كتبت الجملة الأولى في هذه الرسالة خمس مرات على الأقل، ومن ثمّ حذفتها. ماذا يمكن أن يقول المرء في أوقات كهذه؟ كيف يمكن أن أبدأ كلاماً أوجهه إليك وأنت تعيش مأساة حرق بيتك وفقدان مكانك وكتبك ومكتبتك، حيث صنعت لنا عوالم سحريةً كتبتها في رواياتك؟
في هذه الأيام الصعبة، والهمج يحاصرون السويداء بعد أن قتلوا من قتلوا، وحرقوا ما حرقوا، في هذه الأيام التي تأتينا فيها صور مريعة من غزة حيث حرب الإبادة والتجويع؛ صورٌ لا تشبه شيئاً عرفناه من قبل، في هذه الأيام التي تعيش فيها بلادنا حرائق لم نعهدها من قبل، في هذه الأيام حيث صار (وربما كان) إذلال البشر هويتنا البصرية الوحيدة… في هذه الأيام أتى خبر حريق بيتك كصاعقة.
كل الجهلة في التاريخ أحرقوا الكتب
لا أفهم لماذا أثّر حريق بيتك ومكتبتك فيّ؟ أنا لا أعرفك إلا من خلال ما تكتب. لم نلتقِ أبداً، لم نحكِ أبداً، لا تواصل بيننا، لم أزر قريتك على الإطلاق، ولا أعرف السويداء إلا من خلال زيارتين قصيرتين قبل نحو خمس عشرة سنةً، ومن خلال أصدقاء وصديقات أحبّهم.
لا أفهم كيف يؤثر حريق بيت شخص غريب عني فيّ، وأنا أعيش بعيداً جداً، محاطاً بأخبار عن مآسٍ أكبر وأعظم. لكن هل حقاً نستطيع مقارنة المآسي؟
أعلم أنّ الأمر يبدو هيّناً على من لم يعِش لهفة شراء الكتب وجمعها وقراءتها. أعرف أنهم لن يفهموا رحلة البحث عن كتاب واحد لشهور أو لسنوات، لكنني أفهم هذه اللهفة وأعرف معنى أن يفقد المرء آلاف الكتب دفعةً واحدة. لكن من أحرقوا بيتك لا يعرفون
هل هو أثر ما كتبته عليّ، أو أنّ للأمر علاقةً بتاريخي الشخصي، ومحاولاتي لتأسيس بيت في برلين البعيدة؟ بنيت كل رفّ في بيتي بيدي. جمعت مع حبيبتي وابنتنا كل قطعة من قطع هذا البيت، وكل صحن وكل كأس وكل كتاب. هل هو تلهّفي إلى قراءة الكتب وبناء مكتبتي؟
أعلم أنّ الأمر يبدو هيّناً على من لم يعِش لهفة شراء الكتب وجمعها وقراءتها. أعرف أنهم لن يفهموا رحلة البحث عن كتاب واحد لشهور أو لسنوات، لكنني أفهم هذه اللهفة وأعرف معنى أن يفقد المرء آلاف الكتب دفعةً واحدة. لكن من أحرقوا بيتك لا يعرفون. مثلهم مثل كلّ الجهلة في التاريخ، مثل المغول الذين أحرقوا مكتبة بغداد، ومثل الرومان الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية، ومثل النازيين الذين أحرقوا الكتب في أحياء برلين، ومثل من صنعوا "ثورةً ثقافيةً" في الصين فأحرقوا كتبها، ها هم يحرقون كتبك.
ربّما لا يفهمون أنّ هذه الكتب ليست حبراً وورقاً فحسب، بل هي أشخاص وحكايات صنعتنا وعُجنت مع أفكارنا وآرائنا ومعتقداتنا، فصارت هذه الحكايات والأفكار جزءاً من هويتنا.
بنيتُ مكتبةً صغيرةً في كل مكان عشت فيه. والآن في برلين، وبعد عشر سنوات من العيش المتواصل فيها، صار عندي ما يقارب ألف كتاب، بينها كتبٌ كتبتها أنت. وأنا أقرأ خبر حرق مكتبتك. قلت لنفسي: يا لهول ما يفعلون!
كانت في بيتنا في الشام مكتبة كبيرة، تشبه مكتبتك حسبما رأيتها في الصور. آلاف الكتب جمعها جدّي ومن ثمّ أبي ومن ثمّ أعمامي ومن ثمّ أنا وإخوتي. كتب من كل حدب وصوب. كتب من الأرض إلى السقف، تحيط بنا الكتب من كل جانب. كانت جدّتي الأمّية تقول أحياناً مازحةً: لو كان عندي تنّور مثل الأيام القديمة لأطعمتُ التنّورَ كتبكم. لكن بعد أن تهجّر أولادها وأحفادها كلهم باعت أثاث البيت تباعاً، وحافظت على الكتب فحسب. لم تمسّها، بل جمعتها في صناديق كرتونية وفوق رفوف مغطاة بأقمشة مختلفة، لتحافظ عليها.
بعد سقوط النظام، عدت مع أخي إلى سوريا. كنتُ أريد جلب كلّ الكتب معي إلى برلين. كان بيتنا في الشام عارياً من كلّ شي تقريباً، لكن الكتب وأشرطة الكاسيت والسيديات كانت هناك. تلمّستها مثل حبيب عاد بعد فراق طويل. تصفحت بعض الكتب. تذكرت أشياء من حياة سابقة. أحسستُ بأنّني ألمس قلبي، لكن لم أجلب معي منها شيئاً. قلت لأخي إنّ مكان هذه الكتب هنا. لتبقَ هنا.
