ألهمهم فنّياً وأغضبهم سياسياً وأحبّه كثيرون في الحالين… زياد الرحباني كما يراه السوريون

ألهمهم فنّياً وأغضبهم سياسياً وأحبّه كثيرون في الحالين… زياد الرحباني كما يراه السوريون

حياة نحن والتنوّع

الخميس 7 أغسطس 202516 دقيقة للقراءة

لا يمرّ لقائي بصديقي عمار من القصير في حمص، أو رؤيته في الطريق، إلا وأبادره بالسؤال الذي صار طقساً بيننا: "وين هوّي... نور؟". فيجيبنّي بحنينٍ يختلط بمرارة سنوات المدينة الجامعية في دمشق: "هوّي... وراك! شو عم تعمل ورايي؟ تعا لشوف!". كلماتٌ من مسرحية زياد الرحباني "شي فاشل" ما زلنا نتبادلها بعد 30 عاماً، كشاهدٍ على تشبُّع ذاكرتنا المحفورة بأعمال ذلك "العبقري" كما وصفته فيروز مراراً. 

قبل يومين، وحين اتصلت بعمار لمواساته بصدمة الرحيل، بدأت بالعبارة ذاتها: "وين هوّي… نور؟". فصاح في الهاتف: "بطّل وراك... اليوم سافر نور!". وكأنما اختار القدر، في لحظةٍ كان السوريون ينتظرون فيها مقتلةً جديدةً بعد فيض دماء السويداء، أن يهبط عليهم بخبرٍ يهزّ المشاعر بطريقة أخرى: رحيل زياد الرحباني، المفكِّر والفنان اللبناني من الطراز الرفيع، الذي غادرنا في 26 تموز/ يوليو 2025، عن عمرٍ ناهز 69 عاماً بعد صراعٍ مع المرض. 

لم يكن الرحيل خسارةً للبنان وحده، بل ضربةً للوجدان العربي الذي رأى في زياد صوتاً عبقرياً ومتمرّداً، عكست أعماله تناقضات الواقع السياسي والاجتماعي بجرأةٍ نادرة. غاب الرجل تاركاً فراغاً في المسرح والموسيقى والضمير الجمعي، لا على الضفّة اللبنانية فحسب، بل في سوريا الجريحة بالألم والجنازات التي لا تنتهي. 

كيف شكّل مسرح زياد الرحباني السياسي، وجدان جيلٍ من الشباب السوري وكأنه "مسرح ظلّ" للمسرح السياسي السوري المفقود؟ وأيّ أثرٍ تركه في الحركة المسرحية السورية التي عايشت القمع والثورة؟

زياد كما يراه السوريون… صوت الثورة والمرارة 

شكّلت أعمال الراحل الساخرة مثل "شي فاشل" و"فيلم أمريكي طويل" -التي صوّرت الحرب الأهلية اللبنانية في مستشفى للأمراض العقلية- كمادة للسوريين يحاولون فيها تعويض افتقادهم المسرح الحقيقي، غير المرتبط بأجهزة السلطة، لتتحوّل أعماله إلى "مسرح ظلّ" ثقافي، حفظ خلاله الشباب السوري (خاصةً الطلاب الجامعيين) نصوص مسرحياته عن ظهر قلب ووظفوها في حواراتهم اليومية. 

يلاحظ الطبيب السوري، "ميلاً لافتاً إلى السخرية الذاتية" لدى زياد الرحباني في ما يتعلّق بما يصفها بـ"تخبطاته" في الانتماءات السياسية المبكرة. هذه السخرية تكشف عن وعي ذاتي بتلك المرحلة من البحث والتجريب السياسي. في المقابل، يبرز التناقض بوضوح عندما يتعلّق الأمر بخياراته الموسيقية، التي "بدت أكثر ثباتاً ووضوحاً منذ البداية"

جعل زياد الموسيقى جسراً متجاوزاً تأثير النصّ المسرحي؛ فمزجُه الفريد بين الجاز والمقامات الشرقية في ألبوم "هدوء نسبي" وغيره، ألهم موسيقيي دمشق وحلب، ورأوا فيه نموذجاً للحداثة المتجذّرة دون تقليد أعمى. 

