بين تهم الإرهاب والحكم العسكري... كيف يتضامن فلسطينيو الداخل مع غزّة؟ 

بين تهم الإرهاب والحكم العسكري... كيف يتضامن فلسطينيو الداخل مع غزّة؟ 

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 26 أغسطس 202510 دقائق للقراءة

"هل كان على غزة أن تموت جوعاً لتخرجوا إلى الشوارع؟"؛ سؤال يتردد مؤخراً حول الداخل الفلسطيني، بعد أن عادت المظاهرات المنددة بحرب الإبادة إلى المشهد، وبوتيرة أسبوعية. فهل حقّاً تقاعس الداخل عن نصرة غزة؟

شهد الداخل الفلسطيني مع اندلاع حرب الإبادة على غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، موجةً من المظاهرات، قوبلت بالقمع والعنف الشديدين، وطالت الاعتقالات عدداً من الناشطين البارزين، مثل المحامي أحمد خليفة، والناشط محمد أبو الطاهر جبارين، اللذين سُجنا لأشهر عدة، على خلفية مشاركتهما في مسيرة احتجاجية أعقبت مجزرة المعمداني في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. 

كما طالت الاعتقالات آخرين بسبب وضع إعجابات أو نشر منشورات في الأسابيع الأولى من الحرب، في محاولة لترهيب الداخل الفلسطيني، خاصةً بعد هبّة الكرامة عام 2021، التي شهدت حالةً غير مسبوقة من التلاحم بين المناطق الفلسطينية كافةً، احتجاجاً على تهجير حي الشيخ جرّاح في القدس، والاعتداءات على المسجد الأقصى والعدوان على غزة. 

وفي سياق موازٍ، عدّلت إسرائيل بعد شهر واحد من بدء الحرب، قانون "مكافحة الإرهاب"، ليشمل تجريم استهلاك منشورات تصنفها "إرهابيةً"، وفرضت عليه عقوبةً قد تصل إلى السجن لمدة عام.

وعلى الرغم من قتامة المشهد، والحسرات المدوية وعشرات آلاف الأرواح التي أزهقت، خيّم الصمت على شوارع الداخل المحتل، نتيجةً للتضييقات الشديدة وسياسة الردع، حتى اجتياح رفح ووقوع مجزرة الخيام في أيّار/ مايو 2024، التي أعقبتها سلسلة من الاحتجاجات استمرت أسابيع عدة، قبل أن توقفها مجدّداً آلة القمع الوحشية.

ومع نهاية تموز/ يوليو الأخير، تجدّدت التظاهرات، واللافت في هذه المرّة امتدادها الجغرافي من جنوب إسرائيل إلى شمالها، ووصولها إلى مناطق حساسة تُحيطها المستوطنات الإسرائيلية، مثل الوقفات الاحتجاجية في منطقة أبو غوش على شارع رقم 1، الذي يربط بين القدس وتل أبيب، ويُعدّ من أكثر الشوارع حيويةً في البلاد.

ما الذي يحصل في الشارع الفلسطيني داخل أراضي الـ48؟

"الخوف بطبيعة الحال موجود. نحن مجتمع هشّ مرّ بنكبة وحكمٍ عسكري وانتفاضات وحروب. وهنا تقع علينا المسؤولية كناشطين في إعادة بناء الثقة مع الشارع، وهذا ما حددناه كهدف أساسي للحراك"، يقول عبد الحميد أبو غوش (23 عاماً)، أحد مؤسسي لجنة الحراك الشعبي في شمال غرب القدس، في حديثه إلى رصيف22.

ويُضيف: "هناك خصوصية في الحراك الشعبي في منطقة أبو غوش-عين نقوبا-عين رافة، كونها البلدات العربية الوحيدة المتبقية غربي القدس، والتي لم تُباد كما حصل في دير ياسين التي تبعد عنّا بضعة كيلومترات".

