في أيار/ مايو 2019، تفاجأت نورهان أحمد* وأسرتها، بظهور أعراض غير معتادة على شقيقها، عُدي*، الذي كان يدرس في كلية طب القصر العيني التابعة لجامعة القاهرة، شملت هلاوس سمعيةً وبصريةً حيث "كان يسمع ويرى هو فقط أشياء غير موجودة، مع شكوك لديه في أننا (أفراد أسرته) ندبّر مكائد للتخلّص منه".
حدث ذلك قبل أن يختفي بضع ساعات ويظهر في حالة متدهورة، ما دفع الأسرة إلى الاتجاه نحو مستشفى عين شمس التخصّصي، أملاً في إيجاد علاج مناسب لابنها الشاب لدى الأطباء النفسيين. لكن محاولتها اصطدمت بقلة الاهتمام وتكدّس المرضى داخل العنابر نفسها. "وصل العدد إلى ستة أفراد في العنبر الواحد"، تلفت نورهان، مشيرةً إلى ما شكّله ذلك من ضغطِ نفسي إضافي على شقيقها. إزاء ذلك، أدارت الأسرة بوصلتها نحو أحد مستشفيات العلاج النفسي الخاصة برغم التكلفة المرتفعة.
وفي حين سمحت الظروف المادية لنورهان وأسرتها بالمضي قدماً في علاج شقيقها في أحد المستشفيات الخاصة، فإنّ مصريين كثراً لا يستطيعون ذلك، ما يضطرهم إلى التغاضي عن مساوئ أقسام ومستشفيات العلاج النفسي الحكومية، ولا سيّما أنّ الرسوم الرمزية التي يتم دفعها تجعلها خدمات شبه مجانية.
زيادات ناهزت الـ300% في بعض الخدمات ووزارة الصحة تبرّرها بتحسين الخدمة… إلى أين تتجه الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط لعلاج ذويها من المرض النفسي والإدمان؟ وهل أصبح العلاج النفسي في مصر متاحاً للأغنياء فقط؟
لكن ذلك الخيار الوحيد -على علّاته- لن يكون متاحاً لمئات الأسر المصرية بعدما رفعت وزارة الصحة والسكان المصرية، بقرارها رقم 220 لسنة 2025، حول اللائحة المالية والإدارية لصندوق تحسين الخدمة في مستشفيات الصحة النفسية ومراكز علاج الإدمان التابعة للأمانة العامة للصحة النفسية، الخدمات العلاجية التي تقدّمها بنسب تخطّت 300% في بعض الأحيان.
زيادة هائلة
وبحسب ما يظهر على موقعها الرسمي، تتبع 16 مستشفى وأربعة مراكز متخصصة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان، للأمانة العامة للصحة النفسية. غير أنّ الأمينة العامة لمستشفيات الصحة النفسية وعلاج الإدمان في وزارة الصحة والسكان المصرية، منن عبد المقصود، كانت قد صرّحت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، بأنّ "الأمانة تمتلك 24 مستشفى تقدم جميع خدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان في 17 محافظةً". كما أعلنت الوزارة المصرية في الشهر نفسه عن "تخطيط الوزارة لإنشاء وافتتاح وتطوير عدد من مستشفيات الصحة النفسية وعلاج الإدمان، بتكلفة إجمالية تُقدّر بنحو 14 مليار جنيه بين عامي 2024 و2026".
ويحدّد قرار وزارة الصحة، الذي جرى تعميمه على مستشفيات الصحة النفسية كافة على مستوى الجمهورية، الأسعار الجديدة للخدمات العلاجية، حيث تبدأ تكلفة الإقامة فقط للمريض عن اليوم الواحد، 150 جنيهاً للدرجة الثالثة، و180 جنيهاً للثانية، و300 جنيه للأولى، و380 جنيهاً للأولى الممتازة.
في حالة الإقامة في "جناح" خاص، يصل المبلغ عن يوم واحد أيضاً، إلى 550 جنيهاً. وفي حالة استخدام مرتبة هوائية، يتم تحصيل مبلغ 70 جنيهاً إضافيةً يومياً. ويُتاح للمريض خدمة تمريض خاص على أن تتم محاسبة التمريض على أساس 650 جنيهاً عن اليوم الواحد. وجميع هذه المبالغ لا تشمل مصاريف الخدمات الطبية والعلاجية.
