع أخوته ومساندتهم، وكذلك من أجل الاطمئنان على عائلته، وفُقد الاتصال معه بعد نصف ساعة من خروجه، مع انتشار الأخبار عن وجود قناصة في المنطقة، بالتزامن مع أخبارٍ أخرى عن القتل والإعدامات الميدانية واغتصاب النساء.

علا وأسرتها

كانت أمنيتها وعائلتها في البداية أن يكون مخطوفاً، فلربما تنفع الفدية في فكّ أسره. ترسل له ابنته رسالةً هاتفيةً: "بابا وينك؟"، لتستقبل ردّاً من أحدهم عبر هاتف أبيها يقول: "ماني جاي". تفرح في البداية عندما تقرأ الرسالة بشكل خطأ وبلهجة أهل المنطقة: "ما أني جاي!"، قبل أن يستحيل الفرح حزناً مديداً ومزمناً سيلازم العائلة. يقول أخوها مازن في اتصال معها: "لم أعد قادراً على إكمال البحث، لكنني سأكمل". لاحقاً، سيجدون سيارة حسان على طريق كناكر، وجثته بعيدةً عن السيارة بنحو 2 كم، وقد أصيب بطلق ناري بين عينَيه. 

طقوس دفن حسان لم تكن أقل فجائعيةً، فموكب الدفن الذي ضمّ جثثاً لأكثر من خمسين شخصاً من أبناء المنطقة، تعرّض بدوره للقصف والاستهداف، ما منع إكمال عملية دفن باقي الجثث، بما فيها جثته التي دُفنت في منطقة أخرى، بعد أن فشلت جهود البحث عن برّاد يحفظها لأيام، في ظلّ تعطل برّادات المشفى الوطني في السويداء. 

تَرَك أهل علا، أمّها وأخوتها وأخواتها، بيوتهم في الثعلة في ليلة من ليالي الهجوم البربري على المنطقة، وذهبوا إلى السويداء المدينة. أما هي، فكانت على موعد لزيارتهم وللّقاء مع حسان وآخيل وباقي العائلة قبل شهرين، بعد أن حجزت تذكرة الطائرة إلى سوريا، لكن المجزرة أطاحت بذلك الحلم

آخيل هو الابن الوحيد لشقيقة علا. انتظرته عائلته طويلاً إلى أن قدم إلى هذه الحياة. عمره اليوم خمس سنوات وهو مصاب بسرطان نادر يصيب الكلى عند الأطفال، وسبق له أن تلقّى العلاج في مشفى البيروني في دمشق. عاد أبوه من رحلة الاغتراب وأوقف عمله هناك، ليكون بجانب ابنه وزوجته في هذه المحنة، ثم باعت العائلة بيتها لتغطية نفقات العلاج والجرعات التي قد تصل إلى 700 دولار للجرعة الواحدة.

خلال الهجوم السابق على المدنيين من دروز السويداء وصحنايا وجرمانا، في شهر نيسان/ أبريل الماضي، باتت العائلة تواجه صعوبات مختلفةً في رحلة تلقّي العلاج، خصوصاً بسبب هويتها الطائفية، ووصل الأمر إلى درجة أنّ بعض مورّدي الأدوية طلبوا منها أن تتدبّر علاج ابنها في إسرائيل، كما تروي علا، ضمن أجواء التخوين التي طالت كثيرين يومها. وبعد ما حصل في المنطقة، اضطرت أم آخيل إلى إعطائه آخر جرعة حصلت عليها في بيتهم، برغم ما يرافق ذلك من مخاطر. يتبيّن اليوم وجود كتل سرطانية إضافية في جسم آخيل بسبب تعليق مسار العلاج، وبعد التهديدات التي طاولتهم والمجازر التي لحقت بالدروز، وطبعاً بسبب قطع الطريق إلى دمشق.  

تَرَك أهل علا، أمّها وأخوتها وأخواتها، بيوتهم في الثعلة في ليلة من ليالي الهجوم البربري على المنطقة، وذهبوا إلى السويداء المدينة. أما هي، فكانت على موعد لزيارتهم وللّقاء مع حسان وآخيل وباقي العائلة قبل شهرين، بعد أن حجزت تذكرة الطائرة إلى سوريا، لكن المجزرة أطاحت بذلك الحلم. 

لا يبدو أنّ ثمة أفقاً لنهاية هذه القصة، ولقصص مشابهة لها. دائماً، تترافق المجزرة أينما وقعت، بكلام ورطانة يستعيدان جملة تولستوي في رواية "الحرب والسلم": "لا تعتقد أنّ الألم من صنع البشر. إنّ البشر ليسوا إلا أدوات للألم". تضيع عبر تلك الاستعارات والإسقاطات المسؤولية عن الجريمة، مع ثبات كون البشر مكاناً أو أرضاً لنزول الألم، وربما كان من الأفضل الاستعاضة عنها بعبارة "تولستوية" أُخرى من الرواية ذاتها: "لو أردت تحقيق السلام في الأرض، فعليك أن تُغيّر دماء الناس إلى ماء، وهذا لن يتم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image