"الله IS LESBIAN"؛ ظهور هذه العبارة على قميص ناشطة نسوية مغربية، كان كافياً لتفجير سجال قديم جديد، عن المقدّس وعن الحرية والحق في التعبير، وتقسيم المجتمع المغربي إلى رؤى متباينة، بين من يرى في العبارة حقاً مشروعاً في التعبير، ومن يعدّها استفزازاً صريحاً، وإساءةً إلى "الذات الإلهية".

في جلسة محاكمتها الأربعاء 3 أيلول/ سبتمبر 2025، قضت محكمة مغربية بسجن الناشطة المدافعة عن مجتمع الميم-عين، ابتسام لشكر، عامين ونصف العام مع غرامة تناهز 50 ألف درهم مغربي (نحو 5500 دولار أمريكي) في تهمة "الإساءة إلى الذات الإلهية"، إثر رفعها العبارة السالفة الذكر على قميصها الأسود.
تحريض وتهديدات بالقتل
بدأت ملابسات هذه القصة في 31 أيار/ مايو 2025، حين أعادت لشكر مشاركة صورتها بالقميص الذي يحمل الرسالة عبر حسابها في إكس، علماً أنها كانت قد ارتدته قبل نحو عامين خلال مشاركتها في مهرجان للفن والتعبير النسوي "Women Create International" في لندن، وهو حدث نسوي دولي يسعى إلى دعم الناشطات والفنانات اللواتي يتعرضن للتهديد والخطر والرقابة بسبب مواقفهنّ وأعمالهنّ.
قضت محكمة مغربية بالسجن عامين ونصف العام على الناشطة ابتسام لشكر بتهمة "الإساءة للذات الإلهية"، برغم المخاوف على صحتها إذ تعاني من السرطان وتحتاج إلى جراحة عاجلة لتفادي بتر ما تبقّى من ذراعها نصف الاصطناعية وتعاني من صعوبة النوم في زنزانتها الانفرادية
وعقّبت لشكر على الصورة بـ"في المغرب، أتجول مرتديةً قمصاناً تحمل رسائل ضد الأديان والإسلام وما إلى ذلك… نعم، الإسلام، كأيّ أيديولوجيا دينية، فاشي، وذكوري، وكاره للنساء".
أكثر من شهرَين مَرَّ على الحدث، وعلى نشر ابتسام الصورة، حتى 10 آب/ أغسطس 2025، فبعد نشر وزير العدل الأسبق، المصطفى الرميد، تدوينةً على حسابه في فيسبوك، يحرّض ضدّها قائلاً: "المسماة ابتسام لشكر تستحق المساءلة، إذا ثبت صحة ما نسب إليها من وصف لله تعالى"، مبرراً ذلك بأنه "في المغرب قانون واجب التطبيق، ومؤسسات تحمي المقدسات، ولا مجال لأيّ تسامح مع من فكّرت وأصرّت على القول في حق الله تعالى ما لم يقله أحد من العالمين، سواء كانوا ملحدين أو كافرين".

وفي 10 آب/ أغسطس الماضي أيضاً، غرّدت لشكر عبر حسابها في إكس: "'الله مثلي'، جلبت لي هذه العبارة آلاف الإهانات الجنسية والتهديدات بالاغتصاب وبالقتل والدعوات إلى إزهاق الروح والرجم وما إلى ذلك على مدى الأيام الثلاثة الماضية، 99% منها من رجال فخورين بعنفهم ضد النساء المبني على أساس ديني".
أُلقي القبض على الناشطة المغربية، ثم أجّلت المحكمة الابتدائية في الرباط محاكمتها إلى جلسة 3 أيلول/ سبتمبر 2025، في حالة اعتقال، بعد رفض طلب فريق الدفاع عنها تمتيعها بالسراح المؤقت، بسبب وضعيتها الصحية الحرجة.
لشكر مصابة بالسرطان، وتحتاج إلى إجراء عملية جراحية عاجلة في يدها اليسرى نصف الاصطناعية لتفادي بتر ما تبقّى منها، ولا سيّما في ظل ظروف اعتقال وُصفت بالقاسية في زنزانة انفرادية مع معاناتها من صعوبة النوم، بحسب ما صرّح به دفاعها.
جدير بالذكر أنّ لشكر أخصائية نفسية وإكلينيكية متخصّصة في علم الإجرام وعلم الضحايا، وقد احتفلت في الخامس من آب/ أغسطس الماضي، بعيد ميلادها الخمسين.