وشمل القرار رفع سعر كشف التخاطب إلى 50 جنيهاً، وسعر جلسة الاستشارة إلى 40 جنيهاً، وسعر جلسة التدريب الفردي بواسطة معالج/ ة إلى 40 جنيهاً، وسعر جلسة التخاطب الجماعي إلى 50 جنيهاً، وسعر اختبار الذكاء إلى 150 جنيهاً، وسعر إصدار الشهادة أو التقرير الطبي إلى 100 جنيهاً، مقارنةً بـ30 جنيهاً فقط قبل القرار.
"كارثة محققة"
منسق حملة "مصيرنا واحد"، أحمد حسين، قال عبر فيسبوك، إنّ اللائحة الجديدة للأسعار، التي وقّع عليها وزير الصحة المصري في 14 تموز/ يوليو 2025، ودخلت حيز التنفيذ قبل أيام، شهدت ارتفاع تكاليف علاج مرضى الإدمان، ليصل سعر جلسة الدعم النفسي لمريض الإدمان إلى 100 جنيه، فيما وصلت جلسات المتابعة الشهرية إلى 400 جنيه، وجلسة الإرشاد الأسري إلى 20 جنيهاً، بينما حددت اللائحة أسعار تحاليل وظائف الكلى والكبد والسكر وصورة الدم عند 400 جنيه، وفحص النخاع 1،500 جنيه، ورسم المخ 200 جنيه، ورسم القلب 40 جنيهاً، بالإضافة إلى ما بين 200 إلى 400 جنيه مصاريف جلسة العلاج الكهربائي.
وفي حين رأى منسق الحملة، الذي عمل سابقاً طبيباً نفسياً في مستشفى العباسية للصحة النفسية وعلاج الإدمان، أنّ قرار رفع الأسعار يمثّل "كارثةً محقّقةً لقطاع عريض من المرضى أصحاب الاحتياجات والظروف الخاصة"، لفت إلى زيادة نسب الإصابة بالأمراض النفسية في البلاد.
ووفق منن عبد المقصود، "المسح الصحي للأمراض النفسية أثبت وجود العديد من الأمراض النفسية لدى الأطفال ما فوق سنّ 7 سنوات. نسبة الإدمان (من 2.4% إلى 5%)، ونسب التعاطى (من 5.9% إلى 7.1%)، ارتفعت بشكل ملحوظ بين عامي 2020 و2023، ونسبة الإصابة بالذهان 0.3%".
أثارت الزيادة الكبيرة في أسعار خدمات الصحة النفسية في المستشفيات الحكومية المصرية جدلاً واسعاً، خاصةً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها الشريحة الأكبر من الشعب. كذلك، لتناقض القرار مع تصريحات رسمية حديثة فضلاً عن التوجيهات الرئاسية المعلنة والداعية إلى الاهتمام بالصحة النفسية وعلاج الإدمان للمواطنين، وتدشين عدد من المبادرات في هذا الإطار، في وقت يمكن أن يُشكل فيه هذا القرار انعكاسات سلبيةً على الأسر المصرية، ولا سيّما ذات الدخل المحدود والمتوسط منها، بحسب تحذيرات استشاريين نفسيين تحدثوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي وآخرين تواصل معهم رصيف22.