بنيتُ مكتبةً صغيرةً في كل مكان عشت فيه. والآن في برلين، وبعد عشر سنوات من العيش المتواصل فيها، صار عندي ما يقارب ألف كتاب، بينها كتبٌ كتبتها أنت. فكرتُ في مكتبتي التي تكبر شيئاً فشيئاً وأنا أقرأ خبر حرق مكتبتك. قلت لنفسي: يا لهول ما يفعلون!
مذّاك، فكرتُ أن أكتب إليك. لكن ما عساي أقول؟ لم أستطع الكتابة حينها، فقررت إعادة قراءة "جهات الجنوب" كنوع من العزاء. قرأت الرواية للمرة الأولى قبل ست سنوات، وفي قراءتي الثانية في الأسابيع القليلة الماضية تداخل عليّ الزمن. هل كنتَ تستشرف ما يحدث الآن في السويداء حين كتبت، أو كنت تكتب الحاضر خلال حكم الأسد، أو كنت تكتب عن الماضي وأيام هجوم قوات أديب الشيشكلي على المدينة وريفها؟
بالله عليك اقرأ ما كتبته بيديك، وقل لي إن كان لا يصلح للأزمنة الثلاث التي ذكرت:
"هبّت ريح غريبة باردة، وأُضيء الوعر المقفر، ونعبت بومة، وعَوت الثعالب الساحرة، وامتلأ المكان برائحة الموت الصفراء، تملّكت يونس رغبة في الصراخ، أن يستغيث بطريقة مرعبة تجعل الأرض والصخور والمياه والقرى تستجيب له. ليس لي عمرٌ آخر. لم أرَ شيئاً بعد. لم أعِش كما يجب ببني البشر. لقد ضعت واستهلكتُ حياتي في ركض أرعن بهيمي وراء الباطل، وها أنذا أصبح طعامًا لهذا الوحش".
فلو لي يا … (لا أعرف كيف أناديك؛ باسمك الأول ممدوح، أو أقول: أستاذ أو معلم؟ أريد أن أقول أستاذ، وأنا أعدّك أستاذاً لي في السرد وفي الكتابة، وفي النبل التي تحمله بين ضلوعك. أريد أن أقول: معلم، لأنّك معلّم في مهنتك وشيخ كارها. لكنني لا أحبّ الألقاب. أراها كاذبةً في مجملها وتخلق حواجز بين البشر. ربما لو التقينا في الشارع دون أن أعرفك سأناديك عمّو، وأنت أكبر من والدي عمراً بسنوات قليلة، لكني هنا أخاطبك ككاتب، فيتعذّر عليّ أن أجد اسم المنادى المناسب)، على كل حال، قل لي يا (أستاذ) ممدوح: هل أيام بلادنا تعيد أدوارها باستمرار؟ يبدو أنّ عادات هذه البلاد لا تتغير.
الأسابيع القليلة الماضية تداخل عليّ الزمن. هل كنتَ تستشرف ما يحدث الآن في السويداء حين كتبت، أو كنت تكتب الحاضر خلال حكم الأسد، أو كنت تكتب عن الماضي وأيام هجوم قوات أديب الشيشكلي على المدينة وريفها؟ يبدو أنّ عادات هذه البلاد لا تتغير
أتذكر الآن كتاب "السيرتان" لسليم بركات، الذي يحكي فيه عن طفولته ومراهقته في مدينة القامشلي في ستينيات القرن الماضي. كنتُ طفلاً حين عشنا في القامشلي لسنوات ست في التسعينيات. أتذكّر الآن مشاعري الغريبة وأنا أقرأ "السيرتان"، وأتذكر نفسي، أقول إنّ شيئاً لم يتغير تقريباً في أكثر من ثلاثين سنةً. الحارات والشوارع والعلاقات وألعاب الأطفال التي وصفها بركات كانت تشبه ما عشتُه. كل شيء كان متشابهاً وكأنّ الزمن لم يمرّ بهذه البلاد. كذلك شعرتُ حين قرأت "جهات الجنوب" للمرة الثانية. وكأنّ الزمن ثابت في هذه البلاد. دائرة عنف ندور فيها دون أن نستطيع الخروج. أراهنك أن يكتب بعد خمسين أو مئة عام، شخص ما شيئاً يشبه ما نكتبه عن الخراب والحرق والتدمير والإذلال في بلادنا. لن يتغير شيء.
على ذكر سليم بركات، أفكر في أنه أخذ أكثر القرارات حكمةً حين قرر العيش بعيداً عن خراب بلادنا. يجلس في كهفه ويراقبنا ويراقب خراب بلادنا من بعيد. أفكر لو أنّه يعيش في سوريا، لسُجن ربما، أو صودرت أمواله أو مُنع من السفر أو ربما حرق أحدهم بيته ومكتبته. من يدري؟!
أعلم أنّ خسارة بيتك ومكتبتك التي بنيتها في خمسين سنةً هي خسارة شخصية لا تُقدّر بثمن، لكنها أيضاً خسارة جمعية. هذا الفقد، وإن كان شخصياً، يشبه فقد مدينة كاملة، مثل فقد ذاكرة بلاد بأسرها. لم تخسر وحدك. كلنا خسرنا معك. لقد كان ذنبنا الوحيد أنّنا وُلدنا في بلد الخسارات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.