تُعدّ مباني خزانات المياه من أبرز الأمثلة وأكثرها عمليةً في العمارة المدنية، لأنها من الأعمال الخاصّة التي تتم دراستها تحت عنوان المنشآت المائية، ويمكن إيجاد هذه الخزانات بكثرة، في مدينة إسطنبول، التي كانت عاصمةً للإمبراطورية البيزنطية ثم العثمانية على مدى قرون، وكانت هذه الخزانات تحظى باهتمام السيّاح والمؤرخين والمعماريين، بالإضافة إلى تلبية احتياجات سكان المدينة.
هذه الخزّانات العملاقة، التي تتمتع بتاريخ يمتد لآلاف السنين، وتشتهر بجمالها وعظمتها الساحرة، تُعدّ من بين الكنوز الفنية والثقافية المهمة لمدينة إسطنبول، إذ كانت لها في الماضي مهمة رئيسية هي تخزين المياه العذبة، كما أنها كانت تُبنى وفق طريقتين: مفتوحة ومغلقة، وتعمل إما عن طريق تجميع مياه الأمطار ومن ثم تنقيتها، أو عن طريق الاتصال بقنوات مائية وتخزين مياهها، ومن ثم توصيل تلك المياه عبر الأنابيب إلى القصور والأحياء. يتغير عدد الصهاريج المعروفة في إسطنبول، باستمرار، حيث تتم إضافة أسماء جديدة إلى القائمة بين الحين والآخر، ولكن يمكن القول إنه يوجد اليوم في إسطنبول ما يقارب السبعين صهريجاً تاريخياً، ومن المؤكد أنها تعود جميعها إلى العصر البيزنطي.
صهريج البازيليك
صهريج أو خزان "البازيليك" (حوض الكاتدرائية أو القصر المغمور)، الذي يُعدّ أكبر خزّان مغلق في إسطنبول، شُيّد في عهد قسطنطين العظيم في القرن الثالث الميلادي، حيث أمر الأخير ببناء سرداب كبير تحت الأرض في قبو الكنيسة الكاثوليكية "البازيليكا"، التي كانت تقع في الساحة الرئيسية في القسطنطينية. بعد ذلك وخلال ثورة نيكا الكبرى، التي تُعدّ الانتفاضة الأكثر عنفاً ودمويةً في تاريخ القسطنطينية، في القرن السادس الميلادي، وفي أثناء عهد جوستنيان الأول، دُمّر نصف المدينة وقُتل عشرات الآلاف من الناس، كما دُمّرت كنيسة آيا صوفيا، وجزء كبير من البازيليكا أيضاً.
يمكن إيجاد خزانات المیاه بكثرة، في مدينة إسطنبول، التي كانت عاصمةً للإمبراطورية البيزنطية ثم العثمانية على مدى قرون، وكانت هذه الخزانات تحظى باهتمام السيّاح والمؤرخين والمعماريين، بالإضافة إلى تلبية احتياجات سكان المدينة
حينها، أمر جوستنيان الأول، الذي مرّ بأوقات عصيبة، بتحويل قبو البازيليكا السابق إلى صهريج لتزويد القصر والمباني المحيطة بالمياه في أثناء حصار المدينة أو المعارك اللاحقة. وبالفعل في أثناء حصار إسطنبول في عصر نهاية الإمبراطورية البيزنطية، تم استخدام هذا الخزّان كملجأ، ولجأ إليه الناس والجنود الفارون من الحصار العثماني، ومن هذا المنطلق، لم يكن غرض هذا القبو توفير المياه للمدينة فحسب، بل كان موقعاً استراتيجياً يُستخدم في أوقات الشدّة والحرب.
شُيّد هذا الصهريج، على يد 7،000 سجين، وحافظ على مكانته وأهميته لقرون كثيرة، وصولاً إلى القرن الخامس عشر، وبعد فتح إسطنبول على يد العثمانيين، كان يُستخدم كخزّان للمياه في البداية، لكن بعد فترة من الزمن، فضّل العثمانيون استخدام المياه الجارية على المياه الراكدة في الخزّان، وأنشأوا مرافق مياه خاصةً بهم في المدينة، واستبدلوها بالخزانات البيزنطية، بعدها تحوّل خزّان "البازيليك" إلى إسطبل، ثم أصبح قبواً منسياً لفترة طويلة.
