يوماً بعد يوم تزداد أعداد المهاجرين اليمنيين إلى أوروبا، وحتى في ظل تصنيف أغلب الدول الأوروبية اليمن كبلد آمن، لم يمنع ذلك اليمنيين من محاولات الوصول وتقديم ملفات اللجوء عبر الطرق الرسمية، أو حتى عبر طرق التهريب الخطرة من شرق أوروبا إلى غربها.
أينما ذهب اليمنيون يرتبطون بعادتهم الاجتماعية، ولعل أهم تلك العادات هي مضغ "القات"، إذ تبرز كجزء من هوية مجتمعية متمسكة بتقاليدها، ولكنها تواجه تحديات وتساؤلات وصولاً إلى "اللا قانونية" في البيئات الجديدة.
فما هي الأسباب التي تدفع اليمنيين إلى الاستمرار في هذه العادة في أوروبا التي تجرم القات وتعتبره مخدراً؟ وما هي التداعيات الاجتماعية والثقافية؟
عادة يومية... في الغربة
يقيم عبد الرحمن (31 عاماً) في السويد ويعمل كسائق شاحنة، حيث يستخدم القات بشكل دائم، يقول لرصيف22 إنه ومجموعة من أصدقائه يتعاطون القات في محاولة منهم لتذكر الأيام الجميلة في اليمن، كذلك يساعدهم على الاسترخاء والهدوء بعد يوم شاق من العمل، ويقول إن طبيعة الدوام في السويد تختلف كثيراً عن الطبيعة الدوام في اليمن من ناحية الالتزام وعدد الساعات، وما يهوّن التعب أنه سيصل إلى البيت ليتناول القات و"يخزّن" ويرتاح من عناء اليوم الطويل.
وليكون تأثير القات أكبر، قام عبد الرحمن بتهيئة منزله على هيئة ديوان صغير، كالديوان أو المجلس الذي يجلس فيه اليمنيون لتعاطي القات في اليمن.
يعلم عبد الرحمن جيداً أن القات ممنوع في أغلب دول أوروبا، لكنه يقول :"ما دمت أستطيع الوصول إليه فلن أستطيع مقاومته أبداً، وهذا حال أغلب اليمنيين في أوروبا"، لكن وقبل أن نتعمق أكثر في حديثنا مع اليمنيين في أوروبا حول تعاطيهم القات وما يمثله لهم، لا بد أن نفهم بعض المصطلحات المرتبطة به:
- القات: نبات يزرع في اليمن ودول أفريقية قريبة من اليمن، وتصنفه منظمة الصحة العالمية على أنه منبه.- التخزين: هو مضغ القات بشكل مستمر ليظهر على شكل كرة في أحد جانبي الفم.- قرحة القات أو القات قرح: هي اللحظة التي يصل فيها متعاطي القات إلى النشوة.- المولعي: وهو الخبير في تعاطي القات المعتاد على تخزينه بشكل يومي لحد الإدمان.- الموقت: تاجر القات.
عادة تناول القات بين اليمنيين في أوروبا تمثل امتدادًا لتقاليد عميقة الجذور في الثقافة اليمنية. ورغم الابتعاد عن الوطن والعيش في بيئات جديدة تختلف في القوانين والعادات، يواصل العديد من اليمنيين ممارسة هذه العادة.
يقول أمجد (29 عاماً) هو لاجئ يمني في هولندا منذ العام 2017، إن "القات هنا هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا كيمنيين نجتمع ونشعر بالحياة في أوروبا، غالبية الأصدقاء إذا أرادوا الالتقاء سيكون لقاءً عابراً بدون القات، لأن روتين الحياة الأوروبية ممل ومرهق نفسياً وجسدياً، لكن القات يساهم في تغيير هذا الروتين ويجعلنا نستقر ونكيّف العقل، ويساهم في خلق وقت جميل بحضور الأحاديث والذكريات التي عشناها في مراكز اللجوء، فنتحدث عن همومنا، ونحاول حل مشاكلنا، وفي نهاية الوقت ندرس أو نحاول تبادل معلومات مما استفدناه في اللغة أو في رخصة القيادة".
