قرية بُرقة والمئات غيرها… كيف تتآكل قرى الضفة الغربية بفعل الاستيطان؟

قرية بُرقة والمئات غيرها… كيف تتآكل قرى الضفة الغربية بفعل الاستيطان؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 18 أغسطس 20258 دقائق للقراءة

في ليلة ثقيلة من ليالي تموز/ يوليو الماضي، اشتعلت النيران في الجهة الغربية من قرية برقة، شرقي رام الله. لم يكن الأمر عرضياً أو نتيجة ماس كهربائي؛ فكاميرات المراقبة وثّقت إشعال مجموعة من المستوطنين النار عمداً في "مشطب سيارات" يملكه صابر عسليّة، من أهل القرية، قبل أن تتحول المنطقة إلى كتلة لهب ودخان.

الصور التي حصل عليها رصيف22، توثّق اللحظات الأولى للحريق، الذي لم يكن الأول من نوعه. فمنذ اندلاع الحرب على غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تعيش برقة تحت وطأة اعتداءات متصاعدة: حرائق ليلية، محاولات سرقة، وهجمات مسلّحة من المستوطنين. 

"مش نايمين"... حين يصبح الليل موعداً دائماً للهجوم

"ما بنام الليل، بنظلّ سهرانين حتى الساعة أربعة، وبرضه بيصير الهجوم وإحنا صاحيين"؛ يقول صابر عسليّة (في الخمسينات من عمره)، وهو أمين سرّ صندوق مجلس برقة القروي، ويعمل أيضاً "تاجر حلال"، ويفيد بأنه من أبرز المتضررين من اعتداءات المستوطنين على القرية، حيث يقيم في الجهة الغربية الأقرب إلى المستوطنات.

يصف صابر، حجم الأضرار التي لحقت به: "احترقت عندي أكثر من 200 سيارة، غير اختناق الأغنام وموتها، بالإضافة إلى السرقة والذبح جوّا البركسات".

رئيس المجلس القروي في برقة: "الأرض إلنا... بس ما إلنا فيها موطئ قدم، حتى أراضينا اللي كنا نزرع فيها قمح وشعير، تم الاستيلاء عليها من قبل رعاة المستوطنين. الزيتون اللي كان مصدر رزقنا الرئيسي احترق أو اتقطع، يعني ما ضل لا محصول ولا مواسم".

ويوضح أنّ هذه السيارات "مشطوبة"، يحتفظ بها لأغراض تجارية، حيث يعمل في بيع قطع غيارها وإعادة تدويرها ضمن عمله التجاري. 

في إحدى الهجمات، أشعل المستوطنون النيران في ثلاث نقاط داخل المشطب، ومع الرياح القوية تفجّرت المركبات المحمّلة بالزيوت والوقود، ما أدى إلى حالات اختناق بين السكان، ونُقل بعضهم إلى مراكز طبية قريبة.

"الدخان الأسود غطّى القرية. الناس ما عرفت وين تروح. الأطفال صحيوا مرعوبين"، يضيف صابر.


بؤر استيطانية

القرية التي تحيط بها خمس بؤر استيطانية، أصبحت فعلياً في حصار شبه كامل. فالطريق الرئيسي الذي كان يربطها برام الله منذ أكثر من 25 عاماً، بات مغلقاً بفعل الاستيطان، والطريق البديل يحتاج إلى 40 دقيقةً على الأقل، ويمرّ عبر خمس قرى أخرى، وقد يُغلَق في أي لحظة بحاجز مفاجئ.

أراضي برقة ليست صغيرة. فعلياً، تمتد أراضي القرية على مساحة تُقدّر بـ15 ألف دونم، تربطها جغرافياً بمدن وقرى كبرى: من الغرب تصل حدودها إلى مدينة البيرة، ومن الجنوب إلى كفر عقب، ومن الشرق إلى مخماس، أما من الشمال فتصل إلى دير دبوان.