تقول نورهان، في حديثها إلى رصيف22: "لولا سفر والدي إلى السعودية ودخله المرتفع، لما كنا استطعنا علاج شقيقي في مستشفى خاص، على غرار الكثير من المرضى النفسيين في مصر"، مؤكدةً أنّ العلاج النفسي في المستشفيات الخاصة مُكلف للغاية، ولا يناسب آلاف الأسر المصرية التي قد تضطر إلى تفضيل توفير أساسيات الأكل والشرب عن إنفاق قسم كبير من دخل الأسرة على العلاج النفسي، بحسب الزيادات الجديدة في أسعار العلاج في المستشفيات الحكومية، والتي تدفع إلى التساؤل: كيف تستطيع الأسر البسيطة تحمّل نفقات العلاج النفسي لذويها شهرياً؟
برلمانيون يتحركون
هذه الزيادات والتساؤلات دفعت نواباً مصريين إلى التحرك، من بينهم عضو الحزب المصري الديمقراطي في مجلس النواب المصري فريدي البياضي، الذي تقدّم بسؤال عاجل إلى وزير الصحة والسكان، بشأن تبعات اللائحة المالية الجديدة لمستشفيات الصحة النفسية، مشيراً إلى أنّ اللائحة الجديدة، التي بدأ العمل بها هذا الأسبوع، ترفع تكلفة إقامة المريض المحتجز من 150 إلى 550 جنيهاً يومياً، دون أن تشمل هذه التكلفة أي خدمات طبية.
وتساءل البياضي: أين العلاج المجاني اليوم؟ قائلاً: "اللائحة السابقة كانت تنصّ على تخصيص 60% من أسرّة المستشفيات الحكومية للعلاج المجاني، قبل أن تُخفض إلى 25%، واليوم يبدو أنّ وزارة الصحة قررت إلغاء النسبة بالكامل في مستشفيات الصحة النفسية، دون إعلان أو شفافية"، مشدداً على أن "ما يحدث هو تآكل تدريجي لحق العلاج المجاني الذي نص عليه الدستور في المادة 18"، معرباً في الوقت ذاته عن اندهاشه: "هل من المنطقي أن نُحمّل أسرة المريض النفسي تكلفة الحجز الإجباري المفروض لحمايته وحماية المجتمع؟ وهل تدرك الوزارة أن أغلب هؤلاء المرضى لا يمتلكون دخلاً، وأنّ أسرهم غالباً من الفئات الأشد هشاشةً؟".
بدورها، وصفت عضوة لجنة الاتصالات في مجلس النواب المصري، ونائبة رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، مها عبد الناصر، القرار بـ"غير المسؤول"، وبأنه "يُضاعف معاناة المرضى وأسرهم في وقت لا يحتمل فيه المواطنون مزيداً من الأعباء"، عادّةً أنّ الحكومة تواصل تحميل المواطن أعباء إضافيةً، دون أن تأخذ في حسبانها أنّ المرضى النفسيين ومرضى الإدمان هم بالفعل فئات تحتاج إلى دعم ورعاية خاصة، وليس إلى مزيد من الضغوط المالية التي تضرّ بحياتهم وحياة أسرهم.
وأضافت عبد الناصر، في بيان، أنه "بموجب القرار الجديد، ارتفعت أسعار العلاج في مستشفيات الصحة النفسية لتتراوح بين 4،500 و16،500 جنيه (بين 90 و350 دولاراً أمريكياً) شهرياً، بالإضافة إلى تكاليف الكشف الطبي التي وصلت إلى 200 جنيه (4 دولارات) في بعض الحالات"، مشددةً على أنّ تلك الأرقام تفوق قدرة غالبية الأسر المالية، والنتيجة المتوقعة لهذه الزيادة هي عزوف المرضى عن تلقّي العلاج، والعيش مع معاناتهم النفسية دون رعاية طبية، وهذا ما سيؤدي إلى زيادة معدلات الإدمان والانتحار بشكل غير مسبوق، فضلاً عن احتمالية ارتفاع معدلات الجريمة بشكل كبير وملحوظ.
وبينما تؤكد النائبة البرلمانية، أنّ ارتفاع أسعار الخدمات الطبية في مستشفيات الصحة النفسية وصل إلى 900%، وأنّ الكثير من المرضى سيعزفون عن تلقّي العلاج في المستشفيات الحكومية، تكشف نورهان عن محاولة أسرتها خوض تجربة العلاج النفسي في المستشفيات الحكومية، وبالتحديد في مركز الطب النفسي في مستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس في القاهرة، عقب خروج شقيقها من المستشفى الخاص ذي التكلفة المرتفعة.
