عملها في الشرطة النسائية في عدن منذ عام 1986، لم يشفع لها في وقف قرار إزالة منزلها العشوائي حيث تسكن أم سيلة، المسنّة التي أقعدها المرض، مع ابنتها وأطفالها منذ أكثر من ثلاثة عقود، في مديرية الممدارة في عدن، وتحديداً في حيّ الإرسال.
يشتهر الحيّ بالمساكن الشعبية البسيطة، وهي عبارة عن أكواخ أو أبنية من الطوب والخشب. في نيسان/ أبريل 2025، وبينما كانت سيلة أحمد، تعدّ وجبة الفطور لأطفالها السبعة الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام و14 عاماً، سمعت، على غير العادة، صوتاً يتقدّم نحو المساكن. تفاجأت بحملة أمنية مدعومة بسيارات مليئة بالعناصر الأمنية من وحدات مختلفة، بينها الشرطة النسائية، فضلاً عن جرّافات ضخمة لبدء عملية إزالة جماعية لمساكن أكثر من 138 أسرةً تسكن 95 منزلاً صدرت في حقها قرارات إزالة، وفق عدد من الأهالي الذين تحدّث إليهم رصيف22، والوثائق التي شاركوها معنا.

"التمييز العنصري ضد المهمّشين موجود بوضوح في قرارات الإزالة، وفي حرمانهم من الخدمات، وحتى في استبعادهم من برامج الإغاثة التي تنفّذها بعض المنظمات. هذا انتهاك مركّب لحقوق الإنسان، قانوني وأخلاقي"... عن إخلاءات حيّ الإرسال في عدن
السبب المعلن للهدم هو أنّ المباني مخالفة للمخطّطات الرسمية؛ "بناء عشوائي". لم يتلقَّ السكان أيّ إشعارات مسبقة أو بدائل سكنية أو حتى وعود بالتعويضات، وفق ما ذكر خمسة منهم لرصيف22. يقع حيّ الإرسال في منطقة الممدارة التابعة لمديرية الشيخ عثمان، إحدى مديريات محافظة عدن. وعلى الرغم من أنّ المحافظة تتبع إدارياً للحكومة المعترف بها دولياً، إلا أنّ الأخيرة ليست لديها صلاحية في عدن، وسلطة حكم الواقع تتمثّل في المجلس الانتقالي الجنوبي.

سيلة أحمد (43 عاماً)، وهي ربّة منزل وأمّ لأربع بنات وثلاثة ذكور، تجلس باكيةً بجوار والدتها المسنّة، وتروي لرصيف22، عن الرعب الذي عاشته لحظة وصول الحملة الأمنية: "بناتي انهرن من الخوف، واحدة منهنّ أُغمي عليها... لم نستطع حمايتهنّ ولا حماية أنفسنا. كل ما عشنا نبنيه في 30 عاماً، بجرفة واحدة كاد أن يتحوّل إلى تراب".

أما شوقي كليب (57 عاماً)، خرّيج الإعلام وعضو اللجنة المجتمعية في الحي، ويسكن فيه، وكان قد فقد شقيقه في الحرب الأهلية عام 2015، فيقول لرصيف22، عن مشهد اقتحام الحي وإخلاء المساكن: "الأطقم دخلت فجأةً، هدمت أجزاء من ثلاثة بيوت، وأخرجت الأثاث، وسحبت الرجال الذي حاولوا مقاومتها إلى السيارات العسكرية… حتى المعوّق لم يسلم منها. نحن نعيش خارج الخريطة، حتى المنظمات المدنية مُنعت من الدخول لمساعدتنا".
وتشكّلت اللجنة المجتمعية للحي من أفراد المجتمع المحلي بهدف تمثيل السكان والمساهمة في حل قضاياهم، وتحقيق التواصل بين المجتمع والسلطات المحلية وأيضاً المنظمات المدنية التي تساعد هذه اللجان في القيام بالوساطة لأجل تعزيز المشاركة المجتمعية، وتحسين الخدمات، والاستجابة للاحتياجات الإنسانية والتنموية.

