يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
في بيت تتسع فيه العزلة... يضيق العالم!
في مساء بارد، جلس حسام على كرسيه الخشبي المعتاد، وبينما يعلو صوته تدريجياً، وكأنّ الكلمات تُختزن داخله منذ زمن، بدأ يلقي خطبةً عصماء عن الكرامة والسيادة، وواجبات الطاعة. لم يكن الأمر مزاحاً، ولا لحظة جنون عابرة. بدا كما لو أنّ "حسام" يترأس مملكةً خفيةً لا يراها سواه، مملكة بلا شعب، تحكمها سلطة لا أصل لها إلا في رأسه.
منذ رحيل زوجته المفاجئ قبل أسابيع عدة، لم يكن الحزن وحده ما يلتهمه، بل هذا الشعور الغامض بأنّ عليه أن يسيطر، أن يُسمع صوته، أن يفرض نظاماً على عالم خرج عن السيطرة. شيء ما داخله أقنعه بأنّ عليه أن يتحدث، أن يصدر الأوامر، حتى لو لم يكن هناك من يطيع.
إلى روحكِ أبدأ،
إلى التي كانت تسند هذا الجدار المائل بي،
إلى السيدة الأولى والأخيرة في مملكتي،
إلى التي حين رحلت، تهاوت معها القواعد، وسقطت فوق رؤوسنا السماء.
لم يكن الرحيل حدثاً، بل زلزالاً ترتبت عليه إعادة ترسيم الحدود، وتحديد الصلاحيات، وبناء العلاقة الجديدة بين الفرد ومحيطه.
ومن هنا، أعلنها: انتهى عهد العاطفة، وبدأ عهد التنظيم.
إنني أقف اليوم لا كزوج مكلوم، بل كقائد انتقالي، مُطالب بأن يؤمّن بقايا هذا البيت من التفكك. ومن هنا، إليكم القواعد التالية:
أولاً: لا صوت يعلو فوق صوت الحاجة إلى النظام.
ثانياً: الولاء ليس شعوراً بل ممارسة.
ثالثاً: الطعام يُوزّع كحق مشروط بالسلوك لا كمكافأة.
رابعاً: الوحدة لا تعني الفوضى، بل تفرض ترتيباً أدق.
خامساً: من اختار العزلة، فليتحمّل نتائجها.
سادساً: من تمرّد، فليكن مستعداً لأن يُحاسب كخارج عن النظام، لا كحيوان أليف.
أنتم الآن مواطنون في جمهورية الداخل، ولكم حقوق وعليكم واجبات.
لا أعدكم بالدفء، لكن أعدكم بالاستقرار.
لا أعدكم بالحب، لأنّ الحب دفنته قبل فترة، لكنه سيعود، حين يعود العدل.
وهذه، إن شئتم، لحظة التأسيس الأولى.
لم يكن الرحيل حدثاً، بل زلزالاً ترتبت عليه إعادة ترسيم الحدود، وتحديد الصلاحيات، وبناء العلاقة الجديدة بين الفرد ومحيطه. ومن هنا، أعلنها: انتهى عهد العاطفة، وبدأ عهد التنظيم. إنني أقف اليوم لا كزوج مكلوم، بل كقائد انتقالي، مُطالب بأن يؤمّن بقايا هذا البيت من التفكك
بينما يُلقي حسام خطبته تلك، جلست أمامه خمسة كائنات صامتة تحدق فيه بعيون متسعة. كانت القطط التي تقاسمه وزوجته العيش منذ سنوات تبدو أكثر إنصاتاً من أي جمهور عرفه.
لم تكن حياة حسام قبل وفاة زوجته مثاليةً، لكنها كانت مرتبةً؛ فطور في الثامنة، نقاش يومي حول نشرة الأخبار، مشادة عرضية بشأن مصروف البيت، ثم صمت طويل يقطعه صوت التلفاز أو مواء، أو نقرة من قدم القطة على الزجاج. كل شيء كان يبدو تحت السيطرة، أو على الأقل تحت وهم التوازن. لكن الرحيل المفاجئ خلخل هذا البناء. لم يكن الحزن فقط هو ما اجتاحه، بل الشعور بأن لا أحد يراه. أن لا أحد ينتظر قراراته أو يراجع كلماته. شيئاً فشيئاً، بدأ حسام يعيد بناء شكلٍ ما من السلطة، سلطة لا تحتاج إلى اعتراف أحد، لكنها تريحه من شعور الفوضى. القطط لم تكن فقط حيوانات أليفةً، كانت المرآة التي تقنعه بأنه ما زال صاحب كلمة.
