ما معنى أن تكون لا دينياً؟ ما معنى أن تطرح الأسئلة؟ ما معنى أن تنتمي للأقلية في بلاد العرب؟ كيف تواجه إذا أعملت نهج ديكارت في الدين؟ كيف تواجه إن تسلّحت بالشك، أوليت ظهرك للموروث وجعلت مطرقة النقد أساس عملك؟
أسئلة لا تقود سوى إلى محنة التفكير هنا في بلاد المغرب، يصبح التفكير جريمة يعاقب عليها اجتماعياً وقانونياً. إبداء الموقف صعب جداً، هنا تبقى المواقف سرّاً، وتعمل جهراً بما تبتغيه الجماعة.
"زعزعة عقيدة مسلم" مصطلح يجعل من حرية المناقشة وإبداء الرأي والتناظر جرماً.
قانونياً، يحفظ الدستور المغربي حق الأفراد في حرية التديّن، وفق ما جاء في الفصل السادس منه: "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"، لكن بالعودة إلى القانون الجنائي المغربي، نجد تناقضاً صارخاً مع ما يدعو إليه الدستور، حيث جاء في الفصل 220: "من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبـادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم. ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات".
"زعزعة عقيدة مسلم" مصطلح يجعل من حرية المناقشة وإبداء الرأي والتناظر جرماً، بل حتى استعمال وسائط التواصل الاجتماعي للتعبير عن المواقف، ما دامت العبارة في الفصل شاملة وعمومية وفضفاضة.
وأمثلة الاعتقال بموجب حرية الرأي والنقاش الديني في المغرب كثيرة، لعل آخرها فاطمة كريم، التي لوحقت بتهمة "المسّ بالمقدسات".
ما معنى أن تكون لا دينياً في المغرب؟ ما معنى أن تنتمي للأقلية في بلاد العرب؟ كيف تواجه إذا أعملت نهج ديكارت في الدين؟ كيف تواجه إن تسلّحت بالشك، أوليت ظهرك للموروث وجعلت مطرقة النقد أساس عملك؟
أن تفكر في المقدس معناه نفي المجتمع
هل وصلنا لمرحلة يمكن فيها الخروج عن المألوف والمتعاقد عليه اجتماعياً، كيفما كان هذا المألوف؛ عرفاً، أو تقليداً أو مجرد أفكار؟ هل وصلنا لدرجة التصالح الاجتماعي، والاعتراف بأن العقل واحد، لكن طريقة توظيفه مختلفة؟ هل البيئة الفكرية في المغرب مؤهلة لطرح مثل هكذا نقاشات تسائل السائد؟
علّمني تخصصي في النقد، أنه لا وجود للمقدس ولا الحقيقي المطلق، مطرقة النقد يتساوى عندها كل شيء، ولو كان مقدساً اجتماعياً. أخذت أفكك المتوارث (اليوم لا أرى الدين سوى إرثاً ثقافياً) لم أحمل معي النقد من أجل الهدم إنما من أجل القناعة، أن أقتنع بما أنا وارثه (الدين الإسلامي)، يقينية الدين والتسليم بوجود الله، أو القطع مع كل ذلك، استناداً إلى مبدأ أن الشك اضطراب والقناعة راحة.
كأي إنسان ولد ضمن بيئة ثقافية معينة، كنت متشبثاً بديني، منافحاً عنه، صلتي به كانت طقوسية محضة، ما تسرّب لنا من العائلة والمدرسة والمحيط، لم أكن حينها ملتزماً معرفياً، فكان بذلك البحث في الدين آخر اهتماماتي.
هناك صدمة الحداثة، وهناك صدمة التفكير، مرحلة الجامعة، القشة التي قصمت ظهر مواقفي، بدأت الأسئلة والظنون تتشكل تباعاً، بعد أن قطعت مرحلة متقدمة معرفياً. بعيداً عن التفاصيل، وصلت إلى مرحلة القطيعة مع الدين، فكانت مطية للقطيعة مع الله، إيماناً مني آنذاك أن نفي الدين، نفي لله ولوجوده، بيد أن تأملات عديدة قادتني إلى ما أتبناه اليوم (اللادينية)، التسليم فقط بوجود الله العادل.
