السلطان سليمان في الصالون العربي… الوجه المزدوج للمسلسلات التركية

السلطان سليمان في الصالون العربي… الوجه المزدوج للمسلسلات التركية

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 13 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

"نور"... ظاهرة ثقافية

عندما صدح في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة صوت الممثل التركي الوسيم كيفانش تاتليتوغ في دور "محمت"، والذي ظهر في العالم العربي باسم "مهند"، بلكنة سورية مألوفة في البيوت العربية، لم يكن كثيرون يتوقعون أن ترتبط حياة وأرواح الناس في العالم العربي إلى هذا الحد بالمسلسلات التركية. لكن ما لبث أن جلس الملايين يومياً أمام الشاشات في معظم بلدان المنطقة بشغف لمتابعة هذا المسلسل، حتى تحوّل خلال عام أو عامين فقط إلى ظاهرة ثقافية عربية؛ فقد شكّلت "نورمانيا" (نور) حدثاً إعلامياً أثبت أنه بالإمكان إحداث تغيير في المعايير الاجتماعية والثقافية من دون الحاجة إلى تدخل مباشر من السياسة الرسمية.

كانت النساء والفتيات الشابات اللواتي شغفن بالقصص العاطفية أكبر شريحة من جمهور هذا المسلسل. وقد سهّلت التشابهات الثقافية والدينية، وشكل العائلة والعادات والتقاليد المشتركة بين تركيا وهذه البلدان، نشوء علاقة حميمية بين المشاهدين الجدد وشخصيات العمل. مثّل مسلسل نور بالنسبة إليهم إحدى أولى التجارب التي أظهرت المرأة المسلمة بوصفها عاملةً، مبدعة، مستقلة، وفي الوقت نفسه أمّاً وزوجة مخلصة تسعى وراء أهدافها الشخصية والاجتماعية. هذا النموذج دفع كثيراً من النساء العربيات إلى رؤية انعكاس لذواتهنّ في شخصية تتجاوز الأدوار التقليدية، فوجدن فيها مساحة للتماهي والتعاطف.

مسلسل "نور"

من ناحية أخرى، صار مهند بمثابة أرْكتايب أنثوي محبوب: رجل مخلص، عاطفي، جذاب، عاشق وداعم. كثير من النساء، خصوصًا في دول الخليج، بدأن يقارِنَّ أزواجهن بمهند، وهو ما أظهرته تقارير رسمية عدّة تحدثت عن ارتفاع معدلات الخلافات الأسرية، وزيادة توقعات النساء العاطفية، بل وحتى الطلاق في بعض البلدان. كما اختارت كثير من الأمهات أسماء أبطال المسلسل لأولادهن، وافتُتحت مقاهٍ ومطاعم تحمل أسماء نور ومهند، بل أضيفا إلى قائمة العلامات التجارية المفضلة. حتى السياحة التركية شهدت انتعاشاً ملحوظاً، إذ سافر عدد كبير من المعجبين إلى إسطنبول لرؤية أماكن تصوير المسلسل.


تحوّل مسلسل نور خلال عامين فقط إلى ظاهرة ثقافية عربية؛ إذ غيّر المعايير الاجتماعية والثقافية من دون تدخل مباشر من السياسة الرسمية

في المقابل، هاجم علماء دين سعوديون وغيرهم من الزعماء المحافظين المسلسلَ، واعتبروه مفسداَ أخلاقياَ وضد التعاليم الإسلامية، بل وصل الأمر إلى إصدار فتاوى تحرّم مشاهدته. لكن هذه الاعتراضات لم تؤثر في شعبيته، إذ واصل الناس متابعته، وسجّل الحلقة الأخيرة 85 مليون مشاهد في العالم العربي، في رقم قياسي غير مسبوق في تاريخ الدراما بالمنطقة.

الحب الممنوع في "حريم السلطان"

بعد نجاح مسلسل نور، قرر المستثمرون والمنتجون العرب استبدال المسلسلات اللاتينية بالمسلسلات التركية على قنواتهم الفضائية. ومن منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، تُرجم أكثر من مئة مسلسل تركي إلى العربية. بعضها حقق جماهيرية هائلة، على غرار "العشق الممنوع"، "فاطمة"، "حريم السلطان"، و"قيامة أرطغرل".

نال حريم السلطان شعبية أكبر بين الرجال، ورأى محللون أنه كان نوعاً من الدعاية الناعمة لحكومة أنقرة عبر بث حلم العودة إلى أمجاد الإمبراطورية العثمانية. أما "قيامة أرطغرل"، الذي تناول قصة تأسيس الإمبراطورية في العصور الوسطى، فقد لقي متابعة واسعة رغم فتاوى التحريم في دول مثل مصر والسعودية والإمارات. وتشير دراسات إلى أن نساء سعوديات تتراوح أعمارهن بين 20 و60 عاماً بدأن بعد متابعة هذه الأعمال بإعادة التفكير في دور المرأة وهويتها، ما فتح أمامهن آفاقاً جديدة عن الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وطرح الأسئلة حول التقاليد والأعراف.