وحول ديناميكية الاحتجاجات، يرى أبو غوش أنّ الحراكات في الداخل تُحيي بعضها بعضاً. قد تبدأ وقفة صغيرة في بلدة كفر قاسم، فتردّ جارتها جلجولية، وتستمر في حيفا وسخنين. أمّا إن كان الداخل الفلسطيني في طريقه نحو تصعيد، فيقول إنّ القدس ستكون هي الإجابة.

الاحتجاجات الأخيرة في الداخل الفلسطيني جاءت بعد شهور من القمع والصمت المفروض منذ حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لكنها تحمل بصمتها الجديدة في اتساع رقعتها الجغرافية وقيادتها من قبل جيل شاب يرفض انتظار القيادات التقليدية

بخلاف ذلك، يرى الناشط والطالب الجامعي طارق (23 عاماً)، وهو اسم مستعار، أنّ النضال لا ينبغي أن يُختزل في موقع جغرافي بعينه، قائلاً: "القدس بوصلة للكثيرين، لكن لا أستطيع وضع آمالي على منطقة معيّنة والتعويل عليها. أهل القدس لديهم معاناتهم الخاصة، لا أظنّ أنّ أحداً يُتابع ما يجري من عمليات هدم فيها مثلاً، ولو جرى تهجير في حي الشيخ جرّاح اليوم، فلن يخرج أحد".

ويُكمل: "التحرك الحاصل اليوم لم يكن متوقعاً مُقارنةً ببداية الحرب، حيث اعتُقل نحو 400 شخص لمجرد النشر. هذه الأمور ربما تُنسى وتُدفن، ولكن منها قد ينبع الإحباط. صحيح أنّ تحركنا اليوم خطوة مباركة، لكنّه لا يعفينا من التخاذل".

يشعر طارق أنّ الاحتجاجات هذه المرة تحمل شيئاً مختلفاً من حيث الاستمرارية، وذلك لأنّ الناس لم تعد ترغب في انتظار القيادات لتتحرّك. هناك حالة من القهر والإحباط، خاصةً مع غياب القيادات السياسية عن المشهد. 

ويضيف أنّ هذا الحراك الشعبي العفوي بدأ بعد إلغاء مسيرة العودة، لأول مرة منذ 26 عاماً. الناس عادت وحدها إلى قراها المهجّرة دون انتظار القيادات. الشباب اليوم هم الذين يقودون الشارع. 

كيف تواجه إسرائيل الشارع الفلسطيني في الداخل اليوم؟

معظم المظاهرات في الداخل تُنظَّم في قلب البلدات العربية، وتُقام بتصريح من الشرطة وضمن وقت محدّد. أمّا في حيفا، وعلى خلاف باقي المناطق، فتُنظّم دون إذن من الشرطة، ولذلك نشهد فيها حالات اعتقال وحشيةً، خاصةً أنّها مدينة مختلطة سكانها من العرب واليهود. 

يرى البعض أنّ الداخل يتحرك ضمن حدود الممكن، بالنظر إلى القمع والاستهداف المتواصل من قبل المؤسسة الإسرائيلية. ويعتقد آخرون أنّ ما يحدث اليوم ليس أكثر من وسيلة للتنفيس أو لإرضاء الضمير الجمعي، أكثر من كونه وسيلة ضغط فعّالةً، ذات أثر ملموس. 

فكيف يُمكن لشعب تحت الاستعمار أن يُمارس الضغط على المُستعمِر، إذا كانت أفعاله تتوافق مع المنظومة الاستعمارية نفسها؟

"قد تبدو نظرتي متشائمةً، صحيح أنّ إسرائيل تسمح لنا بالتظاهر، لكن بشروطها هي، الشعب في الداخل مكبوت وهي تمنحنا هذه الفرصة كي نفرّغ في أماكن لا تضرّها. أسمّيها 'جرعات تخدير موسميةً'، تخدم صورتها أمام العالم، لتقول:"انظروا، لدينا شعوب تتظاهر'"، تقول الناشطة والطالبة الأكاديمية، رحمة (23 عاماً)، لرصيف22. 