"الطبيب لو كَرّمك (أحسن معاملتك)، سيمنحك 5 دقائق من وقته"، تقول نورهان، مشيرةً إلى أنّ الأطباء لا يمنحون المريض الوقت والاهتمام الكافيين، خاصةً في ظل تواجد أعداد كبيرة من المرضى الذين يترددون بشكل دوري على تلك المستشفيات والمراكز، وامتلاك غالبيتهم عيادات ومراكز خاصةً في الخارج، ضاربةً مثالاً على ذلك أن الطبيب المشهور ثمن كشفه في الخارج 1،500 جنيه (نحو 30 دولاراً)، في حين كان سعر تذكرة الدخول إلى مستشفى الدمرداش حينها، ثلاثة جنيهات (0.062 دولاراً) فقط.
يشير مصدر رفيع في وزارة الصحة المصرية، لرصيف22، إلى أنّ 70% من المرضى في مستشفيات ومراكز الصحة النفسية يُعالَجون بشكل مجاني أو عبر التأمين الصحي الذي يغطي 69 مليون مواطن، في حين تشمل الزيادات الأخيرة 30% فقط من إجمالي المرضى الذين يعالَجون في القسم الاقتصادي، عادّاً أنّ ذلك يعكس التزام الدولة بالعدالة الصحية وضمان التوازن بين تقديم الخدمات المجانية للغالبية
الصحة تردّ
أظهرت دراسة صادرة في آب/ أغسطس 2024، عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "الصحة النفسية والعقلية للعامل… الحق المهدر من معايير الصحة والسلامة المهنية"، وشملت أكثر من 30 ألف مواطن من مختلف المحافظات، أنّ واحداً من كل أربعة مواطنين يعاني من مشكلات نفسية، أي أنّ ما يقارب 28 مليون مواطن، أغلبهم من فئة العمال، يعانون المرض النفسي، وسط محدودية المستشفيات التي تقدّم العلاج النفسي، وتدنّي دخول هذه الفئات.
وفي حين امتنعت وزارة الصحة والسكان المصرية عن نشر قائمة الزيادات الجديدة على صفحاتها الرسمية، يؤكد مصدر رفيع المستوى في الوزارة لرصيف22 -رفض الإفصاح عن اسمه- أنّ قرار زيادة أسعار الخدمات العلاجية في مستشفيات الصحة النفسية ينطبق فقط على القسم الاقتصادي، مع الحفاظ على الخدمات المجانية للفئات غير القادرة والمؤمّن عليها.
يضيف المصدر أنه تم رفع تذكرة دخول العيادات الخارجية من جنيه واحد إلى 10 جنيهات، شاملةً الكشف الطبي والعلاج لمدة شهر، بالإضافة إلى زيادة تذكرة الكشف في العيادات التخصصية من جنيه واحد إلى عشرين جنيه، مشيراً إلى أنّ تلك "الأسعار تظلّ رمزيةً مقارنةً بالقطاع الخاص، وتستهدف تحسين الخدمات الصحية".
وعلى الرغم من عدم إشارة القرار الجديد إلى أنّ الزيادات تتعلق بالقسم الاقتصادي فقط، وتأكيد وكيل عام مستشفى العباسية للصحة النفسية قبل نحو عام من الآن، تجهيز غرف المرضى النفسيين بـ2،600 جنيه شهرياً، يشير المصدر إلى أنّ 70% من المرضى في مستشفيات ومراكز الصحة النفسية يعالجون بشكل مجاني أو عبر التأمين الصحي الذي يغطّي 69 مليون مواطن، في حين تشمل الزيادات الأخيرة 30% فقط من إجمالي المرضى الذين يعالَجون في القسم الاقتصادي، عادّاً أنّ ذلك يعكس التزام الدولة بالعدالة الصحية وضمان التوازن بين تقديم الخدمات المجانية للغالبية، مع استدامة الخدمات في القسم الاقتصادي.
"أسعار فندقية"
في غضون ذلك، يرى أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان، الدكتور فادي صفوت، أنّ القرار "كارثي" ويؤثر على شريحة كبيرة من المصريين وكذلك اللاجئين الموجودين داخل مصر، واصفاً الأسعار الجديدة بـ"الفندقية" وبأنها تقترب من أسعار نظيرتها في الخاص، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ بعض الأسر كانت تعتذر عن استكمال العلاج خلال فترة عمله، برغم الحصول على سرير داخل مستشفى العباسية، بسبب التكلفة الشهرية التي كانت تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف جنيه (بين 40 و60 دولاراً).
ويضيف فادي، الذي عمل لمدة 10 سنوات في مستشفى العباسية للصحة النفسية وعلاج الإدمان، الأشهر في مصر، خلال حديثه إلى رصيف22، أن الأسعار الجديدة تعني دفع 4،500 جنيه كحدّ أدنى للحصول على سرير ضمن عنبر يضمّ عدداً من الأسرّة لمدة شهر واحد فقط، في حين قد تصل التكلفة الشهرية إلى حاجز الـ16،000 جنيه، للإقامة والطعام فقط دون أدوية، في تحوّل كبير عن إتاحة الإقامة مجاناً لغير القادرين، ومبلغ يناهز ثلاثة آلاف جنيه في الأقسام الاقتصادية.
ويحذّر استشاري الطب النفسي من خطورة القرار، خاصةً أنّ تلك المستشفيات تخدم الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، في ظل ارتفاع تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة والتي تبدأ من 40 ألف جنيه شهرياً (نحو 800 دولاراً)، وقد تصل إلى ربع مليون جنيه (أكثر من 5000 دولار) في بعض الأماكن، مشيراً إلى أنّ الطب النفسي ليس رفاهيةً؛ بل هو أولوية ولا سيّما في ظل خطورة ترك المرضى دون علاج وتأثير ذلك على الأسر والمجتمع بشكل عام.
"شقيقي لم يكن واعياً بما يفعل، وعَرّض حياته وحياة الأسرة في أكثر من مرة للخطر"، تقول نورهان، محذّرةً من خطورة عدم حصول المرضى النفسيين على العلاج المناسب، وما يترتب على ذلك، مضيفةً: "طوال حياتي لم أتخيّل صعوبة المرض النفسي، حتى خُضت هذه التجربة الشخصية"، مستنكرةً خطوة زيادة تكاليف العلاج النفسي في المستشفيات الحكومية.
آثار كارثية على الأسرة والمجتمع
ووسط التحذيرات التي تداولها أطباء نفسيين ومعالجين وحتى أفراد أسر بها مرضى نفسيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي المصرية، يقول صفوت إن القرار قد يؤدي إلى تدهور حالة الكثير من المرضى ما قد يرافقه ارتفاع في حالات الأذى بما في ذلك الانتحار، وزيادة الضغط على أقسام الطوارئ، وتحميل الشرطة عبئاً إضافياً، مع ارتفاع معدلات الجريمة وعدد السجناء من المرضى النفسيين، وتزايد عدد المصابين باضطرابات نفسية في الشوارع، وخسائر اقتصادية فادحة في ظلّ توقّف إنتاجية الكثيرين، مع انهيار مستقبل العديد من الأسر، ملخصاً الأمر بالقول: "ما لن ندفعه للصحة النفسية اليوم، سندفعه أضعافاً في السجون، الأمن، والأزمات الاجتماعية غداً".
وبحسب تقرير صادر عن التحالف الوطني للمرض العقلي "NAMI"، في 2021، فإنّ عدم توفير العلاج المناسب للمرضى النفسيين، يؤدي إلى زيادة معدلات التشرد، والاعتقال والجريمة، وتفاقم الاضطرابات النفسية، وتالياً البقاء داخل السجون ومراكز الاحتجاز لفترات أطول، وإنفاق المزيد من الأموال عليهم، مقارنةً بتلك التي كانت ستوجّه للعلاج النفسي.
بيع أدوية مجانية
إلى ذلك، يُظهر استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز، تفهّماً لقرار الوزارة المصرية حيث يلفت إلى أن عدد من الأسر تسيء استغلال مجانية العلاج النفسي في البلاد. ويضرب لذلك مثالاً بمرضى الفصام الذين يحصلون على حقنة شهرية يصل سعرها إلى 26 ألف جنيه مصري (539 دولاراً)، إلا أنّ البعض يحاول الحصول عليها لبيعها والاستفادة من سعرها، مؤكداً أنّ القطاع الأكبر من المواطنين الذين يذهبون إلى مستشفيات الصحة النفسية الحكومية، يكون هدفهم هو الحصول على الأدوية الشهرية من أجل بيعها في السوق الحرّ لا لغرض العلاج والتعافي.
لكنه يناقض نفسه بالإقرار بأنّ مرضى الصرع والاكتئاب الذين يتعالجون لفترات طويلة، هم الأكثر تأثراً بقرارات الزيادة الأخيرة، وإقراره بأنّ شريحةً كبيرةً من المواطنين تعتمد على الخدمات التي تقدّمها الدولة، عبر المستشفيات المتخصصة في الأمراض النفسية والإدمان، وكذلك المستشفيات الجامعية في أقسام الطب النفسي الموجودة داخلها.
مع ذلك، هو يقلل، في حديثه إلى رصيف22، من تأثير الزيادة على المرضى النفسيين، بالإشارة إلى أنّ المريض سيدفع جزءاً بسيطاً من ثمن الأدوية قائلاً: "المريض يقطع تذكرة بخمسة جنيهات ويحصل مقابلها على أدوية تتجاوز الـ300 جنيه، ويجب أن يساهم ولو بجزء من ثمن تكلفة الإقامة في المستشفيات والأدوية".
يقول أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان، فادي صفوت، إنّ القرار "كارثي" ويؤثر على شريحة كبيرة من المصريين وكذلك اللاجئين، واصفاً الأسعار الجديدة بـ"الفندقية" وبأنها تقترب من أسعار نظيرتها في القطاع الخاص، محذراً من تبعات خطيرة على مستويات اقتصادية وأمنية واجتماعية
ويبرّر استشاري الطب النفسي قرار الحكومة بأنّ الظروف الاقتصادية الصعبة وحجم الضغوط على الدولة، بالتزامن مع تحرك جميع الأسعار سواء السلع أو دخل الأسر أيضاً، تدفع نحو تحريك أسعار الخدمات المُقدمة في مستشفيات ومراكز الصحة النفسية.
العلاج النفسي بين الحكومي والخاص
يقارن فرويز بين تكلفة العلاج النفسي الحكومي، ونظيره في الخاص، مؤكداً أنّ اليوم الواحد في المراكز والمستشفيات الخاصة يصل أحياناً إلى سبعة آلاف جنيه، أي إلى أكثر من 200 ألف جنيه (أكثر من 4000 دولار) شهرياً، لافتاً إلى أن تحمّل المريض جزءاً من التكلفة، يمنع الاستخدام المُفرط للعلاج ودخول المستشفيات، خاصةً أنّ بعض الأسر تحاول التخلص من عبء المريض عبر تركه لفترات طويلة داخل المستشفيات، حتى أن البعض يرفض استلام ذويهم على الرغم من تماثلهم للشفاء.
إلى ذلك، تكشف نورهان عن أسعار تجربة علاج شقيقها في أحد المستشفيات الخاصة، مؤكدةً إنفاق نحو 60 ألف جنيه، مقابل الإقامة والعلاج لمدة شهر واحد في عام 2019، دون الحصول على جلسات كهرباء والتي بدورها كانت ستزيد التكلفة، في حين كانت التكلفة خلال المدة الزمنية نفسها لا تتجاوز الخمسة آلاف جنيه في مستشفى عين شمس الحكومية.
باحتساب أنّ سعر الدولار في تلك الفترة كان يساوي 16 جنيهاً مصرياً فقط، في حين أنه يناهز اليوم 48.5 جنيهات، فهذا يعني زيادةً بنحو ثلاثة أضعاف الرقم، أي أن الأسرة أنفقت بحساب اليوم أكثر من 180 ألف جنيه، ما يدفع إلى التساؤل: إلى أين تتجه الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط لأجل علاج ذويها من المرض النفسي والإدمان؟ وهل أصبح العلاج النفسي في مصر ممكناً للأغنياء فقط؟
*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.