اكتشاف القصر المغمور
في منتصف القرن السادس عشر، سافر المؤرخ والمترجم والطوبوغرافي الفرنسي بيير جيل، إلى إسطنبول لدراسة المخطوطات الرومانية القديمة، وخلال دراسته سمع من السكان المحليين الذين كانوا يعيشون بالقرب من آيا صوفيا، قصة خزّان مخفيّ تحت الأرض يستخرج منه الناس الماء سرّاً، إذ كان واسعاً وكبيراً إلى درجة أنّ الناس كانوا يستخدمون فيه القوارب الصغيرة ويصيدون من مياهه الأسماك. وبرغم أنّ القصة كانت أشبه بحكاية خرافية، تابع بيير الموضوع وظلّ يبحث عن المكان هذا.

خلال بحثه عن الخزّان، ذهب بيير، إلى كنيسة خشبية مهجورة، ودخلها باستخدام مصباح ونزل درجات حجرية كي يصل إلى الموقع المنشود، ولدهشته وجد نفسه في خزّان ضخم، بين العديد من الأعمدة الحجرية. حينها قام باستكشاف المكان بأكمله بالقارب الذي وجده، وقد كتب بيير، بالتفصيل عن ذلك المكان في مذكراته، كما شجعت كتاباته عن خزّان "البازيليك"، العديد من السيّاح على السفر إلى إسطنبول، ولكن السلطات العثمانية لم تكن سعيدةً باكتشاف الكنيسة، لذلك قامت برمي القمامة والجثث فيها كي تمنع السيّاح من زيارتها وكانت تُعدّ تحفةً فنيةً معماريةً.
العمود الباكي
صهريج البازيليك، هو بناء مستطيل الشكل مبنيّ من الطوب ومرتكز على أساس حجري، وللوصول إلى المبنى السفلي الغريب والجميل، يجب النزول 52 درجةً حجريةً، ويبلغ طول هذا القبو المستطيل 143 متراً وعرضه 65 متراً، وتبلغ قدرته على تخزين المياه 100 ألف طن، كما تحيط بالقبو جدران من الطوب يبلغ قطرها 4 أمتار و80 سنتيمتراً، وكلها مغطاة بـ"ملّاط" مقاوم للماء.

أول ما يلفت الانتباه عند الدخول إلى هذا الصهريج، هي الأعمدة الـ336، المقسّمة على 12 صفّاً من 28 عموداً، وهذه الأعمدة التي يبلغ ارتفاع كل منها 9 أمتار، جميلة ومهيبة وتبدو كأشجار غابة ترتفع من الماء، إذ تثير صورة هذه الأعمدة المذهلة المغمورة بالمياه، في أذهان أهل إسطنبول ذكريات القصر المهيب، ولذلك يطلق أهل الشوارع والأسواق على هذا الخزّان البيزنطي اسم "القصر المغمور".
وتبدو هذه الأعمدة وكأنها جُمّعت من مبانٍ مختلفة، ونُقلت إلى القبو، حيث لكلّ مجموعة منها نحت خاص، فبعضها مزخرف بكثرة وبعضها بسيط ولا يحتوي على أي زخارف أو نقوش. معظم الأعمدة أسطوانية الشكل، وبعضها محزّز وله نتوءات، ومن بين هذه الأعمدة، هناك عمود يحمل تصميماً يشبه عين الطاووس مع فروع متدلية تشبه الدموع، ولذلك يُعرف هذا العمود باسم العمود الباكي، إذ يعتقد البعض أنّ هذا العمود وُضع في القبو لإحياء ذكرى السجناء الذين فقدوا حياتهم في أثناء بناء هذا الصهريج.