لكن هذه الامتدادات الواسعة باتت مجرّد خريطة معلّقة على الحائط. اليوم، لا يتحرك أبناء برقة بمزارعيهم وأطفالهم ومواشيهم، إلا في أقل من 1،500 دونم فقط، أي ما لا يزيد عن 10% من مساحة القرية الكلية. أما بقية الأرض، كما يقول صايل كنعان، رئيس المجلس القروي، فهي مصنفة كمناطق "ج"، أي "ممنوعة عليهم ومحكومة بالمصادرة بحكم الواقع".

"الأرض إلنا... بس ما إلنا فيها موطئ قدم"؛ يقول كنعان لرصيف22، ويضيف: "حتى أراضينا اللي كنا نزرع فيها قمح وشعير، تم الاستيلاء عليها من قبل رعاة المستوطنين. الزيتون اللي كان مصدر رزقنا الرئيسي احترق أو اتقطع، يعني ما ضل لا محصول ولا مواسم".

مع تكررها بشكل مستمر، يقول أهالي برقة إن الحرائق التي يشعلها المستوطنون أصبحت أقرب إلى نمط ثابت من الهجمات الليلية من كونها حوادث منفصلة، والتي تصاعدت بقوة منذ السابع أكتوبر.

وبرغم أنّ برقة معروفة تاريخياً بزيتونها، بات هذا المشهد موجوداً في ذاكرة الأهالي أكثر مما هو في حقولهم؛ أشجار قُطعت، ومحاصيل أُحرقت، وأراضٍ مُنعوا من الوصول إليها.

ومع التوسع السكاني الطبيعي، تفاقمت أزمة الأرض. يوضح كنعان: "عدد السكان بزيد، بس الأرض ما بتكبر. بالعكس، عم تضيق أكتر، لدرجة إنو شباب القرية ما عندهم وين يبنوا. في منهم من تزوّج وسكن خارج القرية، مش بس لأنو مفيش تصاريح، بس كمان لأنه مفيش مساحة أصلاً".

في ظل هذه الظروف، لم تعد الهجرة الداخلية من القرية إلى القرى المجاورة خياراً حرّاً لشباب برقة، بل صارت "خروجاً قسرياً من دون رصاص"، كما يصف أحد الأهالي حركة السكان إلى خارج القرية.

"مش مطلوب منهم يركبوا باصات ترحيل"، يقول كنعان بمرارة، ويضيف: "التهجير بيصير بخنق الأرض، بمنع الرعي، بإغلاق الطرق، وبمنع البناء... ومع الوقت، القرية بتنزف شبابها وبتبقى خاوية إلا من الصبر".

الجيش حاضر... ولكن لحمايتهم

"الجيش بيوصل بعدهم، بس مش ليمنعهم... بييجي يحميهم"، يتابع صابر عسليّة حديثه إلى رصيف22 ، وقد اعتُقل شقيقه وابنه وأبناء عمومته خلال الفترة الماضية.

"أكتر من 30 شخص من شباب القرية انمسكوا، بس لأنهم حاولوا يدافعوا عن حالهم"، يضيف.

الإصابات أيضاً جزء ثابت من المشهد، سواء الإصابات بالرصاص، بالحجارة، أو بالاختناق. "الجيش ما بيفرّق، بيطلق النار لما الناس تحاول تطرد المعتدين"، يردف.

خسائر لا تعوّض ونداءات لا تلقى صدى

صابر، الذي خسر قرابة 900 ألف شيكل (نحو 265 ألف دولار)، من أملاكه بفعل الهجوم على المشطب ، لم يحصل إلا على 30 ألف شيكل كتعويض. يقول: "قدّمنا شكاوى للجدار والاستيطان، للصليب الأحمر، لكل حدا… لكن ما استطاعوا القيام به لا يكفي". وبرغم أنّ بعض الهيئات تحاول التواجد ميدانياً، إلا أنّ الواقع اليومي في برقة يتجاوز قدرة أي جهة على الاستجابة الفعلية.

تهجير ناعم وآثار قاسية

بالنسبة لصايل كنعان، ما يحدث في برقة خطة ممنهجة لدفع الناس إلى الرحيل. "حصار اقتصادي، وخوف دائم، وإغلاق طرق، ومنع بناء... شو ضايل للناس غير إنها تغادر؟". ويختم: "قرروا يحاصرونا من كل الجهات، يحرقوا ممتلكاتنا، يرهبونا ليل نهار... بس إحنا باقيين. الأرض إلنا، والذاكرة إلنا، والنار ما رح تطفينا". 

برقة ليست وحدها… الاستيطان يمتدّ والحياة تضيق

ما تواجهه برقة من خنق وتصعيد وحرائق ليس استثناءً، بل مرآة لواقع يتكرر يومياً في عشرات قرى الضفة الغربية. في شمال رام الله وحده، يعيش أهالي ترمسعيا، وسنجل، وكفر مالك، وأبو فلاح في قلقٍ دائم من الهجمات الليلية، ومخاوف يومية من أن تحترق حياتهم فجأةً، كما احترقت سيارات وأشجار ومنازل جيرانهم في برقة.

في آخر تقرير سنوي صادر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعام 2024، بدا أنّ الحرب لم تكن فقط في غزة، بل امتدت لتمنح الاستيطان في الضفة الغربية عاماً ذهبياً من التوسع. وفقاً للأرقام، وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس)، إلى نحو 770 ألف مستوطن، موزّعين على 180 مستوطنةً رسميةً و256 بؤرةً استيطانيةً، من بينها 138 بؤرةً رعويةً وزراعية.

فقد شهد العام 2024 وحده، ولادة 51 بؤرةً استيطانيةً جديدةً، 36 منها اتخذت شكل بؤر رعوية، وهي الصيغة التي تتيح السيطرة على المراعي والأراضي دون الحاجة إلى بنى تحتية، أو رخص، أو حتى قرار رسمي. الأخطر أنّ سلطات الاحتلال بدأت بالفعل بشرعنة 13 بؤرةً من هذه البؤر، في خطوة تمهّد لتحويلها إلى أحياء أو مستوطنات مستقلّة على غرار ما حدث في بؤر سابقة.

تحاصر برقة خمس بؤر استيطانية، والطريق الرئيسي إلى رام الله أغلق، والبديل يستغرق 40 دقيقة وقد يُغلق فجأة. مساحة القرية 15,000 دونم على الورق، لكن المتاح فعلياً أقل من 1,500 دونم، أي أقل من 10% من أراضيهم

لم يكن هذا التوسع نابعاً من فراغ، بل مدعوماً بسياسات مصادرة واسعة النطاق. فقد استولى الاحتلال خلال عام 2024، على أكثر من 46 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين عبر أدوات متعددة:

35 أمراً بوضع اليد على أراضٍ لإقامة مناطق عازلة حول المستوطنات، تنفيذاً لمقترح وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش.

5 أوامر استملاك صادرت 803 دونمات.

8 قرارات إعلان أراضي دولة طالت أكثر من 24 ألف دونم.

6 أوامر تعديل حدود محميات طبيعية أفضت إلى الاستيلاء على نحو 20 ألف دونم.

أما على مستوى الاعتداءات، فقد تجاوز العدد في عام واحد فقط حاجز 16،500 اعتداء، منها أكثر من 13،500 نفّذها جيش الاحتلال، ونحو 3،000 اعتداء مباشر من المستوطنين.

ربما نحتاج إلى جداول إضافية، ومزيد من التقارير، والمزيد من الأرقام لنوثّق ما يجري. وربما نحتاج إلى خريطة أوسع، وشهادات أكثر، وصور أقسى للحريق والدخان والدم. لكن في النهاية، كم عدد التقارير التي نحتاجها لنثبت أنّ النار تحرق وأنّ الأرض تُنتزع؟ وكم رقماً نُضيف إلى قوائم المصادرة والهدم والتهجير قبل أن يُسأل: ثم ماذا؟

ففي كل قرية مثل برقة، تتكرر المأساة بتواريخ وأسماء مختلفة، لكن الجوهر واحد: أرض تُسحب من تحت الأقدام، وسكّان يُجبرون على الرحيل، لا بقوة الطرد، بل بثقل الحياة المستحيلة. وحتى ذلك الحين، ستبقى هذه القرى تقاوم بالتجذّر، بالحكاية، وبالأمل المكسور الذي لا يموت.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image