القلق الجماعي في لبنان… كيف تشكّله هواجس الحرب وصدمات الماضي والأخبار المضلّلة؟

القلق الجماعي في لبنان… كيف تشكّله هواجس الحرب وصدمات الماضي والأخبار المضلّلة؟

حياة نحن والنساء نحن والحقوق الأساسية

الخميس 4 سبتمبر 20259 دقائق للقراءة

منذ قرابة العام، يعيش اللبنانيون تحت وطأة الشائعات والأخبار اليومية عن احتمال تجدّد الحرب الإسرائيلية على لبنان. هذه الأخبار، سواء كانت صحيحةً أو مضلّلةً، باتت تتحكم في تفاصيل يومياتهم، فتعمّق منسوب القلق والتوتر لديهم، وتضيّق طريقة تفكيرهم المحصورة في الحرب وتداعياتها.

لم يعد القلق حالةً فرديةً، بل صار شعوراً جماعياً يتقاسمه الناس في بيروت والجنوب والقرى الحدودية، ويغذّيه الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وفيما يحاول البعض التكيّف مع الوضع، يرزح آخرون تحت وطأة الخوف من المجهول، في ظل تراكم صدمات السنوات الماضية؛ الانهيار الاقتصادي، جائحة كورونا، انفجار المرفأ، والحروب المتكرّرة.

هواجس أمّهات في بيروت

في بيروت، لا تخلو الجلسات العائلية من أحاديث الحرب وخطط الطوارئ. تقول رنا نصر الدين، وهي أمّ لطفلتين، لرصيف22: "بالرغم من أنني أعيش في منطقة تُعدّ آمنةً، إلا أنّ شعور انعدام الأمان يلازمني، لأنّ أهلي يقيمون في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكذلك مدرسة ابنتَي. ومع اقتراب العام الدراسي، أفكر يومياً: كيف يمكنني الوصول إليها إذا أطلق العدو (إسرائيل) إنذارات في الضاحية. هذا توتّر يرهقني".

حالة صدمة جماعية وقلق مزمن يعيشها اللبنانيون خوفاً من تجدّد الحرب ومن مستقبل مجهول… فإلى أي مدى تلعب المعلومات المضلّلة دوراً في ذلك؟

تحاول رنا أن تُبعد شبح الحرب عن طفلتَيها، لكنها لا تستطيع لجم قلقها الداخلي، وتوضح: "حين أسمع أصوات المفرقعات النارية، لا أميّز إن كانت مجرد ألعاب أو ضربة حقيقية".

وبرغم الإرهاق النفسي الذي تعانيه، حيث تؤكد: "أشعر أنني قادرة على السيطرة على وضعي، خصوصاً أمام ابنتَي"، ترفض رنا فكرة الاستعانة باختصاصي نفسي.

كآبة وغياب تخطيط في الجنوب

من بلدة دير قانون رأس العين (جنوبي لبنان)، تتحدّث نسرين حمدان عن حالة مشابهة من القلق المستمر. تقول لرصيف22: "لا نعرف في أي وقت قد تعود الحرب، وهذه المرة ستكون أصعب. نشعر بحالة قلق كبير وكآبة قوية تنعكس على أولادي وعائلتي".

غياب الأمان جعل حمدان تتوقّف عن التفكير في المستقبل: "لا أضع أيّ خطط للحياة. نعيش في خوف دائم، لكننا مضطرون إلى الاستمرار"، تضيف. 

وعن انعكاسات هذا الواقع على أطفالها، تروي حمدان: "هذه الذكريات، وسماع أصوات الطيران والغارات من وقت إلى آخر، لا تغيب عن بالهم. إنهم خائفون ويسألونني باستمرار عن موعد الحرب". لكنها تستبعد فكرة العلاج النفسي: "لا أشجع على ذلك، كي لا تعتاد طفلتي الاتكال على أحد. عليها أن تقوّي نفسها".

قرب الحدود… صدمات الأطفال وتأخّر النطق

الوضع في القرى الحدودية أسوأ حيث القلق مضاعف. تروي مروة سلمان، من بلدة السلطانية، قصتها وعائلتها، قائلةً: "نعيش حالة توتر دائمة. كل تفكيرنا ينصبّ على كيفية الهروب إذا اندلعت الحرب من جديد. نبحث عن منزل أكثر أماناً تفادياً لتكرار ما حدث في الحرب الماضية، حين علقنا لساعات على الطرقات وتوزّعنا بين منازل مختلفة".

لكن أثر الحرب لم يتوقّف عند حدود التخطيط اليومي، بل وصل إلى طفلها الذي لم يبلغ الثالثة من عمره بعد. "تأثّر كثيراً بحرب الإسناد، برغم أنه لا يفهم بعد ما معنى الحرب. كان يسمع أصوات الغارات والطيران باستمرار، الأمر الذي تسبّب في أن يتأخّر في النطق. اليوم يخضع لجلسات علاج نطق بعد أن أكدت الأخصائية أنّ السبب صدمات نفسية"، تضيف.

وتختم سلمان: "نحاول العيش بشكل طبيعي وتمضية العطلة الصيفية، لكن هاجس الحرب لا يفارقنا. حتى مادياً، نحن في حيرة: هل نستثمر مدّخراتنا في مشروع أو نحتفظ بها للطوارئ؟ لكنني أقول لنفسي إنّ لبنان دائماً في أزمات، ولا يمكن أن نترك حياتنا معلّقةً".

"تراكم أزمات وصدمة جماعية"

من وجهة نظر علم النفس، ما يعيشه اللبنانيون اليوم ليس حالةً فرديةً بل هو قلق جماعي متجذّر. وهذا ما تشرحه المعالجة النفسية والأخصائية في علم النفس العيادي كلوديا نعمة، لرصيف22، بقولها إنّ "غالبية الأفراد يتأثرون بالشائعات لأنهم يعتقدون أنه 'لا يوجد دخان من دون نار'. هذا يضاعف القلق، خصوصاً لدى من يبحثون عن الخبر الدقيق، فنراهم يتنقّلون بين القنوات الإخبارية ويقضون ساعات طويلةً على مواقع التواصل الاجتماعي". 

وتضيف: "الأحداث المتتالية منذ عام 2019؛ الثورة الشعبية، الانهيار الاقتصادي، خسارة أموال المودعين، جائحة كورونا، انفجار المرفأ، والحرب الأخيرة، جميعها كوّنت في العقل الباطن حالة خوف دائمةً من المجهول. ذاكرة اللبنانيين مثقلة بالتراكمات، ومع كل أزمة يتجدّد شعور انعدام الأمان".

وتردف نعمة بأنّ ما يعيشه اللبنانيون اليوم صدمة جماعية، "حتى لو أظهرت مظاهر الحياة اليومية من سهر وحفلات أنّ الأمور 'طبيعية'، فالرعب الداخلي حاضر. الناس يخلقون آليات دفاعيةً كحالة الإنكار، بما فيها التظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام".

تؤكد نعمة أنّ ما يعيشه اللبنانيون اليوم صدمة جماعية، "حتى لو أظهرت مظاهر الحياة اليومية من سهر وحفلات أنّ الأمور 'طبيعية'، فالرعب الداخلي حاضر. الناس يخلقون آليات دفاعيةً كحالة الإنكار، بما فيها التظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام"

وتلفت نعمة إلى أنّ القلق يزداد مع الاستحقاقات المعيشية مثل بداية العام الدراسي، وتلمس أعراضه في عيادتها بشكل واضح، من خلال انتشار اضطرابات النوم، والأفكار السلبية التي تهاجم الأفراد وتمنعهم من الراحة.

المعلومات المضلّلة... سلاح إضافي في زمن النزاعات

إلى ذلك، الخوف من تجدّد الحرب ليس مصدر القلق الوحيد، بل تغذية الأخبار والمعلومات المتداولة بسرعة ودون تحقّق عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أيضاً. عن ذلك، تقول الصحافية ومدققة المعلومات في وكالة "فرانس برس"، جويس حنا، لرصيف22، إنّ المعلومات المضلّلة ترافق كلّ حدث كبير أو أزمة أو نزاع. وفي أوقات الحروب، ينشر الناس هذه الأخبار والمعلومات بمعرفة أو بغير معرفة، ويؤدّي انتشارها إلى بثّ الخوف والرعب وأحياناً التحريض على طرف دون آخر، فتصبح منصات التواصل الاجتماعي ساحة قتال افتراضيّةً تتّهم فيها الأطراف المتخاصمة بعضها بعضاً بالاعتماد على أدلّة مزيّفة لتعزيز فرضيّتها أو تأييد معتقداتها. وعليه، فإنّ الأخبار الكاذبة في أوقات النزاعات هي سلاح تضليل شامل".

وتضيف حنا: "يعتقد البعض أنهم، عبر نشر خبر مزيّف، يحذِّرون الآخرين من خطر ما. في كثير من الأحيان تنتشر صور قاسية من نزاعات أو كوارث سابقة، خصوصاً صور الأطفال والنساء، إما للتعبير عن حجم المأساة أو لمجرد جذب التفاعلات". 

كما تنبّه إلى أنّ الأخبار المضلّلة لا تقتصر على روّاد السوشال ميديا، بل تصدر أحياناً عن صحافيين ووسائل إعلامية، مؤكدةً: "قد يقع بعض الصحافيين في فخ الأخبار الكاذبة بسبب التسرّع في نقل خبر قبل التدقيق فيه، وليس دائماً بقصد التضليل. وفي أحيان كثيرة ينتشر الخبر المضلّل لأنّ المروّج له مؤيّد تماماً لسرديّة محدّدة، وتالياً فهو يغضّ النظر عن الخطأ ويعطي الأولويّة لنشر ما يعتقد أنّه صحيح بمنظوره. بمجرّد رصد فيديو ضدّ الخصم السياسي مثلاً تصبح المادّة دليلاً لتأييد نظريته حتى إن كانت خطأ". 

وترى حنا أن انتشار الأخبار الكاذبة يرتبط بشكل مباشر بالجانب العاطفي: "الخبر المضلّل لا ينتشر إلا إذا خلق استجابةً عاطفيةً قوية. وحتى ينتشر فهو بحاجة إلى من يؤيّده ويؤمن بصحّته ويتماشى مع أفكاره ومعتقداته. إن لم تتوافر هذه العناصر، يكون هذا الخبر الكاذب خطأ فردياً. أما إذا توافرت، فيصبح خبراً مضلّلاً منتشراً على نطاق واسع".

كيف يواجه اللبنانيون القلق؟

في المقابل، تقدّم المعالجة النفسية كلوديا نعمة، مجموعةً من الإرشادات والتوصيات للتخفيف من التوتر: "يجب تقليل الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات، والاكتفاء بمتابعة قناة موثوقة واحدة، مع الحدّ من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. كما أنّ الرياضة مفيدة جداً ولها أثر يوازي الأدوية في التخفيف من التوتر. طبعاً، في بعض الحالات لا بدّ من مراجعة مختصين".

ترى حنا في "التربية الإعلاميّة بدءاً من المدرسة، ضرورةً قصوى لنشر الوعي. فعندما نبدأ بلفت الانتباه وتنمية الحسّ النقدي في عمر صغير يصبح أسهل على الفرد أخذ الحيطة والحذر قبل المساهمة في نشر الأخبار المضلّلة"

أما بالنسبة إلى الأطفال، فتحذّر نعمة من تعريضهم للأخبار، مبرزةً أنّ "مخيّلتهم الواسعة تحوِّل المعلومة إلى سيناريو مرعب قد يشمل فقدان الأهل أو المنزل أو الألعاب. ومن المهم التحدّث معهم بلغة بسيطة، أو استخدام اللعب والرسم لفهم ما يدور في أذهانهم".

وتقترح الصحافية ومدققة المعلومات جويس حنا، بدورها، جانباً مُكمِّلاً يتمثّل في "التربية الإعلاميّة بدءاً من المدرسة"، كـ"ضرورة قصوى لنشر الوعي. فعندما نبدأ بلفت الانتباه وتنمية الحسّ النقدي في عمر صغير يصبح أسهل على الفرد أخذ الحيطة والحذر قبل المساهمة في نشر الأخبار المضلّلة". 

قلق يتجدّد... ومجتمع يواجه

من خلال شهادات الأمّهات من بيروت ومن الجنوب وبالقرب من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، تبدو حالة القلق التي يعيشها اللبنانيون اليوم أكثر وضوحاً؛ مجتمع يعيش تحت ضغط الصدمات المتراكمة، ويتأرجح بين الخوف من المجهول ومحاولة الاستمرار في حياة "طبيعية".

وقد تساهم مظاهر الحياة اليومية في التخفيف من وطأة الأزمات، لكنها لا تلغي حقيقة أنّ القلق الجماعي بات جزءاً من ذاكرة اللبنانيين وحاضرهم. قد تقع حرب جديدة وقد لا تقع، لكن آثارها النفسية والمعنوية بدأت تتشكّل منذ الآن، مدفوعةً بـ"خبر عاجل" هنا، أو شائعة هناك، أو ذكرى لماضٍ لم يغادر وجدانهم بعد.

*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان… دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image