كنا في الصف الرابع الابتدائي. كانت المعلمة تقلّب دفاتر واجبات الطالبات. وصل الدور إلى "زينو". وبينما كانت أوراق دفترها تُقلّب، فكّرتْ في أمسها، حين تقيأت الأومليت ساعةَ الكتابة؛ بالحرارة التي لا يمكن للمروحة مقاومتها. خرجت من أفكارها على صوت المعلّمة: "هذه 60 فقط، ارفعي يدك".
رفعت المعلمة مسطرتها الحديدية لتوقعها على يد زينو الصغيرة. وبينما كانت المسطرة تقطع طريقها إلى يدها، أرجعتها للخلف. اصطدمت مسطرتها بالطاولة وسقطت. قامت زينو بحركة سريعة، قبضت على المسطرة الحديدية، وقبل أن تعلم المعلمة ما الذي حدث، رطمت مسطرة المعلمة على وجهها وهربت. عادت إلى البيت وقالت لأمها: "لن أذهب إلى المدرسة، أريد العمل". منذ يومها الثاني، ذهبت مع أمّها التي تعمل في سوق سمك مدينة عبادان، وأصبحت لها عربة تحمل البضاعات عليها مقابل أجر.
حين كنت أكتب هذا المقطع كمقدمة عن زينو وكرة القدم، جاء خبر ضرب وشتم وإغماء مهسا (جينا) أميني على يد شرطة الحجاب، ويمرّ اليوم على الحادث 75 يوماً. من شدّة حزني أغلقت اللاب توب. ارتديت ثيابي وخرجت من البيت، ومنذ اليوم الثاني، مع خبر موت مهسا، تغيّرت الحياة في إيران.
أنا أعشق كرة القدم. من الأفضل أن أقول إنني كنت كذلك، حتى قبل 75 يوماً. كانت كرة القدم دائماً من مواضيعي الأساسية في الأحاديث. ولكن لم يعد الأمر كما كان، أنا أيضاً مثل الكثير من الإيرانيين، لم أعد كما كنت
مع بداية كأس العالم، مع مرور أكثر من شهرين على موت مهسا وقتل ما يقارب 500 شخص من أبناء وطننا وسجن الآلاف من المتظاهرين وصدور أحكام بالإعدام، أريد العودة إلى هذا النصّ. بالطبع ليس كما كانت بدايته قبل شهرين، بل كما تسير حياتي وحياة من حولي وأبناء وطني.
أنا أعشق كرة القدم. من الأفضل أن أقول إنني كنت كذلك، حتى قبل 70 يوماً. كانت كرة القدم دائماً من مواضيعي الأساسية في الأحاديث. ولكن لم يعد الأمر كما كان، أنا أيضاً مثل الكثير من الإيرانيين، لم أعد كما كنت.
تعرفت على زينو قبل ثمانية أشهر عن طريق صديق. امرأة عربية لاعبة كرة قدم من إحدى مدن جنوب غرب إيران المحاذية للحدود العراقية، عبادان. هي أيضاً عاشقة لمشاهدة كرة القدم، وأيضاً مثل كلّ محبات كرة القدم الإيرانيات، من أجل قوانين الجمهورية الإسلامية، محرومة من مشاهدة كرة القدم من داخل الملاعب.
حين كنتُ في العاشرة أحببتُ كرة القدم. كنتُ أتابع مع أبي مواجهة منتخب إسبانيا في يورو 2000. في لحظة التبديل، نزلت امرأةٌ من مقاعد إسبانيا متجهة إلى الحكم الرابع. سألتُ أبي مستغربةً: هل يمكن للنساء الدخول في فريق الرجال؟ ضحك أبي وقال: "نعم بابا، في إيران فقط لا يحقّ للمرأة دخول الملعب".
برؤية زينو، خطرتْ لي فكرة العمل على فيلم وثائقي عنها يركز على محور أمل الذّهاب إلى كأس العالم، إذ تقام بطولة كأس العالم في الشرق الأوسط، بالقرب منا، وقد تكون أفضل فرصة للإيرانيين وخاصة الإيرانيات المحرومات من دخول الملاعب، لمشاهدة البطولة عن قرب. بالطبع زينو وكثيرات مثلها ومثلي، ولأنّ الوضع الاقتصادي بائس في إيران ومن أجل ما يحتاجه السفر من مال، لا يمكننا السفر. كان حلماً فقط، مجرد حلم. رافقت زينو حتى نعيش هذا الحلم.
ذهبتُ إلى مدينتها وقضيتُ فيها شهراً. صوّرتُ حياة زينو. صوّرتُ مكانَ عملها، الملعب، المقهى، لعبة PS4 مع أخواتها وبنات أختها، البيت من الداخل، مشاهدة المباريات، إلخ. وكنا بين هذا العمل اليومي نتحدث عن أحلامنا. تحدق زينو وهي ترتدي قبعتها الرياضية في الكاميرا وتقول مجيبة على أسئلتي: "أقول الحقيقة؟".
رافقتُ زينو من أجل عمل ما إلى جنوب إيران. حين جلسنا على شاطئ البحر تخيّلنا أنفسنا على سطح سفينةٍ تتجه نحو قطر. باحت زينو بذكرياتها عن فريق كرة الصالات حين كانت تلعب في المدينة، فاقترح عليها شخص أن يأخذها بقارب إلى دبي، كي تكون عضوة في فريق محترف، ولكن شريطة أن الفريق لا يدفع راتباً، بل كان على اللاعبات تأمين المال ليتمكّنّ من اللعب. رفضت زينو الاقتراحَ، خوفاً من الغرق في دبي، بينما كانت تلعب في الفرق الإيرانية براتبٍ قليل، كما هي حصة الرياضيات في إيران، إضافة إلى أنها كانت مجبرة على العمل لسدّ ما تحتاجه وعائلتها.
قالت لي زينو: "أنا مستعدة أن أعمل على سفينة لكي أذهب إلى مونديال قطر، بل وأن أقف خلف بوابات الملاعب. لدى أبي بطاقة شركة بحرية، سأسرقها وأغامر. بالنهاية قضيت عمري عاملة. أنا معتادة على الأمر". ضحكتُ. ولكن وسط هذه الضحكات، تذكرتُ 6500 عامل أجنبي ماتوا في قطر ضمن الاستعداد لكأس العالم 2022، حسب تقارير منظمة العفو الدولي، لأنهم عملوا في ظروف صعبة وكانت درجة الحرارة مرتفعة.
قلت لزينو: "إذا وصلنا هناك سأعمل في مجال الإعلانات المسجلة، وأنتِ اعزفي في الديسكوهات لكي نحصل على ما نحتاجه من مال". قالت زينو: "ليس في قطر مثل هذه الأمور، ليس فيها ديسكوهات. إنهم مثلنا. ما يختلفون به عنا هو أنّ السائحات لسن مجبراتٍ على ارتداء الحجاب مثل النساء القطريات. حتى إنهم ليسوا مستعدين من أجل المونديال إعطاء الحرية لبعض الممارسات".
تشجّع زينو المنتخب البريطاني. حين ذهبنا في الصباح الباكر إلى الشاطئ، تصوّرت أنها في الملعب. كانت بين مفترق طرق: هل تشجّع إيران أم بريطانيا؟ قالت: "لو سجّلت إيران هدفاً سأفرح، ولو حدث تساوٍ سأرضى به".
حين يكون دخول النساء إلى الملعب قضية سياسية، كيف يمكن القول إنّ كرة القدم ليست سياسية؟ وهل يمكن في دولة تطلق النار على طفل في السابعة، ألا نكون سياسيين؟!
بدأ الحرس الثوري الإيراني قبل أيام بمجزرة في كردستان إيران؛ أكثر من مئة قتيل خلال بضعة أيام! بدأت مباراة إيران وبريطانيا. سرتُ مع صديقتي، دون حجاب، في شوارع طهران، لنرى هل خرج الناس دعماً للمدن الكردية أم لا. المدينة لا تبدو عليها علامات كثيرة تدل على المونديال، سوى لافتات البلدية الساذجة في دعم منتخب يراه الكثير الآن أنه ليس منتخباً وطنياً مع وضع صور عن فرح اللاعبين إلى جانب صور القتلى الدامية. كان أكثر أصحاب المحلات يتابعون المباراة في الداخل، وفجأة تصاعد صراخ وصيحات. مَن سجّل هدفاً؟ حين وصلنا إلى أحد المحلات انتبهنا: البريطانيون. بعد دقائق سجّلت إنكلترا الهدف الثاني. كلهم، ومن ضمنهم أنا، قفزت في الهواء وفرحنا. وقف شابّ يحدّق في التلفاز. قلت له: "يا سيد نحن متقدمون بهدفين". قال متعجباً وهو مشوش: "ماذا؟ لكن البريطانيين متقدمون". قلنا: "لا، الشعب الإيراني متقدم على منتخب النظام".
قبل المجمع التجاري كان الناس يقفزون في الهواء ويقولون وهم يضحكون في الشوط الأول: سجلوا فيهم أربعة أهداف. منذ الهدف الثالث، لحظة إطلاق جمل ساخرة على الشرطة، كنا مع الناس نصفق ونصفر، وصرخت صديقتي: "عارنا عارنا، منتخبنا الوطني الأهبل".
كنا نعبر مفترق طرق حين رأينا الشاب المستغرب منا قبل قليل. ضحكنا ورفعنا يدينا بعلامة أربعة. وصلنا إلى متجر كتبِ صديقنا. مرّت عشرون دقيقة من الشوط الثاني حين تناهى إلينا صراخ أربع فتيات. قال بائع الكتب: "إنهن (بَسيجيات)، سجّل طارمي (اللاعب الإيراني) هدفاً".
