"نتعجب كي نكون"، وعجبنا يكون في اكتشاف العالم العربي بوصفه وجوداً كائناً، فلا يبقى خفياً علينا، بل يكبر موقع الثقافة العربية في أنفسنا بكشف الأسباب في السياق. هكذا تنقل المستعربة روسا إيسابيل مارتينث ليو رسالةَ أستاذها بدرو مارتينث مونتابث، وقد زرع في نفوس طلابه معنى العَجب واستمراره بفعل اكتشاف الذات في الآخر/العربي.
مونتابث الآتي من قرية خُودَر (شَودَر بالعربية) التابعة لقضاء خايين (جيان) في أندلوثيا (إقليم الأندلس)، يخبر تلميذته ومحاورته الأكاديمية أثير محمد علي في كتابها "فسيفساء لذاكرة حاضرة" بأن علاقته بشجرة الزيتون علاقةُ رمز لثقافة جمعية، وبأن إقليم الأندلس في اتّسامه بثقافات متنوعة، هو من خلق "النهر الكبير"، النهر الأب. فالزيتونة مع الكرمة تلخصان ثقافة حوض المتوسط سخاءً في الوجود الإنساني.
من المعهد الإسباني-العربي للثقافة إلى مصر مروراً بعواصم عربية
تختلف الانطباعات باختلاف التجربة في أي بلد كان يزوره. فكما فتنته جغرافية إسبانيا، يجد الأمر مماثلاً لما حدث معه في بلدان أخرى، مثل مصر التي زارها للمرة الأولى حين كان طالباً، بفضل منحةٍ مضاعفة نالها من الجانبين الإسباني والمصري، لتعميق دراسة الاستعراب. ويذكر بامتنان حسين مؤنس مدير المعهد المصري للدراسات الإسلامية آنذاك، موضحاً أن مدشنه طه حسين في مدريد.
ولا ينسى وصية أستاذه في أهمية دراسة الفصحى والعامية للغة العربية، فهما وجهان للغة واحدة. وفي وجهة مونتابث، تتحدد المحكية على الأغلب الأعم باللهجة المصرية. وهو القائل في حب مصر بأن اللقاء معها كان كشفاً، "سِفره يبوح بالتجلي حسب المعنى العربي للكلمة". ولم يقتصر على لحظة الرؤية، بل استمر في تجليات واكبت زمنه، إذ تبدأ رحلته (المعرفية والمكانية) في سن الثالثة والعشرين، حيث أبحر في شهر شباط/فبراير 1957، ليصل إلى ميناء الإسكندرية بعد عشرين يوماً.
رغم تعرفه بمدينتي طنجة وتطوان المغربيتين في أواخر الحقبة الاستعمارية الإسبانية، وصلاته بالعنصر العربي فيهما، لم يشعر هناك بأن المناخ الثقافي كان عربياً، لأن الإسبان، وفق ما يرى، لم يحققوا "أي نوع من العلاقات الحيوية ولا أي ملتقى مع السكان الأصليين"
تنقّل في هذه الرحلة بين موانئ عديدة، منها ميناء بيروت. ومدة الرسو لانتظار تفريغ حمولة مركب الشحن التجاري الذي كان على متنه، أتاحت له ولزوجته فرصةَ التعرف إلى بلاد الشام. وعلى طريق الشام من بيروت إلى دمشق انحشرا رفقة نحات يدعى عبد القادر مختار في بوسطة محملة بالركاب والأمتعة والحيوانات، "تماماً كأي بوسطة تسير على خط منعطفات (إقليم الأندلس)"، ولذا لم يشعرا بالغربة، فالمشهد كان مألوفاً لديهما.
لم يكتفِ مونتابث بزيارة القاهرة، "قاهرة الشعب السخي بطبعه"، وإن أفصح بأن الفضل في بلورة شخصيته يعود إلى تجربته في مصر. فقد أحب البلاد العربية ومدنها، فزار سامراء في العراق، وحلب، ودمشق، ورأس شمرة قرب اللاذقية، وتدمر، وشط العرب، فضلاً عن اليمن، وصحراء شبه الجزيرة العربية، والأطلس في المغرب. ومع كل تجربة تخليق لإحساسات مدهشة لديه.
في حضرة الأولياء وأمام تاريخ من الهجرات
في "سوق الحميدية" في دمشق تجول في البازار الشعبي والأزقة، ولفته طغيان صور جمال عبد الناصر في فضاء السوق. فيعبر بأن مصر أعلنت عن نفسها في هذه البقعة من المشرق العربي، بدءاً ببيروت. وفي أعالي "حي الصالحيّة" الدمشقي لفتته نسوة يقمن صلواتهن ويَتلون أدعيتهن في جوار ضريح الشيخ الصوفي الأكبر "محي الدين ابن عربي الأندلسي" (1164-1240م) المولود في مدينة مرسية، والذي أقام مدة من الزمن في إشبيلية.
ويلفت المستعرب الإسباني إلى شخصيات دينية ترجع بجذورها إلى الأندلس، هاجرت إلى المشرق العربي في مرحلة تسبق طرد الموريسكيين (بعد سقوط غرناطة 1492)، على غرار ولي الإسكندرية "أبو العباس المرسي الأندلسي" (1219-1297) الذي دعا إلى الطريقة الشاذلية في التصوّف، وأقيم له ضريح ضمن مسجد "المرسي أبو العباس" بطرازه الأندلسي. وفي المدينة نفسها زار مسجداً آخر يضم ضريح الإمام الفقيه الزاهد عبد الله الشاطبي (توفي 1360)، وقد عرج على دمشق قبل استقراره في الإسكندرية.
في مسجد ابن طولون صادف قطعاً فنية تماثل في فنيتها مسجد قرطبة الأندلسي. ويرد الأمر إلى أسفار الأندلسيين وهجراتهم خلال "حروب الاستعادة" (وفق تسمية التاريخ الإسباني). وهذا ما يرغب في التنبيه إليه بأهمية دراسة الحضور الأندلسي في المشرق العربي، بحيث أن مغربَه كان سباقاً إلى العناية الوافية بهذا المجال من التنقيب والبحث.
ورغم تعرفه بمدينتي طنجة وتطوان المغربيتين في أواخر الحقبة الاستعمارية الإسبانية، وصلاته بالعنصر العربي فيهما، لا سيما بالشاعر المغربي محمد الصباغ، لم يشعر هناك بأن المناخ الثقافي كان عربياً، لأن الإسبان، وفق ما يرى، لم يحققوا "أي نوع من العلاقات الحيوية ولا أي ملتقى مع السكان الأصليين". ولتلك الأسباب يموضع علاقته مع الثقافة العربية في شمال المغرب في نهاية المرحلة الاستعمارية.
مع مجلة "الرابطة"، وفي "مدرسة الألسن العليا"، و"معهد ثربانتس"
يتوقف مونتابث في رصده للحالة الثقافية والمزاج المصريين أمام فئتين من الطلاب تعامل معهم من جهة، وشريحة واسعة من المثقفين من جهة أخرى، موضحاً أنّه رجل مكتب/مكتبة ورجل شارع. ويعجب بالمنجز الثقافي والتربوي العظيم في مصر رغم قسوة النظام العسكري الديكتاتوري آنذاك. ويجد أن "الناصرية" في منحى الإمكان الفكري، لا السياسي، "حركة تاريخية حاولت تقديم إجابات على تساؤلات ملحة... أكثر منها حركة خلق".
كما فتنته جغرافية إسبانيا، يجد الأمر مماثلاً لما حدث معه في بلدان أخرى، مثل مصر التي زارها للمرة الأولى حين كان طالباً
شغل منصب المدير التقني "للمركز الثقافي للدراسات الإسبانيّة" (تأسس في عام 1931) وغدا اسمه فيما بعد "معهد ثربانتس"، وهو المركز الثقافي الإسباني الأول من نوعه في الشرق الأوسط. كما كان يلقي دروساً في قسم اللغة الإسبانية في "مدرسة الألسن العليا" (مؤسسها رفاعة الطهطاوي) التي تحولت إلى كلية في جامعة عين شمس.
عمله في مدرسة الألسن وفي المعهد على السواء أتاح له التعرّف بفئتين من الطلاب؛ ففي الأولى اكتشف مجموعة من الطلاب تدعو للإعجاب، إذ خلفت لديه انطباعاً إنسانياً قوياً لما يتمتع به أفرادها من بساطة وعفوية وشغف في الإقبال على التعلم، علاوة على إيمانهم ببلدهم وانهماكهم بقضاياه. ويسجل ملاحظته بشأن حشمة الشابات العربيات وحيائهن، وهن بالرغم من تمتعهن بالبراءة لا تفوتهن مسحة من "المَلعَنة" على حد تعبيره.