ويكمل لرصيف22:" بحضور القات معنا في سهراتنا نشعر بالألفة والحياة التي تعوّدنا عليها في اليمن، وفي حال التواعد باللقاء تجد أحدهم يتساءل (والقات كيف نسوي فيه)؟".
يقول عبد الرحمن وهو يمني مقيم في السويد ويعمل كسائق شاحنة، إن طبيعة الدوام في السويد تختلف كثيراً عنها في اليمن من ناحية الالتزام وعدد ساعات العمل، وما يهوّن تلك الساعات طويلة أنه سيصل إلى البيت ليتناول القات و"يخزّن" ويرتاح من عناء اليوم الطويل
ويؤكد أن القات متوفر بشكل كبير إذ يستطيع الشخص غير المولعي أن يخزن بعشرين غراماً من القات المجفف بما يعادل عشرة يورو، وكل شخص يأخذ الكمية التي يحتاجها لهذا اليوم، وهناك العديد من اليمنيين يخزنون بشكل يومي، فيشترون كمية كبيرة مثل نصف كيلو ويخزنون طيلة الشهر، إذ يصعب الابتعاد عن هذه العادة، لكن الغالبية يكتفون بالتخزين عند اللقاءات "نستطيع القول إن مضغ القات معدله مرة إلى ثلاث مرات بالشهر".
كيف يحصل اليمنيون على "قاتهم" في أوروبا؟
تعود اليمنيون على تعاطي القات الأخضر، المعروف بـ"الأب الطازج"، كجزء أساسي من حياتهم اليومية في اليمن. إذ يتم جلبه مباشرة من المزارع إلى الفم. لكن، مع تفكير العديد من اليمنيين في الهجرة إلى الخارج، يبرز تساؤل مهم في أذهانهم: "هل سنتمكن من الحصول على القات في المهجر؟" ويتزايد هذا القلق خاصة عند التفكير في البلدان البعيدة مثل أوروبا.
في حين أن القات يُصدر بسهولة عبر الحدود البرية إلى السعودية، حيث يتوفر بشكل طازج وسريع، فإن هذه الرفاهية لا تتوفر في أوروبا. فهناك، يضطر اليمنيون إلى الاعتماد على القات المجفف، والذي غالبًا ما يُخلط بمواد أخرى، مثل الشاي، مما يؤثر على تجربة تعاطيه.
عبدالله، هو اسم مستعار لمهرب قات صومالي الجنسية، وافق على الحديث مع رصيف22 بشرط عدم ذكر إسمه. يقول: "تعتبر تجارة القات واحدة من أكثر الأنشطة تعقيدًا وانتشارًا، لا سيما في أوروبا التي تمنع تعاطيه وبيعه بشدة، إذ تتضمن عملية التهريب سلسلة من العمليات اللوجستية المعقدة التي تبدأ من إنتاجه في أفريقيا وتنتهي بانتشاره في الأسواق الأوروبية".
ويشرح عبد الله أن القات في أوروبا لا يمكن أن يصل أخضر إلا في حالات نادرة، إذ لا بد من تجفيفه. وهو متوفر بنوعين رئيسيين: القات العادي المطحون، الذي يُباع بسعر يصل إلى 300 يورو للكيلو. والنوع الأغلى المعروف بـالـ"بسمتي" الذي يصل سعره إلى 500 يورو للكيلو. ويُعتبر النوع الأخير مفضلًا لدى زبائن الطبقات الأعلى، حيث يرتبط تقديمه في الأوساط الاجتماعية الرفيعة، كالسياسيين وموظفي السفارات أو من لديهم دخل مرتفع بحسبه.
يستغرب الكاتب اليمني حسين الوادعي من الربط بين الغربة وتعاطي القات، مشيرًا إلى أن اليمنيين في بلادهم يتعاطون القات بشكل يومي، مما يجعل شعور الغربة أمراً غير منطقي.
ويشرح: "رحلة القات تبدأ من أفريقيا، حيث يتم تصديره عبر قنوات تجارية معقدة إلى الصين، وفي الصين، تجري إعادة تعبئته وتحويله إلى منتجات وهمية، مثل أنواع الشاي المختلفة، حيث يتم ادعاء وجود قيمة غذائية عالية دون أن يكون له علاقة حقيقية بالمنتج الأصلي، وتقوم المصانع الصينية بتغليف هذه المنتجات بطريقة جذابة، مما يسهل تسويقها".
ويتابع: "بعد مرحلة التصنيع في الصين، يُشحن القات إلى أوروبا عبر موانئ هولندا تحديداً، التي تُعد من أكبر المراكز اللوجستية في العالم. وتساهم هذه الميزة في تسهيل دخوله إلى الأسواق الأوروبية".
ويؤكد عبدالله أن 10% من تلك الشحنات أو أكثر قليلاً يتم الكشف عنها من قبل السلطات الأوروبية، فيما تصل بقية الشحنات إلى هدفها، مشيراً إلى أن أغلب زبائنه من اليمنيين.
عمار (27 عاماً) هو لاجئ وصل إلى بلجيكا في العام 2021، يقول لرصيف22 إن أسعار القات تختلف من بائع الى آخر، وبحسب نوعيته، ورغم أن معظمه مجفف، لكن توجد أنواع مختلفة منه، كالبسمتي والقلوب والورق، وكل نوع يزيد سعره حسب جودته.
أما بندر (33 عاماً) والذي يعمل بائعاً في سوبرماركت في السويد، فيقول لرصيف22 إن أغلب من يبيعون القات هم من الجنسية الصومالية، وهم في الوقت نفسه متعاطون له، ويضيف بأنه يتعامل فقط مع "مقوّت" خاص يتصل به كلما رغب في التخزين. ويلفت إلى أنه يحصل أحياناً على قات أخضر، لكن بكمية قليلة وبسعر مرتفع، ما يجعله أغلى من قدرة الأغلبية، لا سيما لمن لا يزال يعتمد على مساعدة اللجوء. يقول: "هناك عدد من اليمنيين يبيعون القات لكنني لا أفضل التعامل معهم لكثرة حديثهم عن زبائنهم".
قات أخضر... مطحون... مخلوط
يقول صادق (25 عاماً) الذي يقيم في السويد، بأنه يشترى القات من شخص صومالي بحوالي 300 كرون، أي ما يعادل 30 دولاراً لوزن يتراوح ما بين 20 إلى 30 غراماً. ويضيف: "القات المطحون له تأثير أكبر من القات الأخضر".
بينما يقول عمار (27 عاماً) اللاجئ في بلجيكا لرصيف22: "المخزنين اليمنيين يحاولون صنع أجواء مشابهة لأجواء جلسات المقيل في اليمن، ولكن غالبًا ما يفشلون، فهنا لا توجد مجالس عربية مثل عندنا في صنعاء، ولا توجد المتاكي التي نتكئ عليها طوال الجلسة، كما أن طبيعة الحياة في أوروبا تختلف، فكل واحد لديه التزامات ومواعيد وأعمال، والجلسة غالبًا يشوبها القلق والتفكير بالأجندة اليومية لنا كلاجئين، هذا عنده مدرسة وهذا عنده موعد مع البلدية والآخر يكلمك عن الفواتير وهكذا".