إلى ذلك كان تضامن الراحل العابر للحدود واضحاً في دفاعه الصريح عن القضية الفلسطينية وتصريحاته المؤثِّرة -"صبر الفلسطينيين سيُنهضهم كما في فيتنام"- أيقونةً للنضال والالتزام في وجدان الشباب السوري. 

شخصية "ملهمة" بين التمرّد والفرادة

في تحليل عميق لشخصية الفنان زياد الرحباني، يكشف الكاتب والطبيب النفسي السوري الدكتور رفيف المهنا، في حديثه إلى رصيف22، آليات تشكُّل هذه الشخصية الاستثنائية وإشكالياتها وتأثيرها على جيل واسع يعدّ المهنا نفسه منه.

 يتجاوز تأثير زياد، بحسب المهنا، حدود الفنّ ليصل إلى قلوب وعقول الشباب السوري وعموم جيله بشكل شامل. يشرح: "تأثير زياد كان شاملاً ولم يترك شاباً سورياً إلا وَلَمَسَه بطريقة ما". يتجلّى هذا التأثير في صور متعددة: أولاها الموسيقي الفذّ، فمنهم من رأى فيه "الموسيقي الفذّ البسيط صاحب الجملة الموسيقية التي تعطي الانطباع لكلّ مستمع أنه من صنعها".

 وآخرون رأوه الفيلسوف الساخر، فسمعوه "كفيلسوف سابق عصره، واهتموا بطريقته الساخرة بنكهة المرارة في وصف واقع عربي يتنفس بصعوبة". كذلك وجد كثير من الشباب فيه "ضالّتهم"، فكان بمثابة "المتحدث الرسمي باسم كل غريب ووحيد في بيئته وثقافته"، وساعدهم -دون نية- "على قبولهم غربتهم بأقلّ الخسائر".

كذلك، رآه فريق منهم "المُلهم المسرحي"، كونه "مسرحياً مجدداً وثرياً فتح الأبواب الواسعة للكثير من الشباب الحائر كمُلهم عبقري لا يتكرر"، بحسب الطبيب السوري، ويخلص إلى أنّ "زياد" "لمس الشباب السوري في قلوبهم وعقولهم وفكرهم وأحلامهم"، ما رفعه في نظرهم إلى "مستوى الظاهرة الإنسانية الفريدة".

"رشيد" المفرط في الصدق

وكطبيب نفسي، يربط المهنا بين شخصية زياد وبطولة مسرحيته الشهيرة "فيلم أمريكي طويل"، تحديداً شخصية "رشيد" التي عانت الفصام. يرى المهنا، أنّ شخصية رشيد "تنتمي في صدقها إلى أقصى درجات التطرّف الفكري"، فهي تقول الأشياء "بتمامها من دون أي حرف زائد". ويُعدُّ اختيار زياد لتجسيد هذه الشخصية تحديداً، بحسب المهنا، "أمراً مقصوداً"، إذ مثّل رشيد "ذلك الشخص المتعطش دائماً إلى مزيد من الصدق".

وهنا يقدّم الطبيب النفسي خلاصته القوية عن زياد الرحباني، واصفاً إياه بأنه شخصية وصل صدقها إلى حد التطرّف: "نعم يمكننا القول إن زياد مات بفرط الصدق في الحياة"، جملة يلخص بها المهنا مسيرة فنان جعل من تمرّده وصراحته المفرطة وإشكاليته أسساً لفرادة أثّرت بعمق في أجيال مختلفة.

تمرّد على التقليد

كان زياد الابن المتمرّد على تراث العائلة، فرفض البقاء أسيراً في مدرسة الأخوين رحباني، وقدّم موسيقى هجينةً تخلط الجاز مع التراث الشرقي، كما في أغنية "أنا مش كافر" التي سخرت من الانقسام الطائفي .

