"نفسي في حتة لحمة"... اللحوم للملوك والعدس لبناة الأهرام

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 29 يوليو 20258 دقائق للقراءة

نحن المصريين أمّة تقدّر اللحم. هذا التقدير يتجسّد بشكل جليّ في مشهد السيدة المُسنّة التي ما إن رأت محافظ القاهرة، إبراهيم صابر، يمرّ في حي الجمالية لمتابعة فعاليات سوق اليوم الواحد، حتى باغتته بطلبها المفاجئ: "نفسي في حتة لحمة".

فعلها المحافظ، وأخرج من جيبه نقوداً تتراوح ما بين 350 و450 جنيهاً مصرياً (بين 7 و9 دولارات)، وهو سعر كيلو اللحم في مصر هذه الأيام، واشترى حلم المسنّة، وأعطاها إيّاه، فرصدته العدسات، وكتبت المواقع ما جرى، مُصدِّرةً الواقعة بعنوان: "لفتة إنسانية".

إذا ما تغاضينا عن تصوير موقف المحافظ والإشادة الإعلامية به كـ"موقف إنساني نبيل"، عوضاً عن مساءلته عن عدم قدرة هذه المواطنة -التي هو مسؤول عن تحسين وضعها المعيشي وتوفير سبل المعيشة الكريمة لها- على شراء اللحم أو الطعام بوجه عام، حتى باتت هزيلةً غير قادرة على الوقوف والمشي، فقد يُلحّ السؤال التالي: لماذا لم تطلب شيئاً آخر يفيدها لفترة أطول؟ 

في واقعة طلب سيدة مسنّة من محافظ القاهرة: "نفسي في حتة لحمة"، أتوقع أنّها حين رأت المسؤول، الذي يحيط به الموظفون والأمن وشعرت بأهميته من الهالة المرافقة له وإن لم تستوعب من يكون، وقعت في حيرة من أمرها، في صورة أقرب إلى ما جرى مع أبطال فيلم "الإرهاب والكباب"

لماذا لم تطلب العجوز ما هو أهم؟

للإجابة عن هذا السؤال، سنكون بحاجة إلى تعريف "الأهم". فالأهمية أمرٌ نسبي. فإن كنت، عزيزي القارئ، ترى أنّ الأهم راتب شهري يقي السيدة المسنّة شرّ الطردة في العراء، أو يوفر لها علاجاً لركبتَيها اللتين تكاد لا تستطيع الوقوف عليهما، خلال حديثها مع المحافظ الذي لم يطلب حتى إحضار كرسيّ لها، فقد أخبرتنا العجوز أن لا الراتب ولا علاج ركبتيها لهما أهمية بالنسبة لها، فكل ما يهمّها "بضع قطع من اللحم".

أتوقع أنّ السيدة حين رأت المسؤول، الذي يحيط به الموظفون والأمن وشعرت بأهميته من الهالة المرافقة له وإن لم تستوعب من يكون، ربما وقعت في حيرة من أمرها، في صورة أقرب إلى ما جرى مع أبطال فيلم "الإرهاب والكباب" المعروض عام 1992، حين ظنّت وزارة الداخلية أنّ من في داخل مجمّع التحرير إرهابيون، بينما عكس مطلبهم الوحيد أنهم في حقيقةِ الأمر مجرد موظفين لا يريدون سوى حياة كريمة تحترم آدميتهم.

في المشهد الشهير، وزير الداخلية، الذي جسّده الفنان كمال الشناوي، يخاطب المواطن "الإرهابي" (جسّده عادل إمام)، فيسأله: ما هي مطالبكم؟ لم يجد المواطن ردّاً، وكأنه نسي ما يريد، لكنه التفت حوله ليسأل الموجودين عما يريدون، فاختاروا جميعاً "أكلة كباب"، وبعد أخذٍ وردّ، وصولات وجولات مع الوزير، وافقت الحكومة، ثم غنّى الجميع ابتهاجاً: "الكباب الكباب… يا نخلّي عيشتكو هباب".

وفي هذا السياق، يقول الكاتب محمد نعيم، في كتابه "تاريخ العصامية والجربعة"، إنّ تاريخ السينما يفضحنا حين يقدّم علاقتنا بالطعام كعلاقة فانتازيا شبقية، فغالبية الأفلام التي كان محورها ظهور جِنّي المصباح السحري أو عفريت خاتم سليمان لأحد بسطاء القوم، مثل أفلام "عفريتة هانم" و"الفانوس السحري"، والتي كان يشترط فيها الجِنّي عند ظهوره تنفيذ عدد مُحدّد من الأمنيات لسعيد الحظ، سنجد دوماً "أنّ الأمنية الأولى المطلوب تحقيقها هي الطعام الوفير والمتنوع والنادر: صينية عملاقة تحتوي على خروف مشوي أو ديك رومي مُحاط بشكل دائري بالدجاج والحمام المحشو".

ويفسّر نعيم اعتبار الفقراء للأكل "أمنيةً"، بأنّ الغالبية العظمى من المصريين ـ-على حد تعبيره- تحمل في أدمغتها "ذاكرةً ما للجوع وعدم الأمان الغذائي، يجري توريثها ثقافياً من جيل إلى جيل".

تمرّ الأيام، وتأتي ثورة 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011، التي حار الجميع في وصف الحالة التي عاشتها البلاد وقتها، إلى درجة أنّ كثيرين ممن عاصروها نسوا ما كنا نريد: هل نريد إصلاحاً سياسياً؟ أو نريد تحسّناً اقتصادياً؟ أو لا هذا ولا ذاك، وكل ما نبتغيه عودة الشريعة الإسلامية من منظور جماعات الإسلام السياسي؟

تلك الحالة من التشظّي الفكري والوجداني التي عشناها، لخّصها الكاتب الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، في حوارٍ أجراه مع الفنان عمرو واكد، نهايات شهر آذار/ مارس من العام نفسه، حين وصف الثوار بـ"من صعد إلى سطح القمر، ثم قرّر أن يكتفي بطلب كيلو كباب".

