على مر العصور، لعب الشعر دورًا محوريًا في التعبير عن هموم الشعوب وآمالها، حيث كان بمثابة المرآة التي تعكس أوجاع المجتمعات وتطلعاتها. وفي اليمن، التي تعيش ظروفًا سياسية واقتصادية معقدة، يظهر الشعر كشكل فني وثقافي قادر على توثيق معاناة الناس ونقل طموحاتهم نحو الحرية والعدالة.
تتناول هذه المادة كيف أصبح الشعر اليمني أداة فعالة للتعبير عن الأزمات التي تواجه المجتمع، سواء من خلال القصائد الفصيحة أو الشعبية، مع استعراض أمثلة لأبرز الشعراء اليمنيين الذين أثروا المشهد الأدبي، من أمثال عبد الله البردوني ومحمد محمود الزبيري، وصولًا إلى الشعراء الشباب الذين وجدوا في الفضاء الرقمي منصة لتوصيل أصواتهم.
الشعر في اليمن ليس مجرد كلمات منظومة، بل هو شاهد على التاريخ الحي، وسجل يعكس تقاطعات الحاضر بالماضي، مما يجعله عنصرًا ثقافيًا وإنسانيًا لا غنى عنه لفهم عمق التجربة اليمنية.
الزبيري والبردوني
خرجنا من السجن شمَّ الأنوف
كما تخرج الأسدُ من غابها
نمرُّ على شفرات السيوف
ونأتي المنيَّة من بابها
هذان البيتان الشعريان وردا في ديوان "نهاية التجربة"، للشاعر اليمني محمد محمود الزبيري (1910-1965)، الملقب بـ"أبو الأحرار"، وعلى الرغم من مرور عقود عديدة على نظمهما، إلا أنهما لا يزالان يترددان على ألسنة اليمنيين، لا سيما بعد اندلاع الحرب في 26 آذار/مارس 2015.
تتناول هذه المادة كيف أصبح الشعر اليمني أداة فعالة للتعبير عن الأزمات التي تواجه المجتمع، سواء من خلال القصائد الفصيحة أو الشعبية، مع استعراض أمثلة لأبرز الشعراء اليمنيين الذين أثروا المشهد الأدبي
كما يردد اليمنيون كذلك بيتين آخرين من قصيدة المصطفى للشاعر الكفيف، عبد الله البردوني (1929-1999)، هما:
فليقصفوا، لستَ مقصفْ
وليعنفوا، أنت أعنفْ
وليحشدوا، أن تدري
إن المخيفين أخوفْ
وعادةً، ما يُضمّن كل طرف من أطراف الصراع في اليمن، بعضًا من هذه الأبيات وغيرها لشعراء يمنيين وعرب، في كلماته الحماسية التي تُلقى في المناسبات، كما يتم تداولها ونشرها على نحو واسع في وسائل التواصل الاجتماعي.
الشعر يتغير والمعاناة واحدة
يقول الشاعر بديع الزمان السلطان لرصيف22 إن عبد الله البردوني، ومحمد محمود الزبيري، يعدّان من بين أبرز الأسماء التي خلّدت معاناة اليمنيين عبر الشعر، ولا تزال أعمالهما الشعرية حاضرة بقوة حتى اليوم، على الرغم من رحيلهما منذ سنوات.
ويعزو سبب استذكار اليمنيين لأشعارهما في أوقات الحرب والسلم، لأنها قصائد تعبر عن المعاناة العميقة للشعب، فهي بالنسبة له ليست مجرد كلمات. ويشير إلى أن الشاعرين نظما إلى جانب القصائد الفصحى، شعراً شعبيًا، وهو يلقى صدى وحضورًا لافتًا لدى الناس.
ويضرب على ذلك مثالًا قصيدة "زمان بلا نوعية" للبردوني، التي يقول إنه كتبها بلهجة شعبية، تعبر عن الفساد وسوء الإدارة في المجتمع، ويختار منها البيت التالي:
يا صاحبي لا تلوم الجوع في صدري
لوم الزمان الجهول الكافر الوغري
كما أشار بديع الزمان إلى بيت شعر ورد في قصيدة شعبية للزبيري عنوانها "صوت الله":
يا شعبنا قام الظلم الكبير
واحمل كتاب الله والحق المنير
ويلفت إلى أن سبب اهتمام اليمنيين بالشعر الشعبي يعود لانسجامه مع طبيعة الناس والتاريخ، والذي لم تنتقص منه هيمنة عصر الصورة والإنترنت الذان حدا من انتشار الشعر الفصيح. يقول: "يميل القارئ اليمني في الغالب إلى التفاعل مع القصائد الشعبية التي تعبّر عن همومه اليومية وتطلعاته".