ويؤكد كليب أنّ ما يحدث هو "إقصاء طبقي واضح"، و"لا يُعدّ تطبيقاً للنظام أو القانون وإنما هو انتقام من الفقراء..."، ويقصد بذلك أنّ السلطات والجهات التنفيذية لا تقوم بهذه الإزالات بهدف تطبيق القانون على الجميع على نحوٍ عادل، بل يراها ممارسةً انتقائيةً وظالمةً تستهدف الفقراء والمهمّشين فقط، استناداً إلى أنّ قرار الإزالة لم يشمل أصحاب مبانٍ أخرى.
"تمييز عنصري"
يتفق أمين عام الاتحاد الوطني للفئات الأشد فقراً، المحامي صلاح دبوان، محامي عدد من الأسر المتضررة من القرارات في الحي، مع كليب، إذ يقول لرصيف22، إنّ السلطات في عدن تمارس ازدواجيةً في تطبيق القانون حيث "عشوائيات الفقراء التي تُهدم، تُمنح للتجار عبر صفقات، والقانون يُطبّق على من لا يملك نفوذاً ويُعطّل حين يتعلّق الأمر برأس المال".
"نحن نواجه حالة إخلاء جماعي قسري تخالف القانون اليمني والدولي... الضغط المجتمعي أوقف الهدم مؤقتاً. لكننا نعمل على تثبيت الحماية القانونية من خلال المحكمة الإدارية"، يضيف دبوان، فيما يكشف عن العنصرية التي يواجهها سكان العشوائيات، مؤكداً أنّ "التمييز العنصري ضد المهمّشين موجود بوضوح في قرارات الإزالة، وفي حرمانهم من الخدمات، وحتى في استبعادهم من برامج الإغاثة التي تنفذها بعض المنظمات. هذا انتهاك مركّب لحقوق الإنسان، قانوني وأخلاقي".
كما يشرح دبوان، أنّ ما يجري يمثّل خطراً على نحو 138 أسرةً مهدّدةً بالتشريد "دون سند قانوني واضح"، برغم أنّ مساكنها قائمة منذ تسعينيات القرن العشرين، أي قبل صدور القوانين التي تجرّم البناء العشوائي في البلاد، مشدّداً على أنّ سكان حي الإرسال يعيشون في هذه المنطقة منذ أكثر من 30 عاماً، وأنّ بيوتهم تمثّل لهم "المأوى الوحيد"، ولا يمكن التعامل معهم كمتجاوزين أو خارجين عن القانون دون النظر إلى الواقع الإنساني والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه المجتمعات السكنية.


ويوضح المحامي اليمني أيضاً، أنّ "القضية لا تزال أمام القضاء وقد تم رفع دعوى أمام المحكمة الإدارية. الإجراءات القانونية مستمرة، وجميع الملفات جاهزة، إلا أنّ جلسات المحكمة تأجّلت بسبب الإجازة القضائية، ما يعني أنّ القضية لا تزال منظورةً، ولم يصدر فيها حكم نهائي بعد، وتالياً فإنّ أيّ عملية إزالة في هذا التوقيت تُعدّ انتهاكاً صارخاً للمبادئ الدستورية التي تكفل حق المواطنين في السكن واللجوء إلى القضاء، وعلى رأسها المادة (51) من الدستور اليمني التي تنصّ على أنّ لكل مواطن الحق في اللجوء إلى القضاء لحماية حقوقه وحرياته، وكذلك المادة (7/ ج) التي تمنع مصادرة الملكية الخاصة إلا بمصلحة عامة وتعويض عادل وهو ما لا يتوافر في هذه الحالة".