عن ذلك، يقول المهنا إنّ "زياد" الشاب المتمرّد "استفاد دون أدنى شك من كونه ابناً لعاصي الرحباني وفيروز"، لكنه أظهر للعالم تدريجياً "شخصيته المختلفة" جذرياً، شكلاً ومضموناً. ويرى المهنا أنّ "رفضه للهوية الرحبانية الحالمة الرومانسية كان عاملاً محورياً في صياغة شخصيته الواقعية المتفّردة"، وأنّ هذا الرفض أصبح سمةً أساسية. "تدرّب زياد على الاختلاف في بيت أبيه في السرّ والعلن، حتى صار رفضه للواقع جزءاً أساسياً من شخصيته الإشكالية المتفرّدة"، يردف المهنا متسائلاً: "هل فرادة زياد هي ما جعلت منه إشكالياً، أم أن إشكاليته هي من ساهم في صناعة فرادته وتطويرها؟".

"الآب السماويّ"… استراح في الـ69

حوّل الموسيقار الراحل فيروز إلى رمز معاصر كألبومات مثل"كيفك إنت" و"بعتلك"، أعادت تشكيل مسيرتها الغنائية بعيداً عن "النص الرحباني المقدس"، نحو واقعية أكثر عمقاً . هذا الإرث لم يحصره زياد في لبنان فجعله متعدّد الأصوات، وظهر ذلك جلياً في تعاونه مع فنانين من تونس (لطيفة) والجزائر (سامي حواط)، ما ساهم في أن يصبح تأثيره عابراً للهويات المحلية، ومنها السورية.

وفي وداع أخير وحزين، يقول الإعلامي والممثل المسرحي السوري أمجد طعمة، لرصيف22، بنداء ''فيق يا رفيق'' الذي يعصف في قلوب جيلٍ ربّاه زياد: "لا نراه أباً تقليديّاً بسلطة بطريركية، بل أقرب إلى صورة الآب السماوي، الذي أحبَّ فأعطى كل شيء دون حساب، حتى استراح في التاسعة والستين".

عَبَرَ زياد الحدود بين الشقيقتين لبنان وسوريا خفيةً، مختفياً في شرائط الكاسيت حين كان الكلام ثمنه باهظاً. أسّس زياد حزباً سرّياً بلا أيديولوجيا أو منطلقات نظرية، بلا قادة ولا خطط خمسية. حزبٌ دانت له الأرواح باسمه وحده، فما نطق به كان ''آمين''. وهكذا، على مدار عقود، تشكَّلت مسرحيات وموسيقى وشخصيات في المجتمع السوري تتحدث بلسانه وتقلّد فكره، حتى صار تأثيره تحدياً للبعض في نضجهم الفني وبناء هويتهم المستقلّة.

وقف زياد ضد الثورة السورية عام 2011، لأسباب متشابكة تعكس تناقضات عميقةً في مساره. فقد رأى في الانتفاضة السورية تحوّلاً نحو "ثورة تكفيريين" يهدّدون العلمانية والتنوع، عادّاً أنّ الإسلاميين سيسيطرون على مسارها ويحوّلونها إلى حركة أصولية.

حسب طعمة، فإنّ السيناريست السوري فؤاد حميرة، والموسيقار سمير كويفاتي، والفنان سميح شقير في كاسيت "زماني" عام 1998، وحتى تجربة الممثل محمد خير الجراح، في الغناء الساخر، جميعهم حملوا بصمة زياد الواضحة. بل "إننا في المسرح الجامعي وضعنا صورة الراحل على بروشور مسرحية 'الحق بالوصول' للدكتور وليد إخلاصي عام 1998 (صممه معدّ هذا التقرير)، اعترافاً صريحاً بتأثيره الذي لا يخجل المرء من الإقرار به، ببساطة لأنه التأثير الوحيد الذي لا حرج في الانتماء إليه"، يتابع طعمة.

ويشدّد طعمة: "كما فَرَدَ محمود درويش جناحي شعره على الوطن العربي فلم يترك مكاناً نستظلُّ فيه إلا تحت قصيدته، فعل زياد الرحباني في قلوب وعقول من عرفوه وأحبّوه. امتد تأثيره من الموسيقى والغناء إلى الصحافة والأداء المسرحي، ومن الإذاعة والتلفزيون إلى الأفكار والذاكرة الجمعية… ظلَّ صوته حاضراً في كل تفصيل فني، في ما مضى من أيام الوطن، وفي ما تبقى منه"، يختم طعمة.

الموقف "المزدوج" من الثورة السورية 

 وقف زياد ضد الثورة السورية عام 2011، لأسباب متشابكة تعكس تناقضات عميقةً في مساره. فقد رأى في الانتفاضة السورية تحوّلاً نحو "ثورة تكفيريين" يهدّدون العلمانية والتنوع، عادّاً أنّ الإسلاميين سيسيطرون على مسارها ويحوّلونها إلى حركة أصولية. وبرّر دعمه لنظام الأسد -برغم اعترافه بقمعه- كحاجز ضروري ضد "الفوضى" و"التطرف الديني"، متأثراً بخطاب محور الممانعة الذي يصوّر المعارضة كأداة للغرب والإسلام السياسي. 

انحاز زياد بوضوح إلى محور "إيران-حزب الله-سوريا"، مؤمناً بأنّ النظام ضروري لمواجهة "مؤامرة خارجية" تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ودافع عن التدخّل الروسي كخطوة "مشروعة". وهذا الموقف كشف تناقضاً جوهرياً في أيديولوجيته. فبينما عُرِف كـ"شيوعي" وهاجم القمع في أعماله الفنية (مثل مسرحية "وقمح")، برّر قمع نظام الأسد باسم "حماية الدولة" حتى أنه صرّح: "لو كنت مكان الأسد لفعلت ما يفعله". كما فضّل أولوية العدالة الاقتصادية على الحريات السياسية، ما جعله يتسامح مع أنظمة استبدادية تدّعي الاشتراكية. 

وساهمت علاقة زياد بالمؤسسة الثقافية السورية -كمشاركته في فعاليات "دمشق عاصمة الثقافة العربية" 2008- في تعزيز تحالفه مع النخب الموالية، خاصةً بعد تأييده حزب الله. وقد مثّل نموذجاً لليساري العربي المأزوم بين مبادئه وتعقيدات الصراع الطائفي، فاختار "أهون الشرّين"، وفق تصوّره. هذا الموقف أثار صدمة جمهوره السوري العريض الذي رأى في تمجيده بفنّه لرموز المقاومة، خيانةً لثورتهم. 

وبقي إرث زياد السياسي، والموسيقي، شاهدَين على أزمة المثقّف العربي بين الإبداع والواجب الأخلاقي.

صدمة الشارع السوري من موقف زياد لم يذهب أثرها ببساطة. الكاتب الصحافي الفلسطيني راشد عيسى حاول تفسير موقف زياد، دون مواربة، مشيراً في إحدى مقالاته إلى انحيازه إلى التيار الممانع ضد الاستقلاليين اللبنانيين، وتالياً وقفته العنيدة ضد "الربيع العربي"، ووقوفه مع نظام بشار الأسد، بل تفضيله مخابرات النظام على معارضيه، وحلمه بـ"نظام دكتاتوري كستالين"، وولعه بالاستماع إلى خطب حسن نصر الله، وتوريطه والدته فيروز، ذات مقابلة، بإفشاء "حبها للسيد"، قاصداً نصر الله.

إلى ذلك، يشرح رفيف المهنا هذا الموقف في محاولة لفكّ التباس موقف زياد المعروف من الثورة السورية، بالنظر إلى مسار حياته من بداية نشأته وحتى النضج، قائلاً: "زياد دخل معترك الحياة الحقيقية مبكراً جداً. بمجرد أن غادر كنف العائلة. هذه الانطلاقة المبكرة جعلته يبدو وكأنه في بحث دؤوب ومبكّر عن هويته، ليس فقط الموسيقية، بل أيضاً السياسية والاقتصادية، منذ خطواته الأولى في فضاء الاستقلال".

