يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
البارحة، في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً، وأنا أسير بِمُحاذاة شاطئ أشَقار في مدينة طنجة، وفي السماء الصافية لمحات من الغسق المتدرج، قادتني قدماي الحافيتان إلى صخرة ملساء تحيط بها رغوة تَنْدَسّ فيها أسطوانة معدنية بطول أربع بوصات، لا تجرؤ على الظهور.
وأنا أنتشلها من بين الطحالب، أصدرت طَقْطَقَةً إلكترونيةً انبثقت منها خريطة المغرب كاملةً، ومدنه تسبح في الهواء، مثل هولوغرام ثلاثي الأبعاد. اكتشفت أنها رسالة إيكولوجية من المستقبل، تسرد حياة المدن الساحلية.
لم أستطع تحديد سنة الرسالة التي اختفت أرقامها فجأةً، لتظهر مدن المغرب الساحلية، عائمةً! كل المعَالِم والمآثِر والمقاهي والمساجد والحانات والموانئ ومعها وسائل النقل والطرق، صارت جزءاً من البحر، تسبح فوقه أو تغوص في أعماقه.
شمال المغرب الجديد
سَبْتَة ومليلية، اللتان لم تعد إسبانيا تحتلهما بعد أن غمرت مياه البحر السياج الحدودي في جيب مليلية، وكان مصير جميع الأبراج الحرارية وكاميرات المراقبة غرق قواعدها في الطين، تحطّ عليهما النوارس بدل الجنود.
أُجْبِرت يابسة المدينتين، أمام موجات عاتية، على تسليم أطرافها لارتفاع نسبة مياه بحر لا يعترف بالحدود، وتوشك أن تصبح مع الناظور مدينةً واحدة.
تُوجد طريقتان للسفر والتنقل، إما فوق البحر أو تحته، وبين كل مدينة ومدينة عائمة، محطات هي عِبَارة عن طبقات من الزجاج المقوّى، متصلة بباقي المدن، وإحداها؛ طنجة، التي تُقلّ إليها غواصات أشبه بقطارات مائية
لاتزال كاتدرائية سبتة، والأسوار الملكية وخندق فيليبي، ومعهما كنيسة سانتا ماريا دي أفريكا والحمامات المغربية، إلى جانب الحديقة البحرية، تتمسك بهويات مزدوجة؛ مغربية إسبانية، لكن تحت الماء!
وبعد أن صارتا رمزاً لما بعد السيادة، احتفظتا بجذورهما المغربية وبلغات متعددة.
تراجع إسبانيا عن الجزيرتين اللتين احتفظت بهما، جزيرة النكور وجزيرة ليلي، سمح للمغرب أن يُنشئ فيهما مرسى للأبحاث البحرية، ومختبرات مشتركةً بين طلاب شمال المغرب وتونس وبرشلونة.
وبما أنّ الجريان السطحي جرف بعض الجزر جزئياً في المحيط، إلا أنّ المغرب ثبّتها بأساسات ذكية وأصبحت فضاءات بيئيةً معرفيةً وغنيةً ومفتوحةً، يتم فيها استشعار مبكر للكوارث الطبيعية.
المدينة العائمة… طنجة
تُوجد طريقتان للسفر والتنقل، إما فوق البحر أو تحته، وبين كل مدينة ومدينة عائمة، محطات هي عِبَارة عن طبقات من الزجاج المقوّى، متصلة بباقي المدن، وإحداها؛ طنجة، التي تُقلّ إليها غواصات أشبه بقطارات مائية.
عبر أنفاق شفافة، يتنقل المسافرون مع الأسماك على إيقاع أضواء إشارات المرور، إلى محطات مائية مختلفة في طنجة، إحداها شُيّدت عبر نزل زجاجي يُطِلّ على سرداب شارع بْلاَيَا، المصنوع من زجاج مرن مقاوم للضغط؛ هذا الشارع الكبير الذي لم تعد فيه المقاهي والحانات والنوادي الليلية تفتح أبوابها إلا تحت البحر، حيث يتماهى السكارى مع كؤوسهم المتلألئة ويتمايلون ويرقصون مع الأضواء والكائنات البحرية.
الرباط ابتعدت قليلاً، وسحبها البحر إليه داخل قُبّة زجاجية، باستثناء قصبة الوداية، التي تحولت إلى حيّ متحفيّ مفتوح لزيارة الغواصين يشبه معبداً غارقاً.
كل الأماكن التي كانت تطلّ على البحر، صارت أرشيفاً يطلّ على مرآةٍ من الزجاج، تعكس ما كان. مقهى الحَافَة، الذي كان جزءاً من ذاكرة ثقافية، تطلّ على الضفة الأوروبية، أصبح اليوم نصباً محفوراً في قاع البحر. وعلى عمق 20 متراً تحت سطح الأطلسي، تتراصّ الطاولات في المقهى في ثلاث زوايا:
زاوية تطلّ على سرب من قناديل البحر.