يشكّك بن أحمد في صدق الهدف المعلن من السلطات لإزالة مساكنهم العشوائية، مؤكداً: "اليوم ما فيه دولة… فيه رغبة تجار يريدون المكان والسلطة تسهّل لهم الطريق. نحن نطلب فقط بديلاً أو تعويضاً وسنخرج من المكان. لكن مستحيل نخرج بهذه الطريقة".
ويُذكِّر بأنّ هناك أمراً رئاسياً صادراً في عام 1990، بتمليك المساكن الشعبية في محافظة عدن، وهو قرار يشمل المساكن الشعبية في حي الإرسال، ما يُعدّ تمليكاً بحكم القانون، مضيفاً أنّ تصرّف الجهات التنفيذية لناحية إخلاء هذه المساكن يتجاوز القانون ويمسّ جوهر الحماية القانونية التي يكفلها الدستور والقوانين الوطنية، ومنها المادة (1178) من القانون المدني التي تُلزم بضرورة إخطار ذوي الشأن بالقرار وتمكينهم من الطعن فيه قبل التنفيذ، بجانب المادة (49) من قانون البناء التي تشترط توجيه إنذارات رسمية متدرجة، وإتاحة الفرصة لتصحيح الوضع، ولا تجيز تنفيذ الإزالة إلا بأمر من المحكمة المختصة.
ويشير دبوان أيضاً، إلى المادة (12) من قانون الإجراءات الجزائية، التي تؤكد أنّ حرمة المساكن مصونة، وعدم جواز هدمها إلا بناءً على إذن قضائي مسبّب، لافتاً إلى أنّ "فريق الدفاع عن أصحاب المباني سلك الطرق القانونية والإنسانية وجمع التأييد المجتمعي من أجل حماية هذه الأسر، وهو ما يبرز حجم الجهد القانوني الذي يُبذل لإيقاف إجراءات الإزالة، ويُظهر أنّ السكان لا يعارضون تطبيق القانون، بل يطالبون بتطبيقه بعدالة ومراعاة للحقوق الدستورية والاجتماعية"، محذّراً من أنّ تهديد هذه الأسر بالإزالة قبل صدور حكم قضائي نهائي يُعدّ تجاوزاً خطيراً لا يهدّد فقط حقهم في المأوى.
داخل الحرب... خارج المساكن
وفق المقابلات التي أجراها رصيف22، على الأرض، يتحسّر عدد من سكان هذه المساكن العشوائيات على التضحيات التي قدّموها خلال الحرب الأهلية دفاعاً عن عدن، ومع ذلك يواجَهون بإجراءات يعدّونها "عنصريةً"، إذ يعتقدون أنّ ظهور العمارات الفخمة بجوار مساكنهم الشعبية، أدّى إلى الضغط على السلطة المحلية من قبل المستثمرين لأجل إزالة مساكنهم المتواضعة، بحجة أنها "تشوّه المنظر العمراني"، برغم أنّ هذه العمارات الحديثة نفسها أقيمت خارج المخططات وبلا تصاريح رسمية.
إلى ذلك، يقول زايد سيف، وهو أحد سكان الحي وأب لسبعة أطفال، لرصيف22: "نحن من حمى عدن وقت الحرب في 2015، واليوم تكافئنا الدولة بالطرد. جيراني بنوا عمارات فوق مبانٍ عشوائية، بس لأنهم دفعوا للسلطة، ما حد كلّمهم. إحنا الفقراء فقط الذين نشوِّه المنظر؟".
لا يختلف رأي حسين أحمد، الذي يسكن الحي منذ 35 عاماً، وهو والد أحد شهداء الحرب الأهلية، إذ يرى أنّ ما يتعرّضون له خيانة موثّقة من الدولة نفسها. "الدولة التي دافعنا عنها في الجبهة، ترسل اليوم أطقمها لطردنا… هذه مش إزالة مبنى عشوائي هذه إزالة حياة إنسان"، يروي لرصيف22.