يفسّر نعيم اعتبار الفقراء الأكل "أمنيةً"، بأنّ الغالبية العظمى من المصريين ـ-على حد تعبيره - تحمل في أدمغتها "ذاكرةً ما للجوع وعدم الأمان الغذائي، يجري توريثها ثقافياً من جيل إلى جيل"

اللحوم للملوك والعدس لبناة الأهرام

حين كان قدماء المصريين يعملون على تحنيط موتاهم استعداداً للحياة الأخرى، لم تقتصر تحضيراتهم على الجسد فحسب، بل امتدت لتشمل كل ما من شأنه أن يوفّر راحةً وكرامةً للموتى في عالمهم الأبدي. وكان من أبرز هذه التجهيزات الطعام، بما في ذلك اللحوم التي كان يُفترض أن يتناولها المتوفى في الآخرة.

وفي دراسة أجرتها عالمة المصريات الدكتورة سليمة إكرام، بالتعاون مع باحثين من جامعة بريستول البريطانية، توصّل الفريق إلى نتائج مذهلة حول طريقة تجهيز الأطعمة، وتحديداً اللحوم، داخل المقابر الملكية والمقابر الخاصة بالنخب الثرية. فقد كشفوا عن وجود لحوم محنّطة، ومغلّفة بطبقات من الراتنج، وهو صمغ طبيعي يُستخرج من أشجار كانت تنمو قديماً في بلاد كنعان، فلسطين ولبنان وأجزاء من الأردن وسوريا حالياً.

من الدراسة نفهم أنّ الاهتمام بوجود اللحم برفقة المتوفى كان ميزة لا يتمتّع بها إلا ملوك وأثرياء الزمن القديم، أما فقراء المصريين القدماء فكان "طعامهم الفول والعدس والحمص واللوبيا"، أو كما يقول عبد الفتاح عناني في كتابه "أطعمة الفراعنة": "العدس استُخدِم بوفرة كغذاء للمصريين القدماء، وكان من أهم الأغذية التي تُقدّم كطعام لبناة الأهرام من العمّال والفنّيين".

وعلى مرّ التاريخ، اللحوم الحمراء في الوجدان المصري أكثر من مجرد صنف غذائي. إنها رمز للكرم، ومؤشر اجتماعي، وأمنية لا تتحقق على موائد الفقراء إلا في أيام البركة، حين يذبح الأثرياء أضاحيهم ويجودون ببعضها على أهل الصدقات.

اللحوم في العصر الحديث... شغلت الرؤساء كلّهم

منذ خمسينيات القرن العشرين، ومصر تعاني أزمةً في الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء. ففي زمن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، برزت المشكلة في أكثر من خطاب له، وأوضحها ذات مرة قائلاً: "إحنا بلدنا مش ممكن هتدّينا كفاية ذاتية في اللحمة... إذاً، لازم نستورد لحمة. طب هنستورد لحمة بإيه إذا مكنتش أصدّر؟! هل حدّ هيدّينا لحمة مجاناً؟ محدش هيدينا لحمة مجاناً، لازم نصدَّر قطن، نصدَّر خضروات، نصدَّر فواكه، إذا مصدرناش مش هقدر أجيبلكم لحمة. أجيبلكم لحمة منين؟!".

وفي عصر خلفه، الرئيس محمد أنور السادات، تفاقمت الأزمة أكثر، مع دخول مصر زمن الانفتاح الاقتصادي، وارتفع سعر اللحوم بشكل عدّه المصريون آنذاك "مبالغاً فيه"، ونزحوا إلى الشوارع يومي 18 و19 كانون الثاني/ يناير عام 1977، مُخاطبين رئيس مجلس الشعب آنذاك، المهندس سيد مرعي: "سيد مرعي يا سيد بيه... كيلو اللحمة بقى بجنيه".

منذ عصر الفراعنة، وعلى مرّ التاريخ، اللحوم الحمراء في الوجدان المصري أكثر من مجرد صنف غذائي. إنها رمز للكرم، ومؤشر اجتماعي، وأمنية لا تتحقق على موائد الفقراء إلا في أيام البركة، حين يذبح الأثرياء أضاحيهم ويجودون ببعضها على أهل الصدقات 

وقبل تسعة أيام من قيام ثورة 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011، التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، كشف التقرير الشهري للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن ارتفاع أسعار اللحوم بنسبة 1.7 %، ووصل الكيلو آنذاك إلى 60 جنيهاً (نحو دولار ونصف الدولار وفق سعر الصرف الآن).

منذ العام 2011 وحتى اللحظة التي سلَّم فيها محافظ القاهرة كيلو من اللحم للسيدة المسنّة، ومصر تعتمد بشكل كبير على الاستيراد لتلبية أكثر من 60% من احتياجاتها من اللحوم، سواء كانت لحوماً مجمّدةً أو حيّةً، وتأتي اللحوم الحية في الغالب من البرازيل وإسبانيا، بينما يتم استيراد اللحوم المجمّدة من الهند والبرازيل. كما أنّ مصر تعتمد على الخارج في توفير الأعلاف ومكوناتها الأساسية، ما يجعل الأسعار المحلية شديدة التأثر بالتقلبات في الأسواق العالمية وسعر صرف الجنيه أمام الدولار، وفقاً لإحصائية نشرها المجلس المصري لبحوث الرأي العام "بصيرة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image