طاولات تُواجِه أطيافَ بول بولز، ومحمد شُكْرِي… وغيرهما؟
واجهة لا تطِل على شيء سوى نفسك.
على امتداد الساحل المتآكِل، غَرْبي طَنْجَة، أمْسَتْ زيارة مغارة هِرَقْلْ ممكنةً فقط عبر أنابيب زجاجية تحت الماء، أما رأس سْبَارْطِيل، فتحوّل إلى كتلة صخرية منفصلة بالكامل عن الساحل، بينما تحاصر الأمواج صخرة المنارة من الجهات الأربع.
مدن برمائية
وبين خطّ الأطلسي المترامي، في اتجاه الجنوب، وُلدت مدن جديدة، منها مدن فائقة الذكاء، فيها أنظمة متطورة للحماية من الكوارث، تستجيب لتحوّلات البحر، ويسكنها الأثرياء، ومدن أخرى تشكلت كجزر حضرية، احتمالية حدوث الفيضانات فيها تظلّ دوماً ممكنةً، منها بعض القرى والبوادي التي كانت في قلب اليابسة، وخلعت جذورها من التراب، واضطر أهلها إلى الهجرة صوب الماء، لينشئوا فيها مستوطنات عائمة.
مدينة سلا، التي اختفى الخط الفاصل بينها وبين العاصمة الرباط، بعد أن تَدَلّت المياه على نهر أبي رقراق، تحولت إلى جزر صغيرة موصولة ببعضها، عبر جسور معلّقة، تشبه مدينة البندقية، وصارت تتداخل فيها ممرات وأحياء سكنية معظمها من الزجاج، تنتصب على طول ساحلها منصات سكنية عملاقة عائمة.
الرباط ابتعدت قليلاً، وسحبها البحر إليه داخل قُبّة زجاجية، باستثناء قصبة الوداية، التي تحولت إلى حيّ متحفيّ مفتوح لزيارة الغواصين يشبه معبداً غارقاً. كل معلَم شاهق في العاصمة، مقسوم إلى شطرين؛ شطر يطفو فوق الماء، وآخر يرقد تحته، كما هو الحال مع صومعة حسان ومعها برج محمد السادس.
عبر الأحياء وفي الشوارع المائية التي لم تعد طرقاً وأرصفةً إسْمَنْتِيةً، يتحرك المواطنون بمركبات مائية ذات تصميم انسيابي ذكي، تعمل بالطاقة النظيفة، وتتحرك في ممرات ذات هوية مائية، عبر أنظمة مِلاحة آلية متقدمة تستجيب لأوامر الركاب.
أطلنتس المغرب
لم تكن الدار البيضاء لتنتهي قطعاً هندسيةً معلقةً وصامدةً فوق المحيط، لولا ارتفاع درجة حرارة المحيطات وذوبان الجليد الأرضي. المدينة التي كانت اليابسة تقبض عليها، تتوزع الآن على 5 جزر تنتمي كلّها إلى الدار البيضاء، تربط في ما بينها جسور ذكية.
ميناء العاصمة الاقتصادية، الذي تلفّه منصات ضخمة، يكيّف ارتفاعه معها عند كل مدّ وجزر، داخلها أحواض شفافة زجاجية، تسمح للعمال برؤية هياكل السفن الغاطسة في أثناء الإصلاح أو النقل.
داخل الأَطْلنطي، ظلّ مسجد الحسن الثاني مثل مرساة روحية تربط المدينة بما فوقها وما تحتها معاً؛ نصف أساساته غاصت في أعماق المحيط، مدعمةً بدعامات زجاجية وفولاذية تحميه من تآكل الموج.
يبدو المسجد من بعيد، فوق السماء، والمصلّون يتقاطرون للصلاة فيه، عبر ممرات زجاجية، مثل معبد يعود لأطْلَنْتس. وعلى أعتاب الرخام، يخلعون أحذيتهم في أرضيات شفافة تسمح برؤية حركة المياه أسفلهم، بينما يقفون صفوفاً، فوقهم أمواج وتيارات مائية.
هكذا بقي مسجد الحسن الثاني، وبقيت معه الدار البيضاء. حتى وهي تسبح لم تفقد يقينها.
المدينة العتيقة والغارقة بأسواقها وشوارعها، أعيد تشكيلها تحت عمق 40 متراً، بما يتكيف مع تغيّره. تم تحصينها بزجاج صلب، وحُوّلت إلى أكبر المتاحف الفنية والأثرية. قضاء يوم واحد داخلها، تصل تكلفته إلى 5 آلاف درهم مغربي
وغير بعيد عن مارينا، التي تتمدد عمقاً في حزام زجاجي، تحولت ساحة الأمم إلى منصة ضخمة، تتماهى مع المياه التي طالت أرصفتها، إلى جانب جميع أبراج المدينة التي غُرِسَ بعضها تحت الماء بينما لم تصمد الأخرى وانهارت، وتجنّباً لسقوط الباقي، أعيد بناؤها داخل هياكل زجاجية، نصفها يقطع الضباب والآخر البحر.
وكما في جميع المدن العائمة، الغرق هو الهاجس اليومي للناس، والوجه الآخر لحياة معلقة على سطح مائي، هو حديث عادي مثل أخبار حالات الطقس، قد يحدث أن تبتلع فجوة صغيرة أحدهم، وأحياناً يحتسي الشخص قهوته فوق مقهى عائم، وفجأةً تلوح جثة طافية؛ غارق لم يتمكن من النجاة، أو عابر سقط من جسر لم يحتمل تمايل البحر.
يمضي الساحل غرباً وجنوباً، ليصل إلى صخرة وادعة على المحيط اسمها الصَويرَة. هي مدينة علمت البحر أن يمرّ خلالها لا عليها.
مدينة غارقة في متحف
في الخريطة المستقبلية، بدت الصويرة جزيرةً معلقةً بين ماضٍ يغوص ومستقبل يطفو. شقّت المياه مساحتها إلى نصفين؛ نصف عائم فوق الأرض، مفتوح للرياح والشمس وقلوب العشاق القادمين إليها من أصقاع العالم، ونصف أثري يقاوم المد في الأعماق.
المدينة العتيقة والغارقة بأسواقها وشوارعها، أعيد تشكيلها تحت عمق 40 متراً، بما يتكيف مع تغيّره. تم تحصينها بزجاج صلب، وحُوّلت إلى أكبر المتاحف الفنية والأثرية. قضاء يوم واحد داخلها، تصل تكلفته إلى 5 آلاف درهم مغربي.
ومن دون سكان، تحاول المدينة أن تتنفس مجدداً تحت البحر. تعيش بمهرجاناتها الموسيقية، ومعارضها الفنية المفتوحة على عشب البحر وأسماكه، وتغوص إليها جنسيات مختلفة وشخصيات في الفن والرسم والموسيقى والبيئة.
لا تحتمل مدن الساحل العائمة، وعداً واحداً للجميع. فوق المنصات الزجاجية والفنادق العائمة، يعيش من يملكون التذاكر الذهبية للنجاة، تحميهم القباب الذكية والقوانين المائية.
لا شيء يوحي بأنها فقدت ذاكرتها القديمة؛ الأسوار التاريخية والأزقة الحجرية وسقالة المرسى لا تزال في مكانها، مغمورةً تحت القباب الزجاجية الشفافة التي تحميها من الموج، وتحولها إلى أبواب جديدة غارقة يتجول فيها السياح.
الماء يرسم الصحراء
خَيَارٌ وحيد كان أمام سواحل جهات كلميم والعيون والداخلة؛ الانضمام إلى البحر، الذي محا تَمَدُّد مياهه شواطئها وبلع أحياءها القريبة من البحر، إلا أنّ الصحراء شَكّلت بَوّابةً بحريةً كبيرةً، لكنها تختلف عن المدن الأخرى؛ لا قصور ولا أسوار قديمة، كلها أرخبيل يمتد كأصابع في عمق الموج.
كل مدينة ساحلية غارقة، فَوقَها مدنٌ جديدة وخفيفة ترفعها ركائز خشبية، وفوق حطام كل حي قديم، شبكة من الأحياء العائمة المنخفضة، مثبتة على قواعد متحركة، ترتفع تلقائياً حين يرتفع البحر، مع فنادق ومطاعم زجاجية صغيرة. لا ازدحام فيها ولا أسواق صاخبة. حياة مرنة سُلّمت للمياه.
شواطئ جديدة ظهرت وسط الصحراء، التي شقّتها أنهار تمتد من المحيط الأطلسي وتذهب حتى التخوم الحدودية للمغرب، تزرع بين ضواحيها مساحات شاسعةً خضراء، وتُزَوِّد أراضي قاحلةً بالماء. فلا حدود واضحة للماء، ولا حاجز يقام للرمل حين يأتي بالمحيط… كل ما فيها، وعدٌ مؤجل يطفو مع كل موجة.
وعد المدن العائمة
لا تحتمل مدن الساحل العائمة، وعداً واحداً للجميع. فوق المنصات الزجاجية والفنادق العائمة، يعيش من يملكون التذاكر الذهبية للنجاة، تحميهم القباب الذكية والقوانين المائية.
أما في الأسفل، بين الأزقة الغارقة وعلى أطراف الموانئ، فيَتَكَدّس من لم يسعفهم ارتفاع سطح البحر، يبيعون الأعشاب البحرية والأسماك لبعضهم بعضاً.
وبين من في الأعلى ومن في الأسفل، خيال يتصادم فيه سؤالان مثل موجتين: من يملك الموج حقّاً؟ ومن سَيُمحى أولاً حينَ يَعْلو البحر؟
الخريطة المستقبلية تتلاشى أمامي مثل ورقة تحترق. طارت المدن فوق يدي القابضة على الكبسولة، بينما يدي اليسرى لا تمسك غير الفراغ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.