هل الجديد بجودة القديم؟
أما عن سبب تجدد استذكار الناس لأشعار كتّاب من جيل سابق دون الجيل الشعري الحالي، فيقول بديع الزمان: "الجيل الشعري الجديد متخبط، ومتأثر بظروف الحرب والسياسة التي تلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الثقافي في اليمن".
وفي سياق تأثير الشعر على المجتمع اليمني، يقول الشاعر زين العابدين الضبيبي، لرصيف22: "الشعر وسيلة تعبيرية مؤثرة ومرتبطة بثقافة الإنسان العربي، ويحمل القضايا والأحداث بعمق، وقد تبقى قصيدة واحدة عن حدث سياسي معين حاضرة في ذهن الناس، وتُستعاد كلما تكررت الظروف أو المواقف".
يعتبر الشعر اليمني وثيقة تاريخية عما مر به اليمنيون من معاناة سياسية وظلم ومصادرة حريات، سواء كان شعبياً كالذي يتردد في الأغنيات والمناسبات الوطنية، أو فصيحاً.
ويعتقد الضبيبي، أن قصائد عبد الله البردوني، على سبيل المثال، هي نماذج حية لهذا التأثير، إذ يتجدد تداولها مع بروز أحداث سياسية جديدة، لتعيد التذكير بالمواقف المشابهة وتعكس أهمية الشعر في حفظ التاريخ وتجسيد القضايا.
ويضيف: "كلما اقترب الشاعر من الناس وتحدث بلسانهم، اقتربوا منه وحرصوا على قراءة أعماله، وهو بذلك يصنع أسباب خلوده".
يعتبر المؤرخون أن الشِعر المحدد في مرحلة زمنية ما، هو وثيقة لفهم التغييرات السياسية والنزاعات المسلحة وتوثيق معاناة الناس وطموحاتهم في تحقيق الحرية والعدالة، ومن هذا المنطلق فالشعر اليمني أكثر من مجرد جنس أو فنٍ أدبي، بل أداة فاعلة لنقل التجارب الإنسانية.
من الأصوات الشعرية اليمنية في وقتنا الحاضر، الشاعر عيسى العزب، الذي يعيش في القاهرة، ويصف نقاد شعره بأنه "يحمل في طياته رسالة قوية حول الهوية اليمنية والتاريخ الوطني".
ويتجلى ذلك في ديوانه "الحب ذو العصف" الصادر عن الدار اليمنية للكتب والتراث، إذ يطرح فيه تساؤلاتهِ بشأن مصير "اليمن السعيد"، مستعرضًا أحداثًا تاريخية تتداخل مع الواقع المعاش، ويكشف عن معاناة الشعب وأحلامه. ومن شعره:
سألَتْ: مَنِ اليمن السعيدُ؟!
أجبْتُها: هــي نــاقـــةُ الله التــــي عـــقـــروها
هي أرضُ مَـن جابَ الصخورَ
رجالُها هي صخر من بالــواد قــد جـابــوها.
يقول العزب لرصيف22، بأنه يقع في حالة يأس وإحباط وهو يصف وضع بلاده، وهذا ذاته ما نستشفه من قصيدة (حائط الليل) من ديوان "أوان الزيزفون" للشاعر محمد الإبارة، 2023، يقول:
إلى ثُقب هذا الليل تهوي هواجسُهْ
وقد داهمتْ من كل جُحرٍ حنادسُهْ
على جرُفٍ هارٍ من اليأس يغتلي
إذا رامَ محوًا للدجى حامَ دامِسُهْ
يقول الشاعر عن قصيدته هذه لرصيف22: "فيها صورة حزينة عن الليل الدامس، ومتاهات الظلام والوحدة وضياع الأمل في عالم تملؤه المعاناة والأوجاع، القصيدة تمثل رحلة الليل الحزين ككابوسٍ لا ينتهي، يتسارع فيه الظلام ولا يجد بريقًا للنجاة".