سمعنا بعد خمس دقائق صوتاً من عمارة أخرى فرحاً بهدف بريطانيا السادس. خرجنا، ومعنا أحد باعة الكتب. كانوا قد سجلوا في مرمى إيران الهدف السادس. قال أحد شرطة القمع: "الحمد لله لقد خسرت إيران". وجّهت صديقتي كلامها مباشرة إليه لتعرف إن كان جاداً حقاً. سأل مرافقُنا: هل أنت سعيد لأنّ الناس لا ينزلون إلى الشارع من الفرح، ولن تجبر على العمل؟ وبدأ في الحديث معه ألا يقتل الناس، وكنت أسحبه وأمنعه عن الكلام.
قال الشرطي القامع بابتسامة لصديقي: "لا يمكن، إذا لا أحتسي كأساً من الدّم لن أشعر بالراحة". حين سمعتُ هذه الجملة سحبتُ صديقي بكلّ قوتي، وعبرنا الشارع. على الجانب الآخر تجمع بضعة أشخاص خلف واجهات المحلات. قلنا قد نتمكن بالاختلاط مع هذه المجموعة لندعم مَهاباد وجَوانْرود، المدينتين الداميتين هذه الأيام، بالشعارات.
سمعنا: ضربة جزاء لصالح إيران. بعضهم أطلق صرخات. وحين سُجّل الهدف قفز بعضهم في الهواء. بالتأكيد أنهم مرتدو الثياب المدنية وهم مخبرون. فلم نتمكن من إطلاق الشعارات. كان البعض يصرخ أمام مجمع تجاري: "ستة، ستة". قال أحدهم: "يكفي هدف واحد لنصل إلى البرازيل، إذ سجلت ألمانيا في مرماه سبعة أهداف".
كان البعض يسخر من الأناشيد الوطنية الحكومية المنتجة من أجل المنتخب الوطني. قال أحدهم: "آخر مرة شاركنا في كأس العالم وبفرق النقاط، خسرنا من ثلاثة منتخبات، وبعد أشهر حدثت الثورة".
حتى الآن تحكم البلاد مثل هذه الأجواء. حتى في العام 2014 عندما سجل في الدقيقة الأخيرة ميسي هدفاً، خرج الناس إلى الشوراع مفتخرين بالخسارة الكريمة، بيد أنني لم أكن أبداً بجانب منتخب إيران الوطني. لماذا عليّ تشجيع فريق، وحسب قوانين إيران لا يُسمح لي بدخول الملعب لمشاهدة المباراة؟ التعامل المزدرئ للحكومة مع النساء، الذي دفعني إلى دعم كرة القدم هو الدعم للقضية النسوية، هل يبقي أمامي فرصةً للدعم أصلاً؟ حين ذهبتُ في عمري مرة واحدة إلى الملعب، وبمنّة الحكومة على النساء (خصصنا 500 تذكرة من 100 ألف تذكرة لكنّ)، ومع مسافة 50 متراً تفصلنا عن الرجال، إذاً لمَ الدّعم؟ ذهبت تلك المرة فقط من أجل الاعتراض على عدم المساواة، وهجمت الشرطة علينا، وأُجبرت على إظهار التذكرة التي اشترتها لي صديقاتي لكي لا أُضرب. وما إن دخلتُ، حتى نبهتني نساء يرتدين الشادور ويدافعن عن المظاهر الإسلامية بأن أراعي حجابي وسيجارتي، ويخاطبن كلّ المدخنات بـ"القحبة".
في لحظة التبديل نزلت امرأة من مقاعد إسبانيا متجهة إلى الحكم الرابع. سألت أبي مستغربةً: هل يمكن للنساء الدخول في فريق الرجال؟ ضحك أبي وقال: "نعم بابا، في إيران فقط لا يحقّ للمرأة دخول الملعب"
والآن في هذه الأيام الصعبة والسوداء، كيف يمكن دعوة الناس إلى دعم منتخب انحنوا أعضاؤه قبل سفرهم إلى قطر أمام قتلة الشعب؟ لن ينفع الآن مهما كانت مقدمات خطبهم، وإن لم يرددوا النشيد الوطني أو لم يفرحوا بعد كلّ هدف. ذلك الركوع أمام قاتل الشعب يكفي ليتمنى الشعبُ خسارةً مخزية لهم. الشعب لا يدعم هذا المنتخب الوطني لأنه لم يقف مع الشعب. يتحدث الآن اللاعبون في حواراتهم أنهم ليسوا سياسيين، ويدعون: لا تسيسوا كرة القدم! حين يكون دخول النساء إلى الملعب قضية سياسية كيف يمكن القول إنّ كرة القدم ليست سياسية؟ وهل يمكن في دولة تطلق النار على طفل في السابعة، ألا نكون سياسيين؟!
بعد مباراة إيران وبريطانيا، لم أسأل زينو: ما هو شعورك؟ لا أعتقد أنها تختلف عن أكثر الناس. يجب أن أضيف ذلك إلى فيلمي الوثائقي. الوثائقي الذي آثرتُ أن أتركه في هذه الفترة، لأنّ كلّ شيء تغيّر. فلستُ أنا الفتاة السابقة ولا زينو. ولن تنتهي أحلامنا بالبحر وأرض الملعب. هذه الأيام نبحث عن أحلامنا في شوارع إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 19 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...