يؤيّدها الرأي الناشط والمدوّن عمر عاصي (38 عاماً)، حيث يقول لرصيف22: "على الرغم من محاولات الأسرلة (محاولات دمج المجتمع الفلسطيني في الداخل في المجتمع الإسرائيلي)، إلّا أنّ هناك إستراتيجيةً أمنيةً مُتّبعةً، وقائمةً على مبدأ أنّ الكبت طويل الأمد قد يولّد انفجاراً في مرحلة ما". 

أمّا الناشط عبد الحميد أبو غوش، أحد مؤسسي الحراك الشعبي الجديد في قُرى غربي القدس، فيروي تعرّضه لتهديدات غير مباشرة، بسبب نشاطه الأخير. اتصل أحد أفراد الشرطة بوالده قائلاً: "اسم ابنك يتردد كثيراً في الآونة الأخيرة".

الخوف المتوارث من الحكم العسكري وذاكرة القمع الطويلة ما زالت تتحكم في سلوك المجتمع الفلسطيني في الداخل، حيث تُستخدم أدوات العقاب الجماعي لإبقاء الناس في حالة ردع دائم.

ويضيف: "حرّرت الشرطة مخالفات سير للمشاركين في الوقفة التي نظمناها على شارع القدس رقم 1، برغم أنّ هذا الأمر لا يندرج ضمن صلاحياتها، يريدون إيصال رسالة لنا مفادها: 'هل تجرّأتم وخرجتم من بيوتكم؟'، وهذه هي تماماً العقلية الاستعمارية في ممارسة العقاب الجماعي". 

وفي هذا السياق، تقول جمان مزاوي، وهي اختصاصية في علم النفس التحرري لرصيف22، إنّ الاستعمار يستخدم أسلوب العقاب الجماعي لكل محاولة مُناهضة للاستعمار، مثل معاقبة العائلة، القرية، أو المحافظة. الأشخاص غير القادرين على دفع الثمن، يصبحون العائق أمام الآخرين، خشيةً من العواقب القاسية التي قد تطالهم حتى لو لم تكن لهم علاقة بالفعل.

هاجس الحكم العسكري

تعدّ إسرائيل الفلسطينيين في أراضي الـ48، "قنبلةً موقوتةً" قد تنفجر في أي لحظة، وعلى هذا الأساس فرضت عليهم حكماً عسكرياً، امتدّ منذ النكبة وحتى عام 1966، فرضت من خلاله قيوداً عديدةً، من ضمنها تقييد التنقل بين البلدات والقرى، ومنعهم من التواصل مع المحيط العربي. 

"في بداية الحرب، حاولوا وضعنا في مربّع 'الحكم العسكري'، كان ممنوعاً وضع إعجاب على منشور معيّن مثلاً. شخصياً، توقفت عن القيام بعدد من الأمور، مثل وضع الإعجابات. استمررت في الكتابة لكن بحذر شديد. أشعر أننا اليوم نجحنا في الخروج من داخل مربّع الحكم العسكري الذي يسعون إلى إعادتنا إليه"، يقول عاصي. 

"أوعك تحكي بحبسونا"؛ الجملة التي تتردد على لسان الأجداد والأهل، يصفها عاصي بأنّها حاجز انتقل إلينا منذ الجيل الأول للنكبة، الذي عاصر فترة الحكم العسكري حينها. 

وفي هذا السياق تقول مزاوي، إنّ الكوارث أو الأزمات التي يعيشها جيل معيّن لفترة من الزمن، تترك آثاراً ومشاعر تتغلغل داخله. 

هذه المشاعر تُنتج أفكاراً ومعتقدات، تؤدي إلى سلوكيات معيّنة، حتى بعد زوال الكارثة أو الصدمة. تنتقل هذه الأنماط السلوكية دون إدراك للأجيال التالية، حتى لو زال الخطر وكأنّ الصمت هو السبيل الوحيد للنجاة. 