مسلسل "حريم السلطان"

ومع تزايد شعبية الدراما التركية في المنطقة، حرص ممثلون ومخرجون ومنتجون على زيارة الدول العربية للتواصل مع جماهيرهم. فقد أكد هاليت أرجنتش (سلطان سليمان)، والمنتج عرفان شاهين، ومدير تصدير الدراما التركية عزّت بينتو أن التشابهات الثقافية والدينية والتاريخية تقف وراء نجاح هذه المسلسلات في العالم العربي. أما كيفانش تاتليتوغ (مهند) فقال في مقابلة مع "خليج تايمز": "الجمال هدية من الله، لكنني أعتقد أن الناس أحبوا الشخصية أكثر من ذاتي. إنهم يجدون التناقض بين مظهري وشخصية الدور جذابًا، خصوصًا أن الشخصية تنتمي إلى ثقافة تشبه ثقافة الشرق الأوسط بأسره".

كذلك برز بوراك أوزجيفيت، نجم "حريم السلطان" و"حب أعمى"، كأحد أكثر الممثلين الأتراك إثارة للجدل في أوساط الجمهور العربي، إذ لاقى استقبالاً ضخماً خلال زيارته إلى دبي. وقال في تصريحات: "متابعوني على وسائل التواصل الاجتماعي مهمون جدًا بالنسبة لي، لأنهم يرون هناك أكثر مما يشاهدونه على التلفزيون، وتواصلي مع جمهوري العربي كبير في هذه المنصات".

عشاء سلطاني

من أكثر الأخبار إثارة للجدل كانت مشاركة بوراك أوزجيفيت في مأدبة عشاء مع ثمانين امرأة ثرية في الكويت، أطلقت عليها وسائل الإعلام اسم "العشاء السلطاني". أقيم الحفل، الذي قيل إن شركة تجارية نظّمته في فندق "فور سيزنز"، وسط موجة انتقادات داخل تركيا. انتشرت تقارير –نُفيت لاحقاً– تقول إنه تقاضى 50 ألف دولار مقابل الحضور وحصل على سيارة ماكلارين كهدية. وقد أثارت الصور والفيديوهات ضجة، دفعت الجهة المنظمة ومدير أعماله إلى التأكيد أن المناسبة كانت مجرد دعوة ودّية تكريمية.


رغم الشعبية الجارفة، معظم هذه المسلسلات تقدّم حياة زائفة للطبقات المخملية، ما يغذّي التطلعات المستحيلة ويعمّق الفوارق الطبقية

لكن صحفاً تركية طرحت سؤالاً: ماذا لو كان الأمر معكوساً، أي أن ممثلة عُزمت على عشاء مع ثمانين رجلاً؟ كيف ستكون ردود فعل النقاد والمحافظين والجمهور، في تركيا أو في العالم العربي؟ وفي عام 2022 أقيم حفل مشابه في روسيا، ظهرت خلاله مشاهد مثيرة مثل قيام بعض المعجبات بتقبيل يده. ومؤخراً، تداولت وسائل إعلام خبراً عن عرض قدمه أحد معجبيه في السعودية بدفع مليون دولار للجلوس بجانبه على المائدة، لكنه لم يعلّق على صحة الخبر.

الهروب من الواقع إلى الدراما

ورغم الشعبية الجارفة لهذه المسلسلات، فإنها كانت دائماً موضع نقد وتحليل جدي من خبراء الإعلام، وهو ما لم يرقَ إلى اهتمام الجمهور العريض أو النجوم. يرى نقاد أن معظمها ضعيف المحتوى، مضلّل، بل ومناقض للواقع. إذ يظهر فيها أبطال أثرياء وناجحون من دون تعليم أو خبرة، لكنهم يحققون إنجازات كبرى. وتكشف القراءة الأيديولوجية لهذه القوالب المكررة أنها تقدم صورة مشوهة وغير واقعية لصراع الحداثة والتقليد وهوية المجتمع التركي.

فهي تركز على حياة الطبقات المخملية بأطر مكررة وزائفة، ما يغذي التطلعات المستحيلة والحنق من الحياة العادية، ويزيد من الشعور بالفوارق الطبقية. أما موضوعاتها، فغالباً لا تتجاوز قصص الحب المتشابهة والعائلات الفقيرة جداً أو الثرية جداً، من دون تقديم صورة حقيقية عن تركيا. هذا التضليل الإعلامي أوقع أضراراً غير قابلة للتعويض في الحياة الأسرية بمجتمعات المشاهدين.

مسلسل "حريم السلطان"

ويشكو الجمهور التركي نفسه من إطالة غير مبررة، إذ يُمدد مشهد من خمس دقائق ليُعرض على ساعتين أو ثلاث، فضلاً عن التطبيع مع العلاقات السامة، والعنف الجسدي واللفظي ضد النساء. كما يُلاحظ أن الفكاهة في كثير من هذه الأعمال تقوم على النكات الجنسية والجندرية التي تستهدف النساء.

ورغم أن شعبية المسلسلات التركية وفّرت فرصة كبيرة للتبادل الثقافي والدبلوماسية الناعمة، إلا أنها طرحت في الوقت نفسه أسئلة جدية حول جودة السرد وتمثيل المرأة والعلاقات الاجتماعية. وفي النهاية، تبقى هذه الأعمال متأرجحة بين الترفيه والنقد الاجتماعي، فيما يعكس حضورها في الإعلام العربي أن الإقبال الشعبي، مع الحاجة إلى دراسات أعمق ونقد أشمل، لا بد أن يُؤخذ معاً بعين الاعتبار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image