ويلاحظ الطبيب السوري، من خلال تتبعه مسيرة زياد الطويلة ولقاءاته الكثيرة، "ميلاً لافتاً للسخرية الذاتية" في ما يتعلّق بما يصفها بـ"تخبطاته" في الانتماءات السياسية المبكرة. هذه السخرية تكشف عن وعي ذاتي بتلك المرحلة من البحث والتجريب السياسي. في المقابل، يبرز التناقض بوضوح عندما يتعلق الأمر بخياراته الموسيقية، التي "بدت أكثر ثباتاً ووضوحاً منذ البداية"، مسلطةً الضوء على انقسام في مساريه الإبداعي والفكري.

يرى حسن أنه "حين يتعلّق الأمر بمكانة زياد الرحباني، لدى السوريين تحديداً، فإنه ليس كائناً يُقاس بالحب أو الكره وحدهما بل كقيمة إنسانية، فنية، ثقافية، وأخلاقية، تتجاوز الأذواق الشخصية والانفعالات اللحظية. من العبث اختزال حضوره وتجربته في آراء سطحية أو ساذجة. من الجدير أن نتجرّد من الأحكام المعّلبة"

الأهم في ما يطرحه المهنا، أنّ العقدَين الأخيرَين من حياة زياد كانا شاهدين على أنّ "بصيرته النافذة ورؤيته الثاقبة قادتاه إلى استقرار سياسي واضح. لم يكن هذا الخيار نتاج تجارب عشوائية، بل تشكّل بنضج متجذر من خبرة متراكمة ورصانة فكرية اكتسبها عبر السنين. بينما ظلت موسيقاه تنمو وتتطوّر بثقة لا تخطئها العين، دون تردّد يُذكر".

يستنتج المهنا مما سبق نقطةً جوهريةً لتفسير هذا المسار المزدوج، "كما نعزو جمال موسيقى زياد الساحر ومبتكراته إلى عبقرية خارقة فريدة، علينا أيضاً أن نعترف بأنّ طروحاته السياسية لم تكن بمنأى عن تأثير هذه العبقرية نفسها. تلك العبقرية التي منحته تلك النظرة الاستثنائية إلى المستقبل، نظرة تجمع بين العمق الفكري والبساطة في القراءة".

إلى ذلك، يرى المهنا أنّ موقف زياد المثير للجدل من ثورات الربيع العربي، بما فيها الثورة السورية، "لم يكن سوى حلقة في سلسلة رؤيوية طويلة، ونتاج طبيعي لقراءته للزمن والمصائر".

"عبقرية زياد لا تُمنح" 

"برغم كل شيء ظلّ زياد يُعدّ، على نطاق واسع، صوتاً للمهمّشين. لكن المؤلم هو غياب البديل لهذه العبقرية التي لا تتكرّر"، حسب ما يصف الكاتب السوري عصام حسن زياد في حديثه إلى رصيف22. يقول: "كثيرون حين يُسألون عن التفاح، يسرعون إلى وصف لونه: أخضر، أحمر، أصفر. وحين يُسألون عن الماء، يأتي جوابهم جاهزاً: بارد، ساخن، دافئ. كأنّ المعرفة صارت قائمةً على أوصافٍ سطحية تكتفي بالظاهر، ولا تمتد إلى الجوهر".

ويتابع حسن : "نعم، لون التفاح مهم، لكنه ليس كل شيء. طعمه، قيمته، وشجرةٌ بأكملها تمنحنا هذه الثمرة… كلها عناصر تزيد فهمنا، لا للتفاح وحده، بل للحياة". 

بهذا العمق، يؤكد حسن: "حين يتعلّق الأمر بمكانة زياد الرحباني، لدى السوريين تحديداً، فإنه ليس كائناً يُقاس بالحب أو الكره وحدهما بل كقيمة إنسانية، فنية، ثقافية، وأخلاقية، تتجاوز الأذواق الشخصية والانفعالات اللحظية. من العبث اختزال حضوره وتجربته في آراء سطحية أو ساذجة. من الجدير أن نتجرّد من الأحكام المعّلبة".

ويشدّد حسن على أنّ "عبقرية زياد لا تُمنح، بل تُشرق كالشمس. لا تختار من تهبُه دفئها، ولا تنتظر استحسان أحد. وحتى من يكره الشمس، لا يستطيع إنكار ضوئها عليه. لا مفرّ من نعمتها، ولا طائل من الجحود، فالظلّ نفسه شاهدٌ لا يكذب".

تقدير زياد للكفاءة السورية

في شهادةٍ لافتة، كشف السيناريست السوري رامي كوسا، على صفحته على فيسبوك، كيف تجلّى احترام زياد الرحباني للموسيقيين السوريين عبر مواقف عملية.

فحين سُئل زياد عن ناصيف زيتون، أجاب أولاً: "ما بعرفه"، لكنه صحّح نفسه فوراً بمجرد معرفة جنسيته قائلاً: "لأ، إذا سوري لازم نتعرّف عليه". ووفقاً لأصدقاء في المعهد العالي للموسيقى، والحديث أيضاً لكوسا، اعتمد زياد على كورال سوري بنسبة كبيرة في أعمال فيروز، ثقةً منه بجودة تدريب "أكاديمية دمشق" واجتهاد خرّيجيها. 

كذلك وفي عام 2018، طلبت مديرة أعمال زياد من كوسا البحث عن "عازف غيتار سوري يُتقن قراءة النوتة الموسيقية خلال 48 ساعةً فقط"، دون تفسير شرط الجنسية. وقع الاختيار على جورج مالك، الذي رافق زياد في حفلاته لاحقاً.

يختزل كوسا فلسفة زياد بالقول إنه "أحبَّ لبنان وغضب منه، وأحبّ سوريا وغضب لأجلها"، لافتاً إلى أنّ "الغضب يُسقطه التقادم، أمّا الحب فتحميه الموسيقى". وختم كوسا منشوره، بلسان السوريين جميعهم: "ونحنُ نحبّكَ يا رجل، بقدر ما أحببتنا، وبقدر ما وثقت بنا". 

زياد الذي لطالما حذّر من وحش الطائفية الذي ينزف اليوم دماً في جبال السويداء وشوارع اللاذقية، يبدو أنه كان سابقاً زمنه حين رسم بسخريته السوداء صورةً لأحقادٍ متجددةٍ، وكأنّ موسيقى "أنا مش كافر" تتردّد اليوم كندبٍ على الأرض

رحيل صمام الأمان "الفكري"

لم يكن رحيل زياد مجرد فجيعة فنية، بل زلزالٌ هزّ الوجدان الجمعي من السويداء إلى اللاذقية، ومن بيروت إلى دمشق. ففي سوريا، امتزج حزنٌ أشبه بفقد الأب الروحي مع صمتٍ رسميٍ ثقيل تجاه عزاء فيروز، فخلق جرحاً لا يندمل. يقول الصحافي السوري محمد عيد، إنّ "زياد" كان "مرآةً تكشف أقنعتنا، وكأنّ رحيله كشف أيضاً عن شرخٍ بين الناس وأنظمتهم".

أما الإعلامي السوري إياد ناصر، فيرى أننا "محكومون بإرث الرحابنة"، وهنا تكمن المفارقة: فبينما تستمرّ أقانيم العائلة (عاصي، فيروز، زياد) كـ"زوادة روحية"، يغيب اليوم من كان "الأمان الفكري" لجيلٍ يبحث عن ملاذٍ من انزياح الواقع.

زياد الذي لطالما حذّر من وحش الطائفية الذي ينزف اليوم دماً في جبال السويداء وشوارع اللاذقية، يبدو أنه كان سابقاً زمنه حين رسم بسخريته السوداء صورةً لأحقادٍ متجددةٍ، وكأنّ موسيقى "أنا مش كافر" تتردّد اليوم كندبٍ على أرضٍ بقيت كما هي. ويبقى الأمل أن يبقى رحيل زياد فجيعة العام الأخيرة… فما عادت قلوب السوريين واللبنانيين تحتمل وداعاً جديداً، أو مقتلةً جديدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image