لم يكن يتوهم أنّ القطط ستردّ، لكنه بدأ يعيد صياغة نفسه كسلطة متخيلة، يُصدر القوانين، يُخضع المكان لنظام دقيق، يوبّخ، يكافئ، ويناقش. كل ذلك داخل حدوده الشخصية الصغيرة التي تحوّلت إلى دولة قائمة بذاتها.
في البداية، كانت خطب حسام أقرب إلى طقوس تعزية. يحدّث القطط عن ذكرياته مع زوجته، عن الأسعار التي ارتفعت، وعن الجيران الذين لم يسألوا عنه. ثم بدأت نبرته تتغير. صار يلوم إحداها على كسر كوب، ويكافئ الأخرى على الجلوس بانضباط، ويهدد إحداهنّ بالطرد إن استمرت في النظر إليه بهذه الطريقة المتحدية. لم يكن الأمر مجرّد لعب مع قطط، بل إعادة إنتاج لشكل ما من السيطرة، تلك التي تبدأ برغبة في الترتيب، ثم تنزلق إلى المراقبة والعقاب.
الغريب أنّ هذا النظام الذي خلقه حسام بدأ يؤثر فيه أكثر مما يؤثر في غيره. صار يستيقظ غاضباً إن وجد أحدهم في فراشه، يدوّن ملاحظات عن سلوكهم في دفتر صغير، ويخصص جزءاً من اليوم لما أسماه اجتماع التقييم الدوري. السلطة التي تخيّلها لحمايته من الوحدة، صارت بدورها تسجنه داخل وهمها. لم يعد يرى في القطط سوى موضوع للطاعة أو العصيان.
تمرّد صامت
لم يكن النظام الذي فرضه حسام مجرد مجموعة قواعد على دفتر قديم، بل محاولة يائسة لإنهاء الفوضى، وإقناع نفسه بأنّ العالم، حتى بعد الفقد، يمكن إدارته. وقد ظنّ أنّ القطط الخمسة ستنخرط في هذا النظام بوصفه طوق نجاة، أو ميثاقاً لحياة مشتركة بعد الانهيار. لم يدرك أنّ الكائنات التي لا تفهم اللغة، كثيراً ما تكون لها طريقتها هي الأخرى في التعبير عن الرفض.
كان أول ما تبدّل في سلوك القطط نظرتها، تلك النظرة الصامتة التي كانت دليلاً على الألفة، تحوّلت تدريجياً إلى نوعٍ من التحديق البارد، كأنهم يُعيدون تقييم وجودهم داخل المنزل. لم يعد أحدهم يركض خلف الطعام عند وضعه، لم تعد مواءاتهم تُنذر بالجوع أو الاستياء، بل انسحب كل منهم إلى ركنه الخاص، في صمت يشبه التواطؤ، لكنه بلا اتفاق مُعلن.
السلطة التي تخيّلها لحمايته من الوحدة، صارت بدورها تسجنه داخل وهمها. لم يعد يرى في القطط سوى موضوع للطاعة أو العصيان.
كانت "سماسم" أول من كسرت القاعدة، وهي القطة الأصغر، المشاكسة، ذات الألوان المختلطة والعينين المتوهجتين والذيل المُرتفع دوماً كراية تمرّد. في البداية، اكتفت بتجاوز التعليمات الصغيرة، قفزت فوق الطاولة، عبثت بأوراق الدفتر، تلاعبت بسلك الشاحن حتى أفسدته، نظرت إليه دون خوف، ومضت. بدا الأمر أولاً كلعبة أو طاقة زائدة، لكنه لم يكن كذلك. تلك القطة الصغيرة كانت تعرف جيداً أنها تقود شيئاً أكبر من اللعب، تمارس دوراً غير مكتوب؛ إثارة الفوضى في بيتٍ صار ضيّقاً على كل شيء ما عدا الصمت.
أما القطّ الأسود "جمعة"، فكان الظلّ الذي لا يُمسَك. لا يقترب كثيراً، ولا يبتعد. يقضي أغلب يومه أعلى الدولاب، يراقب من الأعلى ما يحدث على الأرض، يُسجّل كل شيء بعين نصف مغمضة، وكأنّ مهمته الوحيدة أن يكون شاهداً. لم يُشارك في خرق أيّ قاعدة، لكنه لم يلتزم بأي منها أيضاً. حين يُنادى عليه لا يردّ، حين يُطرد لا يغادر، وحين تُوزّع الحصص يراقب من بعيد، ثم يأخذ نصيبه في الوقت الضائع. "جمعة" لم يكن متمرداً، لكنه لم يكن صالحاً بل ظلّ متربصاً وصامتاً.
"مسعد"، في المقابل، كان القط الشيرازي الوحيد، تورطا فيه منذ سنوات بعد أن تركته صديقة لفترة قصيرة ولم تعد لتطلبه مرةً أخرى، بالرغم من شعوره الدائم بالتطفل والنبذ إلا أنه لم يكن يعترف من الأساس بوجود نظام. ينام كيفما يشاء، وأينما يشاء، وغالباً ما كان يظهر وقت الطعام فقط، يتناول حصته ثم يعود للكسل. يبدو غبياً أحياناً، لكن حركته مدروسة، عينه مفتوحة حين نظنه نائماً. لم يُظهر تأييداً ولا اعتراضاً، لكنه كان أول من قفز على السرير المحظور، وأول من شارك "سماسم" طبقها بخبث، وأول من ترك أثر قدميه على فراش حسام. لم يكن قائداً، لكنه انحاز دوماً إلى الفوضى كقط منبوذ.
"تهاني"، صاحبة العيون الملوّنة، كانت الاستثناء الهادئ. لا تخدش، لا تتشاجر، ولا تقترب من أحد. تقضي معظم وقتها تحت الكنبة، في عزلتها التي لا يُقاطعها شيء. بدت وكأنها لا تنتمي إلى البيت من الأساس. لا صوت لها، ولا أثر يُذكر، انزوت في مكان بعيد، لكنها لم تكن غائبة. كانت مراقبة من زاوية لا تصلها سلطة حسام، ولا تُفرض عليها قاعدة. لم تتمرد، لكنها لم تعترف أصلاً بالوضع القائم. وجودها صامت، لكنه أكثر راديكاليةً من أيّ تمرّدٍ صريح.
وسط هذا كله، كانت "بينكي" باسمها الممحون، أول وأقدم الأبناء، تبنّياها منذ زمن عوضاً عن محاولاتهم غير الناجحة للإنجاب، ترك لزوجته مهمة تسميتها كمحاولة لتخفيف الألم. بصفتها الأقدم والأكثر تعاطفاً ظلّت "بينكي" تحاول حفظ التوازن، كأنها تحاول تذكير الجميع بأنّ هناك بيتاً كان، وعلاقةً كانت، وذكرى لامرأة حنونة لا ينبغي إهانتها. لكن محاولاتها لم تكن كافية. نظراتها إلى حسام لم تعد تحمل الحنان نفسه، بل أصبحت أقرب إلى شفقة عميقة، كأنها ترى فيه صديقاً قديماً غرق في دور أكبر منه، ولم يعد يستطيع الخروج. حتى لمساتها بدأت تفقد دفئها، وتحولت إلى حضور صامت لا يرد، ولا يهاجم. كانت "بينكي" هي آخر ما تبقّى من الودّ القديم، وحين بدأت تفقد يقينها، سقط شيءٌ كبير في قلب حسام.
بدأت الجمهورية تتآكل ببطء. القواعد ما زالت مكتوبةً، لكن لا أحد يقرؤها. النظام لا يزال يُفرض، لكن لا أحد ينفذه. وحسام ما زال يكتب في دفتره، لكنه يعرف في قرارة نفسه أنه يكتب لمن لا يقرأ، ويصدر أوامر لمن لم يعُد يراه.
نأكل هشاشتنا أو تأكلنا؟
في اليوم الحادي والعشرين، جلس حسام أمام دفتره كما يفعل كل ليلة. حاول التدوين، لكن الكلمات جاءت هذه المرة فاترةً، بلا نبرة واضحة، كأنها تكتب لتُصفّي حساباً مع الفراغ لا لتُقرأ. لم يكن ينوي مراجعة القواعد ولا إصدار تعليمات جديدة. لكنه قرر أن يواجه هذا التمرد المستمر بالصرامة اللازمة، فلم تعد الجمهورية قادرةً على استيعاب هذا التسيب.
بعد ساعة، قرّر استدعاء القطط بلهجة صارمة، مؤكداً على إلزامية الحضور، ومُهدداً بعواقب وخيمة. لم تأتِ القطط برغم تكرار التهديدات ليس لأنها لا تفهم بل لأنها لم تعد تأبه بما يفعله. مرت ساعة تلو الأخرى وهو جالس في مكانه مُحاط بصمت خانق، في داخله كان يعرف أنّ نظامه انهار قبل هذه اللحظة بكثير، وأنّ سلطته تلك لم تكن إلا قناعاً مؤقتاً لنجاة شخصية أرادها، محاولة لإقناع جسد منهك بأنه ما زال ينبض. لكن الحزن حين يفقد الاعتراف به، يتحول إلى هوس بالسيطرة، ثم إلى جنون صغير ينمو في زوايا المنزل.
في تلك اللحظة، مرّ شريط طويل أمامه، تذكّر زوجته وهي تمسّد بيديها على شعر 'بينكي' الصغيرة قبل النوم، محاولاتهما الأولى للإنجاب، بكاؤها دون تفسير، وانكماش جسدها في الفراش من المرض قبل الوفاة بأسابيع، كأنها كانت تختبر كيف سيبدو الغياب. تذكر 'بينكي' وهي تربُت بأنفها على يده بعدما عاد من دفنها
انتفض أخيراً من مكانه، وبصوت مُتعب بدأ ينادي القطط باسمها، خرج صوته هشّاً، تابع النداء مرات لكن دون ردّ، جلست كل قطة في مكانها، كان التمرد قد اكتمل بالقطيعة الكاملة. باستسلام جلس على الأرض يراقب القطط، تجاهلته جميعها، إلا "بينكي". كانت تنظر إليه مباشرةً للمرة الأولى منذ أيام، نظرة لا تحمل ودّاً ولا شفقة، بل فقط نوعاً من اليقين، اليقين بأنّ سلطة حسام قد سقطت، وأنه برغم كل ما فعله لم يكن إلا أحد أفراد هذا المنزل.
في صباح بدا كأنه بلا بداية، استيقظ حسام متأخراً؛ لا مواعيد، لا جدول، لا أوامر تُكتب أو تُنفذ. كان ضوء الشمس يتسلل من خلف الستائر، ليكشف ما ظلّ النظام يخبئه لأسابيع، التراب في كل الزوايا، الأطباق المتراكمة في الحوض، كرات الشعر في كل مكان، والأوراق الممزقة على الأرض كأنها لفظت أنفاسها الأخيرة وفقدت معناها. لم ينهض، بقي ممدداً على الكنبة لوقت بدا طويلاً، يتابع حركة القطط بعد انهيار النظام. جمعه في موقعه المعتاد، لكن عينه لم تعد متربصةً. "سماسم" تتحرك في كل اتجاه كأنها اكتفت بانتصار رمزي. "مسعد" تمدد أمام الثلاجة كأنما يحرس بابها. "تهاني" ظلّت كعادتها في ركنها البعيد. أما "بينكي" فاقتربت للمرة الأولى منذ زمن ونامت على حافة الكنبة دون طلب، دون دعوة، نوماً هادئاً بجوار جسد بشري مُنهك لم يعد يُخيفها.
كانت الحياة تمضي دون ضجيج، وهذا أكثر ما أخافه، انهارت سلطته دون حرب، وسقطت قواعده دون إصلاح الفوضى، فقط انسحاب من كل محاولات الفهم أو التحكم. في المساء ومن دون ترتيب مسبق، قرر أن يعدّ طعام العشاء؛ فتح العلب القديمة، أعاد تسخين ما تبقّى من الأيام الماضية، وتخلّص من الأكل الفاسد. سكب حصصاً غير متساوية في الصحون الخمسة، وبشيء من الاستسلام ذهب دون أن يراقب من يأكل، لم يُسجّل ملاحظات، ولم يستنكر أي شيء.