محطات جريئة في حياة لشكر
ليست هذه المرة الأولى التي تُعَبِّر فيها لشكر عن مواقف جريئة تتعلّق بحرية التعبير والدفاع عن الحريات الفردية، إذ سبق أن شاركت في محطات مثيرة للجدل، خصوصاً في سياق "الحركة البديلة للدفاع عن الحريات الفردية" التي يشار إليها اختصاراً بحركة مالي (MALI)، والتي تُعدّ إحدى أبرز مؤسِّساتها.
من بين هذه المحطات الجريئة، مشاركتها عام 2009 في تنظيم إفطار علني في الرباط، رفضاً لتجريم الإفطار جهراً في نهار رمضان، وفق الفصل 222 من القانون الجنائي. محطة ثانية شهدها عام 2013، حين شاركت في "مظاهرة للقبلات" في العاصمة الرباط أمام البرلمان، احتجاجاً على متابعة طفل وطفلة في الـ15 من العمر بسبب صورة قبلة كانا قد نشراها على مواقع التواصل الاجتماعي.
من يأبه بالحريات في المغرب؟
لشكر، التي تعلن باستمرار أنها لادينية، لديها علاقات لافتة داخل دوائر المنظمات الدولية الحقوقية والنسوية، ما يضع المغرب في موقف مربك، سواء أمام المنتظم الدولي الذي يراقبه بعين متمعِّنة، خصوصاً وهو مُقبل على المشاركة في تنظيم كأس العالم 2030، وفي الوقت نفسه، أمام الصوت الداخلي لمجتمعه المحافظ.
وفيما يواجه المغرب هذا الوضع، لا تولي قواه السياسية، اليسارية واليمينية والليبرالية، الاهتمام الكافي لقضايا الحريات الفردية حيث تشكّل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهاجس الأول للمواطنين والمعنيّين بهم.
إلى ذلك، جماعة العدل والإحسان، أكبر التنظيمات الإسلامية في المغرب، حذّر أحد أعضاء أمانتها العامة، عمر إحرشان، في تدوينة على فيسبوك، من محاولات إثارة الفتنة بين مكونات المجتمع، مؤكداً أنّ بعض الأطراف منزعجة من حسن تدبير الاختلاف الذي يقوّي الجبهة المناهضة للفساد والاستبداد، داعياً الجميع إلى عدم الانشغال بـ"الأعراض"، وتوجيه نضالهم نحو "من يقف ضد دمقرطة المغرب ونموه".
أما الليبراليون، فلا يجرؤون على "مغامرات" كتلك التي تخوضها لشكر، حيث إنها قد تجعلهم خارج حدود الحسابات السياسية، المرتبطة بما هو اقتصادي بالدرجة الأولى.
استمرار المغرب في فرض قيود على حرية التعبير والحريات الفردية، ترصده تقارير ومؤشرات دولية، أحدها صادر عن منظمة "فريدوم هاوس"، بحسب تقريرها السنوي لعام 2025، والذي حصل المغرب فيه على 37/ 100 نقطة، ليُصنّف بلداً "شبه حرّ"، فيما توزّعت نقاطه بين 14/ 40 في الحقوق السياسية، و25/ 60 في الحريات المدنية، وهي أرقام تعكس واقعاً متذبذباً حيث إن هناك انتخابات منتظمةً وتعدّديةً سياسيةً من جهة، مقابل تضييق على حرية التعبير، خصوصاً في الفضاء الرقمي، من جهة أخرى.
تقرير آخر لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" عام 2024، يقدّر أنّ حرية التعبير في المغرب لا تزال مقيّدةً بشكل كبير، وأنّ السلطات تواصل استخدام قوانين فضفاضة لتجريم التعبير السلمي عن الرأي، بذرائع من بينها "إهانة الملك" و"المؤسسات الدستورية" و"المسّ بالأمن الداخلي للدولة".
لا تولي القوى السياسية، اليسارية واليمينية والليبرالية، في المغرب الاهتمام الكافي لقضايا الحريات الفردية حيث تشكّل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهاجس الأول للمواطنين والمعنيّين بهم.
وخلال 2023، وثّقت المنظمة حالات اعتقال ومحاكمة لصحافيين وناشطين بسبب منشورات على الإنترنت أو بسبب آرائهم، ما يعكس استمرار الرقابة على الفضاء الرقمي. كما أُدين بعض الصحافيين بعقوبات سجنية طويلة في قضايا عدّتها منظمات حقوقية مسيّسة.
وتشير المنظمة إلى أنّ هذه السياسات ساهمت في خلق مناخ من الرقابة الذاتية، حيث يتجنّب كثير من الصحافيين والفاعلين الحقوقيين تناول مواضيع حسّاسة مثل المَلَكية أو الدين أو قضية الصحراء، التي تمثّل ثوابت وخطوطاً حمراء للسلطات في البلاد.
فجوة النصوص القانونية
بالعودة إلى قضية لشكر، فهي تضيء على أنّ المغرب برغم أنّ لديه دستوراً، يقرّ في فصله الـ25 أنّ حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها، كما وقّع على اتفاقيات ومواثيق دولية، يعدّها في ديباجته تسمو على التشريعات الوطنية، وأهمها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تنصّ مادته الـ18 على أنّ لكل إنسان الحق في حرية الفكر والدين، بما يشمل اختيار الدين أو المعتقد، كما أنه في مادته الـ19 يقرّ الحق في حرية التعبير واعتناق الآراء دون مضايقة، إلا أنّ تنزيل هذه الترسانة القانونية، يظلّ تحدياً بالنسبة للمغرب، خصوصاً حين يتصادم مع ما يعدّها ثوابت.
أوجه هذا التصادم تبرز في القانون الجنائي، كما في المادتين 267 و267-5، المتعلقتين بتجريم بعض أشكال التعبير ضد الدولة أو الملك أو المؤسسات. هذه الفجوة تكشف عن هشاشة الهامش المسموح به للتعبير الحرّ، خاصةً في قضايا ذات طابع ديني أو رمزي.
في هذا السياق، يقول مستشار وزير العدل، عبد الوهاب رفيقي، في تصريح لرصيف22: "وزارة العدل خاضعة للقوانين الجاري العمل بها اليوم، لكنها في الوقت ذاته عاكفة على تعديل القانون الجنائي، وأكيد أنها تستحضر كل التوجهات والآراء الموجودة داخل المجتمع، التي تراعي بنيته وخصوصيته، كما أنها تتابع وترصد ردود الأفعال التي تلت واقعة ابتسام لشكر".
ويشير رفيقي، إلى أنه لا يمكن، قبل صدور القانون الجنائي في نسخته الجديدة، الحديث عن موقف للوزارة. أما في سياق مهمة الوزارة التشريعية وتهيئتها للقوانين، خاصةً المتعلّقة منها بحرية التعبير، فيؤكد رفيقي: "الوزارة تسعى إلى تطوير هذه القوانين وملائمتها مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها المغرب في إطار ضمان حرية التعبير، ومع التطور الذي يعرفه العالم على مستوى الحريات".
"الورشات مفتوحة والنقاشات لا تزال جاريةً. وطبعاً، كأيّ ورش، هناك آراء مختلفة وتوجهات، والحكومة ستراعي في تقنينها ما فيه مصلحة المجتمع وتطوره، خاصةً أنّ المغرب مقبل على تظاهرات دولية عدة، ما يجعل ترسانة قوانينه مراقبةً"، يختم رفيقي.
قضية توقيت سياسي
صورة لشكر واعتقالها، بعد تدوينة المصطفى الرميد، أثارا موجةً واسعةً من التفاعل والانتقادات والتعليقات، في خضم انشغالات المواطنين بالظروف الراهنة، كما توضح الناشطة الحقوقية وأستاذة التاريخ في جامعة محمد الخامس، لطيفة البوحسيني، في تصريح لرصيف22.
"لا يجب الارتكاز على القناعات والميول الشخصية حين النظر في كيفيات تعبير أي أحد عن آرائه ومواقفه، فهناك أدبيات حقوقية هي التي تحدّد مقبولية أي شكل تعبيري"... محاكمة ابتسام لشكر عقب ارتدائها شعار "الله IS LESBIAN" تكشف الكثير عن وضع الحريات والمدافعين عنها في المغرب
تضيف البوحسيني: "قضية ابتسام لشكر طُرحت بشكل إرادي من طرف من أوحي له أو أوعِز إليه بوضعها على الساحة في غمرة انشغال الناس بمسلسل الإبادة والتجويع الممنهجين في غزة من طرف إسرائيل، وانشغال الناس بتزايد هجوم وتغوّل المتصهينين في المغرب، الذين وجدوا في التطبيع غطاءً لتضليلهم ودعايتهم لتبرير اتساع دائرة علاقاتهم مع الكيان الغاصب".