ميدوسا المقلوبة
أما الجزء الأكثر أهميةً وشهرةً في هذا المبنى، فهو قواعد العمودين المشيّدين في الزاوية الشمالية الغربية للقبو، لأنهما على هيئة رأسين عملاقين لأسطورة "ميدوسا"، موضوعَين تحت عمودين على شكل قاعدة. ويُعدّ هذان الرأسان لميدوسا من روائع الفن النحتي في العصر الروماني، ولا أحد يعرف من أين جاءا ولا من بقايا أيّ مبنى تم نقلهما إلى الصهريج. ويعتقد الباحثون، بشكل عام، أنها جُلبت إلى هناك فقط لاستخدامها كقواعد أعمدة.

وميدوسا، هي ابنة الأسطورة الإغريقية وإله البحار، فوركيس، التي ضاجعت بوسيدون، وهو إله آخر للبحار والمياه العذبة، في معبد أثينا، ولذلك أثارت غضب إلهة الحكمة أثينا، ولمعاقبتها، قامت الأخيرة بتحويل شعرها إلى ثعابين بشعة ومرعبة، بحيث يتحوّل أيّ شخص ينظر إلى وجه ميدوسا، إلى حجر على الفور، وهذا هو السبب في أنّ صورة ميدوسا كانت تُنقَش في كثير من الأحيان على الدروع أو مقابض السيوف، كما كانت تُستخدم صورتها لإبعاد الأرواح الشريرة عن المباني الكبيرة، فكان يوضع نقش رأس ميدوسا في مكان ما في المبنى.
سرداب الحب والرغبة
اليوم، يتراوح منسوب المياه في الخزان بين 25 سنتيمتراً ومترٍ واحد، فيها العديد من الأسماك الصغيرة والكبيرة، التي لوجودها ارتباط مباشر بمصدر إمداد المياه لهذا الخزان، الذي يبعد 19 كيلومتراً عن موقع الصهريج في غابة بلغراد.
لا يزال هناك العديد من الأنفاق غير المكتشفة تحت "البازيليكا"، وقد تكون بعض هذه الأنفاق عبارةً عن مسارات تربط الخزّان بهياكل أخرى قريبة وبعيدة، إذ من الممكن أن تكون هذه الهياكل متبقيةً من العصرين البيزنطي والعثماني
المسافة الكبيرة بين قنوات المياه والمسار الطويل المتعرج الذي تسلكه المياه للوصول إلى القبو، جعلا الرومان غير قادرين على حماية المياه بشكل دائم حتى وصولها إلى قصر الإمبراطور، وبما أنّ هذا القبو كان يوفّر مياه الشرب للقصر، فقد قرروا إطلاق وتربية عدد كبير من الأسماك في الممر المائي وفي القبو، بحيث إذا حدثت محاولة محتملة لقتل الإمبراطور عن طريق تسميم المياه، سوف يعرفون من خلال موت السمك.

شهد هذا الخزّان العديد من قصص الحب عبر التاريخ، وأشهرها قصة المهندس الذي بنى السرداب، وأحبّ الإمبراطور وكان حبّه مستحيلاً، فانتحر في الأخير في السرداب نفسه، وقصة حبّ الأميرة الرومانية والجندي الشاب، الذي كانت تلتقيه كل ليلة في القبو، ولذلك اشتهرت قصتهما بين الناس، وبعد ذلك علمت الأميرة بخيانة حبيبها لها، فخبّأت نفسها في أنفاق القبو. وكان خزّان البازيليك موضوعاً للعديد من الكتب والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، كما سافر معظم السياسيين والفنانين المشهورين في العالم إلى إسطنبول لزيارته.
يقال إنه لا يزال هناك العديد من الأنفاق غير المكتشفة تحت البازيليكا، وقد تكون بعض هذه الأنفاق عبارةً عن مسارات تربط الخزّان بهياكل أخرى قريبة وبعيدة، إذ من الممكن أن تكون هذه الهياكل متبقيةً من العصرين البيزنطي والعثماني، ومترابطةً مع بعضها بعضاً. كما يعتقد بعض علماء الآثار، أنّ صهريج البازيليك كان جزءاً من مبنى أكبر تحت الأرض، وهو ما يجعل هذا القبو أكثر غموضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ يومl
Frances Putter -
منذ يومyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 3 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 3 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 3 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ أسبوعيقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..