ويضيف: "طقوس التخزين أو جلسة المقيل هي ذاتها ، نستمع إلى أغاني الطرب الصنعاني واللحجي والعدني ودقات العود لكي نعيش أجواء اليمن التي اعتدنا عليها، رغم الفارق الكبير ، ولكن بدلاً من أغصان القات التي تتناولها بيدك هناك، هنا يجب أن تواكب الحداثة حتى في تناول القات، لذا عليك استخدام الملعقة إذ تقوم بترطيب القات المجفف في كأس ومن ثم تتناوله بالملعقة وهذا شيء مختلف، أيضاً معظم عبوات القات تتعرض للإهمال أثناء التجفيف تحت الشمس، وللغبار في بيئة مكشوفة في بلد المنشأ الذي يتم التعبئة فيه، وهو ما يجعلنا لا نشتري القات إلا من بائعين معينين معهم قات نظيف".
ليس "للرجال فقط"
سمر (24 عاماً) هي لاجئة يمنية في بلجيكا، تقول إنها وزميلاتها في اللجوء يخزّنّ القات الذي يصل إليهن أحياناً، إما اليابس أو الطازج الذي يحصلن عليه عبر بعض اليمنيين النافذين. ومع ذلك، تؤكد في حديثها لرصيف22 بأن تجربة التخزين لم تعجبها كثيرًا، فقد خزنت القات مرة أو مرتين فقط، بينما لا تزال صديقاتها مستمرات فيه.
وتروي أنهن يجتمعن في إجازة نهاية الأسبوع فقط. أولاً، لأن القات يأتي بطرق التهريب، مما يصعب وصوله بشكل مستمر. ثانياً، يتطلب نمط الحياة الأوروبية من اللاجئين الالتزام بمسؤوليات أخرى يومياً. وأخيراً، سعر القات يعد مرتفعاً جداً، مما يجعله غير متاح للعديد من اللاجئين، الذين يعتمد معظمهم على الإعانات.
مهرّب: "رحلة القات تبدأ من أفريقيا، حيث يتم تصديره عبر قنوات تجارية معقدة إلى الصين، لتجري إعادة تعبئته وتحويله إلى منتجات وهمية، مثل أنواع الشاي المختلفة، ويتم ادعاء وجود قيمة غذائية عالية دون أن يكون له علاقة حقيقية بالمنتج الأصلي"
ومع هذا، تحاول بعض اليمنيات خلق أجواء مشابهة لتلك التي في اليمن، حيث يجتمعن في "الديوان" أو المجلس، ويستمتعن بالمشروبات التقليدية المصاحبة للقات.
الكاتب اليمني حسين الوادعي يعبر عن استغرابه من الربط بين الغربة وتعاطي القات، مشيرًا إلى أن اليمنيين في بلادهم يتعاطون القات بشكل يومي، مما يجعل شعور الغربة أمراً غير منطقي. كما يوضح أن المغتربين اليمنيين في الدول العربية، مثل السعودية ومصر والأردن، يتعرضون لعقوبات صارمة عند تعاطي القات، إلا أنهم لا يشعرون بالغربة كما يشعرون بها في أوروبا.
ويؤكد الوادعي على ضرورة فهم الظاهرة من منظور مختلف، فتعاطي القات ينجم عن عوامل متعددة تشمل الإدمان، وكونه جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. ويرى أن التعاطي لا يعكس شعورًا بالغربة، بل على العكس فقد يزيد من شعور العزلة بين اليمنيين في المجتمعات الجديدة كما هو الحال مع الجاليات اليمنية العريقة في بريطانيا وأمريكا.
ويشير إلى أن بريطانيا أدركت خطورة القات وأثره السلبي على المهاجرين، مما أدى إلى تشديد القوانين ضده. ويصف العلاقة بين اليمنيين والقات بأنها علاقة إدمان تتجاوز الحدود الجغرافية، مما يخلق تحديات عميقة، خاصة في نقل هذه العادة إلى الأجيال الجديدة.
ويختتم الوادعي بالتأكيد على أن اليمنيين يسعون من خلال تعاطي القات إلى الهروب من واقعهم، محاولين عزل أنفسهم عن التحديات اليومية، مما يعكس نقصاً في تقدير الذات وعدم التكيف مع المجتمعات الجديدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 24 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...