وتتابع البوحسيني: "كذلك، انشغال الناس بالظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية جراء السياسات المنتهجة من طرف الحكومة التي يترأسها عزيز أخنوش، والتي أدّت إلى المزيد من تفقير الفقراء وتعميق الهوة والفوارق الاجتماعية"، لافتةً إلى أنّ "الدليل على ذلك أنّ ابتسام لشكر نشرت صورتها قبل شهور، ولم يتفاعل أحد معها، بل تجاهلها الناس ولم يعبأوا بها، خصوصاً أنها معتادة على مثل هذه المنشورات".
تواصل حديثها: "هذا الرجل استفاق على حين غرّة وجاءته الغيرة والحمية، وهو الذي لم يتذكر الله سبحانه وتعالى في ما تعيشه غزة من إبادة، وهو الذي لم نسمع له رِكزاً في ما يتعلّق بفساد المفسدين في الأرض. شجاعته الوحيدة هي الغلبة على امرأة لا تشكّل أي خطر على أحد، ولا حتى على إيمان المؤمنين الصادقين".
الحريات بين النص والواقع
ترى البوحسيني، أنّ تعبير لشكر "تعبير مستفزّ، يؤدّي إلى عكس الهدف المتوخّى منه". لكنها مع ذلك، تتمسّك بأنه "يبقى تعبيراً شخصياً في ظل تحوّلات صار الفرد يسعى فيها إلى تشكيل قناعاته، بما فيها الدينية"، وتشير إلى أنّ التعبير يدخل في نطاق حرية التعبير التي تنبغي حمايتها، ومناقشة المضامين والمواضيع التي يتم التعبير عنها في نطاقها، "فلا إكراه في الدين، ولا يمكن القبول بمحاكم التفتيش"، على حد قولها.
وتضيف الأكاديمية المغربية أن ما عُدّت "إساءةً إلى الذات الإلهية" في بلادها، تظلّ أمراً غير مقبول في مجتمع لا يزال الرأي العام فيه يرفضه ويستهجنه ويشعر بالاستفزاز تجاهه. لكنها توضح في المقابل أنّ "التوسّل بالاعتقال والتضييق لن يحقق أي فائدة، بقدر ما يمكن تدبير الأمر عبر فتح النقاش على أوسع نطاق، وإتاحة الفرصة للنخب والمثقفين والعلماء للتوقف عند مختلف الأبعاد؛ الدينية والفلسفية والقانونية وحتى النفسية، بما في ذلك التمثّلات المتنوعة لمفهوم الذات الإلهية".
كما ترى في متابعة لشكر في حالة اعتقال "تضييقاً واضحاً وتأويلاً متعسّفاً للقانون، خاصةً الدستور الذي نصّ بشكل صريح على حرية التعبير". وتشدّد على أنّ التراجع الحقيقي يكمن في الممارسة السلطوية التي تكشف عن ضيق صدر السلطة تجاه مختلف أشكال التعبير، سواء تعلّق الأمر بانتقاد السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو بفضح قضايا الفساد، أو بالنقاش المرتبط بالحريات الفردية التي غالباً ما تُستعمل لتكريس مزيد من السلطوية.
ولا تُنكر الحقوقية المغربية وجود تراجعات خطيرة في مجال حرية التعبير، مبرزةً أنّ المغرب يعيش على إيقاع متواصل من الاعتقالات التي تطال الحقوقيين والصحافيين والمدوّنين والأصوات النقدية كافة، وهو ما يعكس رغبةً واضحةً في فرض الرأي الواحد وإقصاء التعدّدية والاختلاف.
مأزق التعبير
وجهة نظر حقوقية أخرى يعبّر عنها الناشط الحقوقي والمدني خالد البكاري، الذي يقول لرصيف22، إنه "لا يجب الارتكاز على القناعات والميول الشخصية حين النظر في كيفيات تعبير أيّ أحد عن آرائه ومواقفه، فهناك أدبيات حقوقية هي التي تحدّد مقبولية أي شكل تعبيري".
ويلفت البكاري إلى أنّ ما تقوم به لشكر "ما دامت لا تدعو إلى ممارسة العنف، ولا إلى التمييز، ولا إلى الكراهية، فإنه يدخل في خانة التعبير عن الرأي، مهما كان صادماً للرأي العام، أو لشعور الأغلبية، ومهما سبّب دعمها من إحراج حتى للفاعل الحقوقي الذي حين يدافع عن حقها في التعبير يُنظر إليه على أنه متفق معها، وأحياناً يُنظر إلى حقوق الإنسان كمنظومة معادية للدين، وهو أمر غير صحيح بتاتاً".