الكثير من الشعراء اليمنيين، لا سيما الشباب منهم، وجدوا في الفضاء الافتراضي مساحة واسعة لنشر نتاجهم الشعري، وتوثيق معاناة أبناء جلدتهم، مما ساعد في إيصال الشعر اليمني إلى خارج حدود البلاد، وكسر الحواجز التي كانت تحد من وصوله إلى مختلف أنحاء العالم العربي.
ومن أبرز هؤلاء الشعراء، يحيى الحمادي، الذي نظم قصيدة (قيامة الجياع)، يقول لرصيف22 إنها "تسلط الضوء على معاناة الشعب اليمني من تفشي الفقر والجوع في ظل ظروف سياسية صعبة"، وأنها تمثل رسالة نقد يصفها باللاذعة لأولئك الذين يظلون يلتهمون ثروات البلاد بينما الشعب يعاني، بحسب تعبيره. ومن أبياتها:
كُلَّ مَن بِثَروَةِ الجِياعِ يَلعبونْ
وكُلَّ مَن يُجَوِّعونَهُم
ويَحلبونْ
الناسُ مُتعَبُونْ
يقول: "هذه الأبيات تعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه المواطن اليمني، إذ تعيش الأغلبية في فقر مدقع"، ويرى بأن قصيدته لا تحمل في طياتها نقدًا للوضع الداخلي فحسب، بل هي أيضًا دعوة للوعي الشعبي وضرورة النهوض لمحاسبة أولئك الذين يسيئون استغلال السلطة".
الشعر اليمني كوثيقة تاريخية
الأديب والأكاديمي د. إبراهيم طلحة يعبر لرصيف22 عن رأيه بالتأثير الذي يحدثه الشعر السياسي على الجمهور، ويقول إنه "يلعب دورًا مهمًا في التعبير عن مشاعر الجماهير التي تعيش تحت وطأة الكبت والخوف".
ويعتقد بأنه وعلى الرغم من كونه أداةً فنية، إلا أنه يتجاوز حدود الفن ليصبح منفذًا للتنفيس عن مشاعر الغضب والإحباط التي يعاني منها المواطن في ظل الظروف السياسية المعقدة.
ويجد د. طلحة أن الجمهور، كما يعجب بشعر الغزل والحب لأنه يعيش كبتًا عاطفيًا، يعجب كذلك بالشعر السياسي لأنه يعبر عنه، فهو مقموع سياسيًا واجتماعيًا، ويبحث دائمًا عن طرق للتعبير عن نفسه، سواء كانت تلك الطرق متعلقة بالعواطف الشخصية أو القضايا السياسية.
وعن أبرز الشعراء العرب الذين يتداول اليمنيون شعرهم، يقول: "هما أحمد مطر ونزار قباني، الأول عبّر عن الكبت السياسي، ووجه غضبه واحتجاجه تجاه الأنظمة القمعية عبر قصائده، أما الثاني فقد عبّر عن الكبت العاطفي وارتبط اسمه بالشعر الرومانسي، إذ جسد معاناة العواطف المقمعة في العالم العربي".
ويضيف: "على الرغم من تأثير الشعر السياسي في إضاءة معاناة الشعوب العربية عمومًا، واليمني خصوصًا، لكن مستوى التعبير عن هذه المعاناة في الكثير من القصائد لا يرقى إلى التوقعات، فقد حاول كُتّابها تناول القضايا السياسية والاجتماعية في قصائدهم، لكنهم لم يتمكنوا من التعبير عنها بالشكل الذي يليق بحجم المعاناة".
ومع ذلك، يظل الشعر بالنسبة للشاعرة اليمنية سمر عبد القوي، مرآة للمجتمع وسجلًا لتأريخ الشعوب، تقول لرصيف22: "الشاعر يمتلك رؤية فريدة للعالم يحولها إلى كيان شعري، يعكس رؤية مستقلة ومتميزة في كل قصيدة. ذلك ينطبق على الشعر اليمني بالطبع، الذي يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالواقع؛ فالأحداث التي تمر بها البلاد تجعل الشعر أكثر تأثرًا بهذه التحديات، ليأخذ منها تجاربه المتنوعة ويحولها إلى قصائد شعرية تشكل جزءًا من الوعي المجتمعي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 5 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري