في بداية مراهقتي، كان المسرح الأجمل والأكثر قدرةً على إضحاكي وإمتاعي هو مسرح عادل إمام ودريد لحام بالدرجة الأولى، ولم أكن أتخيّل أنني قادرٌ على تقبّل حضور مسرحية مسجلة صوتياً من دون صورة.
حين كنت أدرس في مرحلة البكالوريا، في أحد المعاهد الخاصة، قبل أكثر من 25 عاماً، دعاني أحد الأصدقاء لزيارته في منزله. وبينما كان يجهّز المتّة، قمت بتفحّص مكتبته وأشرطة الكاسيت التي يملكها وتوقّفت عند كاسيت مكتوب عليه "بالنسبة لبكرا شو". فور عودته سألته: "شو هالكاسيت؟"، فقال: "مسرحية لزياد الرحباني، ألم تسمعها من قبل؟". قلت: لا، فابتسم وقال: "خذها واسمعها في منزلك". قلت له: "بدون صورة ما بظن رح إقدر أسمعها واستمتع فيها مهما كانت حلوة، ولكن على كل حال رح آخدها وجرّب أسمعها".
غالبية من يحبّون زياد في سوريا، خاصةً الشباب، يحبون فيه أنه يقول ما يتمنّون قوله في وجه العائلة والمجتمع والدولة والدين والسياسة. هو بشكلٍ ما يمثّل الجانب المتمرّد الحرّ المستقل الجريء والشجاع داخل كل شخصٍ منهم
بعد عودتي إلى البيت ليلاً، خطر ببالي أن أسمع بضع دقائق من هذه المسرحية، ولا أعرف كيف اندمجت فيها واستمتعت، ولم أغفُ قبل أن أسمعها كاملةً. وحين انتهت، أحسست أنني اكتشفت شيئاً جديداً ومدهشاً في عالم المسرح، مختلفاً عن كل ما شاهدته من قبل، واستغربت كيف تقبّلت فكرة سماع المسرحية بمتعةٍ هائلةٍ من دون صورة.
في اليوم التالي، أخبرت أحد أصدقائي في القرية عن هذه المسرحية وعن جمالها، فاستغرب واتهمني بالمبالغة، مؤكداً أنّ المسرح من دون صورة ناقصٌ، ما جعلني أدعوه إلى السهرة في منزلي ليسمع بنفسه ويحكم. وبالفعل، استمعنا معاً إلى المسرحية التي أدهشت صديقي أيضاً. كنت مستغرباً حينها كيف استطاع الحوار أن يجعلني أستغني عن الصورة البصرية، ومنحني فرصةً لأتخيّل المشهد كما يحلو لي.
أرجعت الكاسيت إلى صديقي وسألته: هل لزياد مسرحيات أخرى؟ فقال: نعم، لديه ألحانٌ لعددٍ من المطربين من بينهم فيروز. قرّرت لحظتها أن أبدأ بتوفير النقود من مصروفي المدرسي لشراء كل أعمال زياد، وكنت كلما سمعت مسرحيةً أو أغنيةً أو لحناً له شعرت بالانبهار به أكثر، وأصبحت أستخدم بعض مفرداته في أحاديثي، فمثلاً لا أزال حتى الآن أردّد عبارات: "ما بَدنا نِفهَم قَدّو بس بَدنا نفهَم عليه"، و"عم قلك معو مدفع... بتقلي بس ما معو حق! وإذا ما معو حق ولاه"، وغيرهما من العبارات التي لم أكن الوحيد من أبناء جيلي الذي يحفظها ويردّدها.
برأيي، قيمة زياد وحضوره بوصفه مبدعاً لدى شريحةٍ واسعةٍ من السوريين لا يتأتّيان فقط من خلال الموسيقى والألحان التي ألّفها لفيروز أو لغيرها، برغم جمالها وأهميتها، وإنما من خلال مسرحياته وأفكاره وأسلوبه وطريقته الخاصة في الكلام، وأيضاً من خلال مواقفه السياسية.
غالبية من يحبون زياد في سوريا، خاصةً من هم في مرحلة الشباب، يرون فيه أشياء أبعد من كونه ملحِّناً ومسرحيّاً، فبعضهم يراه ثائراً متمرّداً، وآخرون يرونه حكيماً ويتمتّع بمهاراتٍ عاليةٍ في تحليل الواقع وقراءته ونقده. ويكاد يكون هناك شبه إجماعٍ من تلك الغالبية، على أنّ "زياد" هو أكثر شخصٍ يقول علناً ما يتمنون قوله في وجه العائلة والمجتمع والدولة والدين والسياسة. هو بشكلٍ ما يمثّل الجانب المتمرّد الحرّ المستقل الجريء والشجاع داخل كل شخصٍ منهم، وهذا ما يجعل تعلّقهم وإعجابهم به أشد، ويجعل تأثيره عليهم أقوى لأنه يحاكي أشياء يخافون البوح بها خشية الصدام مع الأسرة والمجتمع والأعراف والتقاليد.
حتى في بعض الأغاني التي ألّفها كان جريئاً للغاية. فعلى سبيل المثال، كارمن لبّس التي عاشت قصة حبٍّ مع زياد لمدة 15 عاماً، قالت إنّ أغنية "بنصّ الجو"، التي غنّتها لاحقاً المطربة لطيفة التونسية، كان زياد قد طلب منها أن تغنّيها في تسعينيات القرن العشرين ورفضت لأنّ مثل هذه الأغنية تُعدّ جريئةً بمقاييس ذاك الزمن وكانت لتُعرّض من يغنّيها للانتقاد اللاذع.
العشاق الذين تركتهم حبيباتهم غنّى لهم زياد، وقال الكثير مما في داخلهم، كما في أغنية "عايشة وحدا بلاك" و"بلا ولاشي" و"بصراحة" وغيرها الكثير... وهناك عشاق أرسلوا لحبيباتهم هذه الأغاني عادّين أنهم قالوا أجمل ما يمكن أن يُقال بعد الفراق. للأمانة، كنت واحداً من أولئك العشاق الذين أرسلوا كثيراً من أغاني زياد للفتيات اللواتي أحببتهنّ.
من جهة أخرى، هناك أغنيات عبّرت عن مشاعر الفتيات اللواتي خسرن الحبيب، مثل أغنية "كيفك إنت" و"معلومات مش أكيدة" وأيضاً "سلملي عليه" وغيرها…
في السهرات والجلسات التي كان يجتمع فيها الشباب والصبايا، كانت تحدث أحياناً نقاشات حول زياد وأغانيه، وكل شخص كان، بشكلٍ ما، يتباهى بأنه يعرف شيئاً عن زياد، مثل أنه كتب "بلا ولا شي" لكارمن لبّس، وأغنية "مربى الدلال" لزوجته السابقة دلال كرم، وأن رأي زياد السياسي في قضية ما هو كذا، والجميع حتى أولئك الذين ليست لديهم أي معلومة عن زياد كانوا يستمتعون بالحديث عنه، وأكاد أجزم أنه الوحيد من بين الموسيقيين اليساريين الذي حصل على شبه إجماع بين جيل الشباب السوري أكثر من مارسيل خليفة الذي كان له حضور كبير أيضاً.
أكاد أجزم أنه الوحيد من بين الموسيقيين اليساريين الذي حصل على شبه إجماع بين جيل الشباب السوري أكثر من مارسيل خليفة الذي كان له حضور كبير أيضاً
وقد كتب الرسام والقاصّ عصام حسن، عبر حسابه في فيسبوك، عن لقائه بزياد في لبنان عام 1995، وكيف أنه أخبر "زياد" بأنّ لديه حضوراً كبيراً بين الصبايا والشباب في سوريا، فردَّ زياد مستغرباً: عن جدّ! فأكد له عصام الأمر قائلاً: "بس تعمل حفلة بسوريا رح تتأكد بنفسك. في عام 2008، أحيا زياد حفلةً في دمشق وفي ختامها قال: "جينا نسمّعكم، طلعنا عم نسمعلكم". فالجمهور كان يحفظ كل أغانيه ويغنّيها معه.
بعد عام 2011، بدأ زياد يخسر عدداً كبيراً من جمهوره ومحبّيه في سوريا، بسبب تصريحاته ومواقفه تجاه الثورة السورية، حيث انقسم الشارع السوري بخصوصه. فالموالون للنظام السوري السابق وحزب الله اللبناني بقي زياد بالنسبة لهم كما هو، بينما استاء المعارضون منه وهاجموه، عادّين أنّ دعمه للنظام السابق ولحزب الله إنكارٌ لحق الشعب السوري في النضال من أجل الحرية، بل إن بعضهم عدّ أنّ "زياد" خذله بموقفه الذي لا ينسجم مع ما كان يصرّح به في مقابلاته، وما كان يقدّمه في أعماله ولا مع "يساريته".
في 26 تموز/ يوليو 2025، توفي زياد، ومن خلال ما نُشر عبر السوشال ميديا من قبل السوريين، يمكنني القول إنّ هناك جمهوراً كبيراً من الأعمار والشرائح كافة تأثّر بفقده ونعاه بأسى وحزن. من جهة أخرى، هناك جمهورٌ آخر لم يغفر له أنه لم يقف معه ضد نظام بشار الأسد الساقط، برغم أنه كان من محبّيه قبل عام 2011، بمعنى آخر لم تستطع الموسيقى والأغاني وكل الجمال والإبداع الذي قدّمه زياد أن تجعل هؤلاء يغفرون له، لأنه وقف على الضفّة الأخرى. ولكن هذا لا يعني أن كل من كان ضد النظام السابق هاجمه ولم يعد يحبه، فهناك من يفصل بين مواقف زياد الشخصية، وبين زياد المبدع والفنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.