كذلك، يعتقد الناشط الحقوقي أنّ "ما يجعل ما تقوم به لشكر مستهجناً حتى من طرف ليبراليين ويساريين، هو عدم مراعاتها السياق الثقافي المحلي. ففي مختلف مواقفها المثيرة للجدل، نجد تقاطعاً مع أشكال تعبير نسوية غربية، يصعب قبولها في الشرط السوسيوثقافي في المجتمعات المسلمة أو المحافظة عموماً".
ويستطرد: "القانون المغربي من الناحية المعيارية لا يحمي الحريات الفردية، بل يضع قيوداً عليها، حتى في الممارسات التي قد يقوم بها الأفراد في فضاءاتهم الخاصة ولا تُلحق ضرراً بالآخرين".
ويوضح أنّ تطبيق هذه القوانين في الواقع لا يتم دوماً بالصرامة نفسها، إذ تتدخّل عوامل متعدّدة في ذلك، مثل الرشوة أو النفوذ أو تقديرات السلطة أو حتى تساهل مجتمعي قد يدفع السلطة إلى التماهي معه.
ويبيّن البكاري أيضاً أنّ هذه القوانين لا يتم تعديلها بما يكفل حماية الحقوق الفردية والحياة الخاصة، حتى في الحالات التي طبّع فيها معها المجتمع نسبياً، مثل العلاقات الرضائية بين الراشدين. وأضاف أنّ هذه الترسانة القانونية قد تتحوّل أحياناً إلى أداة بيد السلطة تستعملها لاستهداف المعارضين.
الفصل الفضفاض
ويتفق البكاري مع البوحسيني، في قوله إنّ "الضجة كانت بسبب تدوينة السيد وزير العدل السابق، لا بسبب رد فعل المجتمع. فالصورة تعود إلى سنتين، وكانت قد نشرتها بالتزامن مع نقاش كان في الكنائس الكاثوليكية حول حقوق المثليين، وأعادت نشرها في أيار/ مايو 2025، ولم يطّلع عليها سوى عدد قليل من المتابعين، الذين تراوحت ردود فعلهم آنذاك بين التجاهل أو السخرية، أو التعبير عن رفضهم للمكتوب. وعليه، فإنّ الصورة عند نشرها لم تسبّب أي ضرر جماعي، ولم تهدّد الأمن العام، ولم تنتج عنها أي ردود فعل عنيفة أو مطالبة بالإدانة".
"كحقوقيين، نرى أنّ الفصل الذي توبعت بموجبه لشكر من أخطر الفصول التي تهدّد حرية التعبير، إذ يتعلّق بالمسّ بالدين الإسلامي والوحدة الترابية والملك، وخطورته تكمن في أنه فضفاض، ولا يضع أيّ تعريف للمسّ بهذه الثلاثية"
ويلفت الانتباه إلى أنّ "الضجة حدثت بعد تدوينة الرميد المحرِّضة على اعتقالها، وحتى تلك الضجة ظلّت حبيسة مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تشغل الرأي العام، ولم يكن لها أيّ تعبير في الشارع، كما حدث مثلاً في حادثة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد".
"كحقوقيين، نرى أنّ الفصل الذي توبعت بموجبه لشكر من أخطر الفصول التي تهدّد حرية التعبير، إذ يتعلّق بالمسّ بالدين الإسلامي والوحدة الترابية والملك، وخطورته تكمن في أنه فضفاض، ولا يضع أي تعريف للمسّ بهذه الثلاثية"، يتابع البكاري، مؤكداً: "يمكن تكييف هذا الفصل لإدانة أي شخص، حتى لو لم يكن هناك أي مساس، وتالياً سيكون المتابعون خاضعين لتقديرات وقناعات سلطة الاتهام والقضاة، ما يفتح المجال أمام استخدامه بانتقائية".
ويختم البكاري حديثه بأنّ "المسافة بين ثقافة المجتمع وممارساته من جهة ومنظومة حقوق الإنسان من جهة أخرى، قائمة حتى في المجتمعات الديمقراطية، غير أنّ تلك المسافة تتسع في مجتمعات مثل المجتمع المغربي، والسلطة تستغل هذا الأمر لصالحها"، ويستدرك: "التشدّد يكون أحياناً أكبر في السلطة منه في المجتمع، إذ لا يمكن نكران حصول تحوّلات في المجتمع لصالح قبول العديد من الحريات الفردية، ما دامت غير مطبوعة باستفزاز الشعور الجمعي، والمجتمع يطور في بعض الأحيان آليات لعزل ما يعدّه غير مقبول أخلاقياً في عُرفِه، دون المسّ بالحريات الخاصّة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.