أما في الثاني، أي المعهد، فطلابه كانوا في غالبيتهم بعمر ناضج، ومن أصول أجنبية، وينتمون إلى المجتمع البرجوازي. وهم على عكس طلاب مدرسة الألسن، لجهة رؤيتهم واقع البلد عن بعد، وتخطيطهم للهجرة. فثمة حياتان مختلفتان بين الصباح (في مدرسة الألسن) والمساء (في المعهد)، "كأنه العيش في عالمين متباينين. المساء كان العالم ما بعد الاستعماري".
يرى مونتابث تصنيفاً مجازياً لأهل مصر في فئتين: "الكاتب المصري، أو شيخ البلد". عمله على إصدار مجلة "الرابطة" ثنائية اللغة (العربية والإسبانية)، مكنه من عقد لقاءات مع كبار المبدعين، والترجمة لهم، في الوقت الذي كان حضور بعضهم لا يتجاوز الحيز العربي أو المصري، أو لم تصل شهرته إلى الفضاء الأوروبي الغربي. فأول نص لنجيب محفوظ تُرجم إلى الإسبانية كان من مجموعة "همس الجنون". وضمت المجلة التي ساعد في تحريرها محمد كمال يوسف، نصوصاً ليوسف الشاروني، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الخميسي، ويحيى حقي الذي وسمه بلقب "بسمة مصر".
الحاضر/الحاضرات- الغائب/الغائبات
ثمة لقاءات كثيرة للمستعرب مع شخصيات ثقافية عربية بحكم الاشتغال، كما ورد في السطور السابقة، وآراء تكونت لديه نتيجة التعمّق في معرفة هذه الشخصيات على المستويين الشخصي والأدبي، تحتاج ليُفرد لها حيز أوسع. لكن ما كان يفتقده في مصر هو عالم النساء الثقافي، لجهة المعرفة الموضوعية بالشخصية النسائية المثقفة. ويذكر في هذا السياق اسمين لكاتبتين: السورية كوليت خوري، والمصرية سلوى بكر، حيث أتاحت له الظروف التواصل معهما.
بدرو مارتينث مونتابث يصف علاقته -بزملائه أيام الدراسة في مدريد- بالحاضر العربي الذي أُجبروا على تجاهله، والاكتفاء آنذاك بالتعرف إلى ماضيه لصلته بتاريخ الأندلس البعيد فحسب، تماماً كما جاء طي كتاب أدونيس "الحاضر الغائب"
ومع اللغة العربية من جديد، إنما عبر لحظ طرق المحادثة وشعائر تبادل الحديث هذه المرة، فيصف مونتابث العالمَ العربي بأنه "نتيجة للتعاقد أو صيغة التوافق بين أطراف مختلفة"، مشبهاً تعامل المستعرب في التحاور مع العربي بلعبة مبارزة "سيف الشيش". حيث يرى أن العرب هم من معلّمي المحادثة بامتياز؛ ففي الحوار طرف يمتلك ناصية الكلام، وآخر يصغي إليه، في مناورة "يعلّم المتحدث في نفس الوقت الذي يتعلم فيه".
ويجد أن ظاهرة الأندلس، وإن انتهت في الزمن، فهي لم تهاجر وجودَها، بل باقية في الذاكرة. ولعله، في انشغاله النقدي والأدبي، وفق إلى المحايثة بين الأخلاق والجمال، وإن تضمن جهده هذا الرؤية الإغريقية في مفهومها للمثال الأعلى للجمال-الخير، إلا أنها رؤية تجد تمثلاتها في معنى لفظ "الحُسن" العربي، وتقترب من فكرة أدونيس في "أن في كل قصيدة عربية هناك قصيدة أخرى هي اللغة". هكذا تعامل مع الاستعراب بكيفية وفق مقولة "كل مرة نعرف فيها أكثر، فإننا نفهم أقل".
بدرو مارتينث مونتابث يصف علاقته -بزملائه أيام الدراسة في مدريد- بالحاضر العربي الذي أُجبروا على تجاهله، والاكتفاء آنذاك بالتعرف إلى ماضيه لصلته بتاريخ الأندلس البعيد فحسب، تماماً كما جاء طي كتاب أدونيس "الحاضر الغائب". أما مقاربة العالم العربي في الأزمنة الحديثة فكانت تجري من خلال الاستعراب ومن طريق دراسة الأدب. فما الذي عناه الشرق بالنسبة إلى الغرب؟ يجيب بأن الشرق والغرب واقعان مجازيان، وهما لفظان يشيران إلى "معنى جغرافي ذي بُعد ثقافي، ولكننا جميعاً نشكل الشرق والغرب بآنٍ واحد بمقتضى تموضعنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...