أما أحمد بن أحمد، وهو جندي سابق فَقَدَ ساقه في انفجار لغم، فيقول في حديثه إلى رصيف22: "اليوم ما فيه دولة… فيه رغبة تجار يريدون المكان والسلطة تسهّل لهم الطريق. نحن نطلب فقط بديلاً أو تعويضاً وسنخرج من المكان. لكن مستحيل نخرج بهذه الطريقة".
صمت رسمي
في محاولة للحصول على ردّ رسمي، تواصلنا مع وكيل وزارة الأشغال العامة والطرق في عدن، نبيل عبد الحفيظ ماجد، وسألناه عن المسح الهندسي للمنطقة وتقييم صلاحية الإزالة والمعايير التي استُند إليها لإصدار قرارات الإخلاء والهدم، كما سألناه عن وضع المباني القائمة للتجار في الموقع نفسه، وما إذا حصلوا على تصاريح بناء، لكنه أحالنا إلى التواصل مع مدير عام الأشغال في المحافظة، المهندس وليد الصراري، وكان الردّ من قبل نائب مدير عام الأشغال في محافظ عدن، فوزي مبارك: "للأسف، أنا سمعت هذه الأخبار في مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يكن لنا أي مشاركة، ولم تُطلب منّا أيّ استشارة كمكتب أشغال المحافظة لأنّ الموضوع يخصّ مكتب أشغال مديرية الشيخ عثمان والسلطة المحلية في المديرية بالدرجة الأولى".
تجميل المشهد عبر إزالة الفقراء وإخلاء مساكنهم العشوائية قسراً وإزالتها… لماذا تتعنّت السلطات ضد سكان حيّ الإرسال في عدن مخالفةً القوانين المحلية والدولية ذات الصلة؟
حاولت معدّة التقرير أيضاً التواصل مع مدير مكتب الأشغال في مديرية الشيخ عثمان، حافظ إبراهيم، لكنه لم يوافق على الإجابة عن أسئلتنا هاتفياً. كما لم نتلقَّ أيّ ردّ من مسؤول الإعلام في المديرية، خالد السبراتي، برغم تكرار محاولاتنا سؤاله عن الأساس القانوني لإزالة المنازل العشوائية، وعن خطة المديرية لإعادة توطين الأسر، وما إذا كانت ستدفع تعويضات لهم، ولماذا لم تُتخذ إجراءات مماثلة ضد مباني التجار المخالفة؟ وهل تم التنسيق مع وزارة الإسكان قبل إصدار القرار؟ جدير بالذكر أننا كنا قد تواصلنا مع الوزارة التي حوّلتنا بدورها إلى المديرية باعتبارها الجهة المعنية بعمليات الإزالة.

تجاهل القانون لـ"تجميل المشهد"
من جهتها، ترى رئيسة مؤسسة دفاع للحقوق والحريات، المحامية هدى الصراري، قرارات الإزالة خرقاً صارخاً للمعايير الدولية، إذ تقول لرصيف22: "وفقاً للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لا يجوز تنفيذ أيّ إخلاء دون توفير بدائل أو إجراء مشاورات شفّافة. ما يحدث في عدن يُعدّ إخلاءً قسرياً مخالفاً للقانون الدولي".
وتضيف: "مبادئ الأمم المتحدة بشأن الإخلاء القسري الصادرة عام 2007، تشترط وجود بدائل وإشعار قانوني وألّا يتم الإخلاء إلا كخيار أخير. لم تُحتَرَم أيّ من هذه الشروط في حيّ الإرسال".
ختاماً، يكشف تعنّت السلطات ضد أهالي حيّ الإرسال في عدن المحاباة واستخدام النفوذ ضد أشخاص في وضعية هشّة لا يعترضون على القانون، وإنما يرجون تطبيقه بعدالة مع مراعاة أوضاعهم الإنسانية البائسة، في ظلّ إصرار المؤسسات الرسمية على إزالة الفقراء من أجل تجميل المشهد، ربما مكافأةً للمتنفّذين والأثرياء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.