ظلّ يردد بصوت هادئ: "الآن أسمّي الأشياء، لا لأمتلكها، بل لتبادلني الحب دون خوف"... ثم أطفأ الضوء ونام، وحين تنفّست 'بينكي' ببطء على صدره أدرك أخيراً أنّ الجمهورية انتهت، لكن الحياة لم تنتهِ.
جلس في الشرفة حيث كانت زوجته تحب الجلوس في أمسياتها الأخيرة، قبل أن يبدأ صمتها الأبدي. رأى القطط تتحرك بحرّية، تتشاجر أحياناً دون عنف، تقطع الصالة وثباً، ثم تعود إلى نوم متقطع لا يزعج أحداً. تساءل فجأةً: هل كان إعلان سلطته تلك تأجيلاً للحداد؟ هل كان يحاول الهروب من الإجابة عن سؤال بسيط: ماذا يعني أن تبقى وحدك وأن يغادرك شريكك فجأةً؟ ظلّ شارداً يسارع أفكاره حتى وهو على السرير يستجدي النوم، وفي اللحظة التي بدأ يفرك فيها عينيه من أثر النعاس، عادت "بينكي" مرةً أخرى بجسدها الممتلئ لتنام بجواره، حتى شعر بشيء يشبه الطمأنينة، لكنه بلا شكل، وبلا اسم. ربما كانت هذه هي الحياة التي تنتظره بعد فقد زوجته، لا نظام، لا حب، لا كارثة، فقط مجازفة يومية بعدم الانهيار.
مرت أيام، لم يعد حسام يراقب السلوك، أو يدوّن الملاحظات في دفتره، بدا وكأنّ اللغة نفسها تحللت بداخله، وعاد لا يثق بها أو يحتاجها. في صباح أحد الأيام، جلس على الأرض في منتصف الصالة، بدأ ينظر حوله كما لو أنه يرى البيت لأول مرة، لا مقر قيادة، ولا كرسي حكم، كل شيء فقط كما هو، بلا تأويل. "بينكي" ما زالت الأقرب، لا تطلب شيئاً، لكنها هناك، تجلس بجواره ثم تغفو، كأنها تقول لا أطلب منك أن تفهم، فقط كن هنا. بدأ يمسّد بيده على ظهرها. في تلك اللحظة، مرّ شريط طويل أمامه، تذكّر زوجته وهي تمسّد بيديها على شعر "بينكي" الصغيرة قبل النوم، محاولاتهما الأولى للإنجاب، بكاؤها دون تفسير، وانكماش جسدها في الفراش من المرض قبل الوفاة بأسابيع، كأنها كانت تختبر كيف سيبدو الغياب. تذكر "بينكي" وهي تربُت بأنفها على يده بعدما عاد من دفنها.
هنا، أدرك حسام أنه لم يكن بحاجة إلى سلطة تحدد مكانته. كان فقط رجلاً وحيداً يجلس بين خمسة مخلوقات لا تتكلم، لم يُعلن أي تغيير جديد، لكنه وجد نفسه في الصباح التالي يُنادي القطط بنبرة حنونة لا متسلطة. أعاد تسميتها بسخريته المحببة منذ تبنّياها، وعادت ابتسامته لرؤيتها تلعب وتمرح في أنحاء الشقة. وحدها "بينكي" جلست بجانبه لتذكّره أنها لم تكن الأقدم ولا المخلصة، بل تلك التي ربطت بينه وبين امرأة غادرته، دون أن تبتزه بالذكرى. أعاد تسمية كل شيء بلا هدف، فقط لأنه شعر أخيراً بأنّ لا أحد يطلب منه أن يكون شيئاً؛ لن يكون قائداً، لا زوجاً، لا أباً، بل سيكون إنساناً فقد، واحتمل، ويعيش.
في هذه الليلة قرر حسام الاعتراف لنفسه اعترافاً بدا متأخراً. ظلّ يردد بصوت هادئ: "الآن أسمّي الأشياء، لا لأمتلكها، بل لتبادلني الحب دون خوف"، ثم أطفأ الضوء ونام، وحين تنفّست "بينكي" ببطء على صدره أدرك أخيراً أنّ الجمهورية انتهت، لكن الحياة لم تنتهِ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.