بين الخوف والفعل: ما الجدوى؟

"هناك حالة من اليأس والإحباط، وحتى شعور بالدونية. الاستعمار يستهدف أي محاولة منّا، ومن هول الأحداث الجارية، هناك شعور بأنّ أيّ فعل لا يرتقي إلى مستوى الحدث. هذا شعور ممنهج يحاول الاستعمار غرسه فينا"، تقول مزاوي.

قد تتشكّل فجوة بين المنظومة القيمية للفرد وبين أفعاله، ما يسبب أزمةً نفسيةً. وبدلاً من السعي إلى التغيير، يبدأ الفرد بمهاجمة وانتقاد الفعل الذي لا يستطيع القيام به لتقليص هذه الفجوة. 

"عندما يدرك الإنسان أنّ رد فعله تجاه ما يحدث هو شيء مستهدف ومرغوب، حينها يسعى إلى الفعل. في نهاية المطاف، كل ما يحدث إما أن يفعل شيئاً بنا أو لأجلنا، أو يؤدي إلى تناحر وتفكيك مجتمعي، أو تفقير ونظرة دونية لأنفسنا، أو نستغلّ هذه المشاعر في شيء بنّاء"، تختم مزاوي.

هل الداخل الفلسطيني على أعتاب "هبّة كرامة" ثانية؟

"لا أعتقد أننا على مشارف هبّة كرامة ثانية، نحن ما زلنا تحت حكم عسكري مشدد وغير جاهزين لتحمل العواقب. هذا ليس هدف هذه المرحلة، الناس تخرج لتسجيل موقف أمام نفسها بعد الشعور بالخزي ولإعادة مساحة للتعبير"، يقول طارق (23 عاماً).

ويتابع: "الأمور تتحرك ببطء، والانفجارات السريعة نادراً ما تُثمر نتائج إيجابيةً على المدى البعيد، هذا ما حدث بعد هبّة الكرامة عام 2021، حيث أعقبت الزخم الشعبي حالة تفكك تمّ استغلالها جيداً بداية الحرب".

رغم استمرار التظاهرات الأسبوعية وظهور حراك شبابي مستقل، يبقى السؤال: هل يمكن لهذه التحركات أن تتحول إلى قوة ضغط حقيقية على تل أبيب، أم ستظل محصورة في "مساحات تنفيس" تخدم رواية إسرائيل عن ديمقراطيتها؟

"لا أعتقد أننا أمام هبّة كرامة جديدة. لو كانت ستحصل لحدثت، فقد وصلت الأحداث إلى أسوأ نقطة من الممكن تصوّرها. ما حصل بعد الهبّة هو أنّ إسرائيل حاولت ردعنا، ولا أعتقد أنّ شعبنا مستعدّ اليوم لدفع الأثمان نفسها، خاصةً مع الأحكام الجائرة بحق معتقلي هبّة الكرامة الذين تُركوا لمصيرهم"، تقول رحمة (23 عاماً).

حدّدت لجنة المتابعة، الجسم الممثل للجماهير العربية في أراضي الـ48، تظاهرةً قطريةً لأول مرة منذ بدء الإبادة في تل أبيب بتاريخ 23 آب/ أغسطس 2025. 

وفي مدينة حيفا تستمر كل خميس التظاهرات تحت شعار "حتى إنهاء الحصار على غزة"، بتنظيم شبابي ودون تصريح من الشرطة الإسرائيلية. كما تستمر التظاهرات في باقي المناطق شمالاً وجنوباً، حتى في البلدات المختلطة مثل مدينة اللد. 

فهل سنشهد تصاعداً في حدّة هذه المظاهرات؟ وإلى أيّ مدى ستسمح إسرائيل للفلسطينيين في الداخل بالالتحام الفعلي مع أبناء شعبهم في غزة؟ 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image