موقع الأصدقاء من الموقف
بناء المواقف لا يتمّ إلا بطرح الأسئلة، تلك التي يفرزها العقل الشكاك، عديد الأسئلة التي كنت أشاركها مع الأصدقاء أو عبر صفحتي على فيسبوك، لم يكن من ورائها طعن ولا سخرية، إنما فتح نقاش صحي قد يساعد على فهم أكثر.
وصلت إلى مرحلة القطيعة مع الدين، فكانت مطية للقطيعة مع الله، إيماناً مني آنذاك أن نفي الدين نفي لله ولوجوده
تلك الشكوك تحولت إلى يقينية عند بعض الأصدقاء، فاتخذ موقفاً على أنني ملحد، سمعتها مراراً وتكراراً بالحرف: "فلان ملحد، فلان خرج عن الملة".
صدمة وبشاعة تلك التي أحسست بها حينها، البشاعة أن لا أحد حاول فتح نقاش في الأمر، أو طلب فهماً للأمر، بل حين واجهت بعضهم بتلك الأسئلة، تلقيت أجوبة تثني العقل عن التفكير: "لا مجال للنقاش في الدين، النقاش فيه تطاول".
شرحت للجميع أنها مجرّد أسئلة، من جهة أن كل شيء متوارث لم نفككه ولم ندقق فيه، ومن منطلق أن الله لا يعبد عن جهل، ومن زاوية أن مطرقة النقد تدق كل شيء، لكن تبين لي أن هناك خطوطاً حمراء: "المقدس"، وهذه الخطوط لا يجب تجاوزها، بل ومشكوك في أمر من يناقشها. كلّ شك يجعلك تصطدم مع الثقافة اليومية، نحن ضحايا للتفكير اليومي.
حتى لا أكون متشائماً تماماً، هناك ثلة من الأصدقاء المتنورين فكرياً والمختلفين معي موقفاً، كانوا يناقشون الأفكار في حوار سمته الاحترام.
موقفان تعرضت لهما أظهرا إرهاباً فكرياً، تعرض يوماً حسابي بفيسبوك للقرصنة، وتم التشهير بي، وتعرّضت للتهديد بالقتل، والتصفية من البلد، لأن المنطقة لا تلد مثلي. حينها – للأمانة – أحسست برعب وخوف، جعلاني أضع مسافة بيني وبين النقاش عن الدين أو النشر عنه، بل منذ تلك اللحظة قرّرت عيش الانقسام، أن أكون لا دينياً سرّاً، وأساير الجماعة جهْراً، عديد الأصدقاء اللادينيين، بدأت أثنيهم عن فتح تلك النقاشات، فلسنا إلا كمن يسكب الماء في الرمل.
في الموقف الثاني أحسست أن زاوية الأصدقاء بدأت تتقلص، مرة وصلتني رسالة من صديقة من أغلى الناس عندي، قالت بالحرف: "أنت ملحد، وديني لا يسمح لي بأن نكون أصدقاء". وتم حذفي من قائمة حياتها. آلمني ذلك كثيراً وبصدق، لأني كنت سنداً لها في كثير من الصراعات التي كانت تعيشها، لكن، المقدس عندها يضرب كل ذلك عرض الحائط.
حتى لا أكون متشائماً تماماً، هناك ثلة من الأصدقاء المتنورين فكرياً والمختلفين معي موقفاً، كانوا يناقشون الأفكار في حوار سمته الاحترام، وكان ذلك يشعرني بالدفء. لماذا؟ لأن البيئة التي ولدت فيها محافظة، تقليدية، من الصعب أن تناقش فيها هاته الأفكار بحرية، من الصعب أن تنحي أحدهم إلى الزاوية لتناقش معه. هؤلاء الأصدقاء أشعروني أن داخل كل قاعدة استثناء.
ما زلنا لم نصل بعد إلى أن الإنسانية أشمل من كل دين ومعتقد، أن نعتنقها أولاً، ستمنحنا الإنسانية عدالة في التفكير، وحرية في القناعات والاختيارات، أن الاختلاف رحمة والتناقض محرك التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين