خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأوغندي يوري موسيفيني، استضافته القاهرة في وقت سابق من الشهر الجاري، أقرّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، علناً وللمرة الأولى، بأنّ ملف المياه جزء من الضغوط على مصر لتحقيق أهداف أخرى، مشدداً على أنّ القاهرة لن توافق على إجراءات وصفها بالأحادية من قِبل إثيوبيا في حوض النيل، ولن تغضّ الطرف عن تهديد أمنها المائي.
جاء هذا التصريح/ الاعتراف الرسمي، بعد تكهنات وتسريبات عديدة بشأن وجود ضغوط ومساومات تُمارَس على القاهرة في ملفَّي المفاوضات بشأن قطاع غزّة من جهة، وبشأن ملف سدّ النهضة من جهة أخرى، والذي أعلنت أديس أبابا اكتمال بنائه والاستعداد لافتتاحه رسمياً في أيلول/ سبتمبر المقبل.
كثُرت التحليلات التي تفيد بأنّ واشنطن تساوم مصر لأجل قبول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى أراضيها مقابل دفع المفاوضات المتعثّرة مع إثيوبيا والتوصّل إلى اتفاق يضمن الحقوق المائية للقاهرة في فترة التشغيل، خصوصاً في فترات انخفاض منسوب المياه.
يقول الأكاديمي جمال سلامة، لرصيف22، إنّ الحكومة المصرية تفصل بين ملفَّي مياه النيل ومستقبل قطاع غزة ما بعد حرب الإبادة الإسرائيلية، ولا تضعهما في سلّة واحدة ولا تتفاوض عليهما معاً، كما تتعامل في كل ملف باعتباره أمناً قومياً ويمسّ ثوابتها التاريخية
ظهرت هذه الضغوط إلى العلن مع تكرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الحديث عن خطورة السدّ الإثيوبي على المصريين، ودأبه على محاولة إظهار قدراته التفاوضية كـ"رجل صفقات"، على حلّ هذه المشكلة بسرعة كبيرة بين البلدين، وهي تصريحات قوبلت بترحيب مبدئي من الرئيس المصري، حيث أعرب عن أمله في التوصّل إلى اتفاق عادل يحفظ مصالح جميع الأطراف المعنية بمياه النيل.
وفيما لم تقطع الإدارة الأمريكية خطوةً إلى الإمام إزاء هذا المسار، ولم تتم دعوة طرفَي الأزمة، مصر وإثيوبيا، إلى طاولة المفاوضات لتحريك المياه الراكدة بعد 14 عاماً لم تنجح فيها الجهود الدبلوماسية في التوصّل إلى اتفاق، كشفت تقارير إعلامية إسرائيلية أنّ واشنطن تكثّف ضغوطها على القاهرة لدفعها نحو قبول توطين أعداد من الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء، مقابل حوافز سياسية واقتصادية من بينها تدخّل أمريكي مباشر في أزمة سدّ النهضة.
وفق الإعلام الإسرائيلي، ألمحت واشنطن إلى استعدادها للعب دور حاسم في حلحلة الأزمة المستعصية بين القاهرة وأديس أبابا، مقابل ما وصفته بـ"تنازلات غير معلنة" في قضية تهجير الفلسطينيين من غزّة، وهو ما يترجم التصريحات الأخيرة للرئيس المصري عن الضغوط التي تتعرض لها بلاده في ملف المياه المصيري. التساؤل الملحّ الآن: كيف ستتصرّف القاهرة حيال هذه الضغوط الأمريكية؟ وهل لديها القدرة على الصمود طويلاً أمام "المغريات"؟
القاهرة ومعادلة سدّ النهضة Vs غزة
تفصل الحكومة المصرية بين ملفَّي مياه النيل ومستقبل قطاع غزة ما بعد حرب الإبادة الإسرائيلية الدائرة، ولا تضعهما في سلة واحدة ولا تتفاوض عليهما معاً، فالمساران ليسا متقاطعين في هذه الحالة، كما تتعامل في كل ملف على حدة باعتباره أمناً قومياً ويمسّ ثوابتها التاريخية؛ هذا ما يعتقده الدكتور جمال سلامة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة قناة السويس، مستبعداً أن تؤثِّر الضغوط الأمريكية التي تمارسها إدارة ترامب لقبول توطين فلسطينيين في شبه جزيرة سيناء، في تغيير الموقف المصري من ملف التهجير حتى مع محاولات مساومة القاهرة بتسوية ملف النزاع المائي وإيواء الفلسطينيين المهجّرين من غزة.
ودأبت القاهرة خلال أشهر الحرب الإسرائيلية التي أوشك عامها الثاني على الانتهاء، على إعلان رفضها القاطع لمحاولات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ووصف هذا المخطط علناً بأنه تصفية للقضية الفلسطينية. من بين أحدث هذه المواقف، تصريحات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، لشبكة "سي أن أن"، والتأكيد على أنّ تهجير الفلسطينيين خط أحمر بالنسبة لبلاده التي لن تشارك فيه ولن تسمح بحدوثه.
برغم ذلك، تقول هيئة البث الرسمية الإسرائيلية إنّ مسؤولين مصريين يخشون من عدم تخلّي الرئيس ترامب عن خطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وما زاد الشكوك اهتمامه المتزايد بالصراع العالق بين إثيوبيا ومصر على مياه نهر النيل.
"الضغوط لم تخرج إلى العلن حتى الآن، وقد تقتصر على تلميحات من الجانب الأمريكي بالتدخّل من أجل تسوية ملف سد النهضة مقابل إبداء مصر مرونة في ملف توطين الفلسطينيين. لكن حتى الآن، لم يُطرح بشكل رسمي وإن كانت إدارة ترامب لم تتراجع عن فكرة تهجير الفلسطينيين باعتبارها أحد الحلول التي تروّج لها"؛ هذا ما يراه السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، في حديثه إلى رصيف22، مشيراً إلى أنّ الضغوط تقابلها إغراءات لا تتوقف عند حلحلة نزاع سد النهضة فحسب، بل يتردد أيضاً أنّ من ضمن الإغراءات إسقاط الديون الخارجية على مصر حال وافقت على توطين الفلسطينيين في سيناء، مؤكداً أنها "ستكون مخاطرةً كبيرةً على أي نظام سياسي في مصر قبول مقترحات التهجير من قبل الإدارة الأمريكية".
ملف التهجير يراوح مكانه
من جهته، يقول القيادي في حركة فتح الفلسطينية الدكتور أيمن الرقب، لرصيف22، إنّ مخطط التهجير في غزة لم يهدأ يوماً، ولم يُغلق من جهة حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية ومن خلفها إدارة ترامب، وهو ما تعزّزه التحرّكات العسكرية على الأرض، حيث تُسرع تل أبيب من وتيرة هدم المنازل في أحياء مدينة غزة قبيل الاجتياح البرّي الكبير بهدف إفراغ محافظة غزة من سكانها وحشر سكان القطاع في رفح جنوبي القطاع.
"الإدارة الأمريكية تراهن على أنّ مصر لا تريد تصعيداً عسكرياً مع إسرائيل"... شيئاً فشيئاً، تتكشّف الضغوط الأمريكية على القاهرة لقبول خطة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء. المغريات تتزايد ولا تقف عند التدخّل الأمريكي في ملف سد النهضة بل تشمل إسقاط الديون الخارجية المصرية من بين أمور عدّة
كما يشدّد: "كلما استمرّت المخططات الميدانية لتهجير السكان قائمةً، فسوف يتبعها بالضرورة بحث إسرائيل وأمريكا عن بدائل لطرد السكان من القطاع صوب دول مجاورة".
ما يعزز تمسّك الولايات المتحدة بمخطط التهجير، في وجهة نظر أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس، الرقب، محاولة واشنطن والمبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، التهرّب من إبرام صفقة جزئية مع حركة "حماس" تعيد الأسرى الإسرائيليين في غزة مقابل هدنة تستمر 60 يوماً، والإصرار حتى الآن على "صفقة شاملة"، تشترط فيها تل أبيب تسليم جميع الأسرى ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية، وهو ما كان يواجَه برفض من "حماس"، ما يؤشِّر على وجود رغبة حقيقية في تسوية ملف التهجير. "كلما وجد الأمريكان والإسرائيليون فرصة لإثارة ملف التهجير سيتم فتحه"، يستدرك.
في السياق ذاته، يؤكد الباحث المتخصّص في الشأن الأمريكي، محمد المنشاوي، أن إدارة ترامب لا تزال مقتنعةً بمخطط التهجير الذي طُرح مراراً ضمن سياقات متشابكة كحلّ مستدام لشكل إدارة قطاع غزة، أبرزها التصوّر الذي فاجأ ترامب العالم به مبدياً رغبته في إدارة الولايات المتحدة قطاع غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية فيه وإعادة إعماره من جديد مع منح الفرصة لسكانه الأصليين بالمغادرة صوب دول الجوار مثل مصر والأردن، في ما عُرف بخطة "ريفيرا الشرق الأوسط".
"تهجير سكان غزة فكرة إسرائيلية يمينية بالأساس تنال استحسان إدارة ترامب وتسعى إلى تطبيقها، ولم تتخلَّ عنها سواء بالضغط على مصر أو الأردن لاستقبال أكبر عدد من الغزّيين. وتركِّز على مصر تحديداً بحكم أنها أقرب جغرافياً إلى قطاع غزة، وللاعتقاد بإمكانية استغلال الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد من جانب، وحدودها المشتعلة من جانب آخر"، يحلّل المنشاوي الوضع، لرصيف22، معبّراً عن اعتقاده بأنّ "الإدارة الأمريكية تراهن على أنّ مصر لا تريد تصعيداً عسكرياً مع إسرائيل في الوقت الحالي لذا من المرجح أن تواصل الضغط عليها".
لكن الرقب يؤكد أنّ مصر تدرك جيداً حجم الضغوط التي تُمارس عليها من قِبل إدارة ترامب، غير أنها تتحمّل الأعباء بشجاعة حتى الآن وتتخذ موقفاً حازماً يتمثّل في رفض التهجير، وهو ما يذهب إليه أيضاً أستاذ العلوم السياسية في جامعة قناة السويس، سلامة، بقوله إنّ الموقف المصري "لن يتزحزح قيد أنملة مهما كانت حجم الضغوط التي تمارس"، وهو ما تكشفه تصريحات كل من الرئيس المصري ووزير خارجيته في مناسبات مختلفة ولا توجد أي شواهد على وجود تغيير في هذا الموقف، وفق سلامة.
"الكرة الآن في ملعب القاهرة لإثبات أنها قادرة على صدّ هذه المخططات، ولتزن ما يمكن لواشنطن فعله وما لا تستطيع"، يعقّب المنشاوي، داعياً إلى عدم تضخيم دور الولايات المتحدة، فبرأيه "لا تمتلك واشنطن الكثير من أوراق الضغط في كل الملفات التي تشتبك معها ومن بينها سدّ النهضة"، مضيفاً: "ترامب يدرك جيداً أنّ السدّ اكتمل بناؤه لكنه يحاول أن يجد لنفسه دوراً إلى درجة أنه يصوِّر نفسه كأنما أجهض حرباً بين مصر وإثيوبيا برغم أنه هو من أطلق تصريحاً سابقاً مفاده أنّ مصر كان يجب أن تفجِّر سدّ النهضة".
رحلة البحث عن "نوبل" و"الجنة"
لا تنفصل إثارة ترامب الحديث عن ملف أزمة سدّ النهضة، في ولايته الثانية في البيت الأبيض، عن محاولاته تعزيز صورته كـ"صانع سلام" ورجل صفقات في ظل قناعته بأحقيته في نيل جائزة نوبل للسلام، واستكمالاً لما بدأه في ولايته الأولى حين قادت واشنطن المفاوضات بين دول حوض النيل لمحاولة تسوية النزاع حول تداعيات بناء سد النهضة، في ما عُرف بـ"مسار واشنطن"، حسب ما توضح مديرة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، أماني الطويل.
وكان البيت الأبيض قد أدرج نزاع سدّ النهضة ضمن ما أسماها بـ"الحروب الستة" التي نجح الرئيس الأمريكي في إخمادها خلال ولايتَيه الأولى والثانية، وذلك برغم أنّ القاهرة وأديس أبابا لم تتوصّلا إلى اتفاق بشأن فترتَي ملء وتشغيل السدّ، والأمور لا تزال عالقة. لكن البيت الأبيض عدّ أنّ تدخّل ترامب حال دون نشوب حرب بين البلدين بسبب النزاع المائي.
يرى السفير معصوم مرزوق أن الضغوط الأمريكية على القاهرة تقابلها إغراءات لا تتوقف عند حلحلة نزاع سد النهضة فحسب، بل يتردد أيضاً أنّ من ضمن الإغراءات إسقاط الديون الخارجية على مصر حال وافقت على توطين الفلسطينيين في سيناء، مؤكداً أنها "ستكون مخاطرةً كبيرةً على أي نظام سياسي في مصر قبول مقترحات التهجير من قبل الإدارة الأمريكية"
"ترامب يؤمن بقدراته التفاوضية على تسوية النزاعات الدولية عبر استخدام اسم وثقل الولايات المتحدة كقوة عظمى من جانب، وممارسة دبلوماسية الضغط من جانب آخر لتحقيق أهدافه. لكن هذه الضغوط لا تؤتي ثمارها طوال الوقت، ويتوقّف ذلك على وزن الطرف الآخر، وهو ما تجلّى في مواقفه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يتأثّر بتهديدات فرض العقوبات على بلاده، ويبدو أنه يفرض شروطه لإنهاء الحرب في أوكرانيا"، تضيف الطويل، لرصيف22.
وفي رأي الباحثة في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، فإنّ إفصاح الرئيس المصري عن الضغوط التي تُمارَس على مصر في ملف مياه النيل وربطها بتسوية ملفات أخرى، جاء للتأكيد على ثبات الموقف المصري في ملف المياه وعدم التفريط في الحقوق التاريخية لمصر ومحاولة تصدير القضية للرأي العام الداخلي والنخب، بما يكشف في مضمونه أسلوب تفكير نظام الحكم في مواجهة الضغوط، خصوصاً في القضايا الكبرى المتعلّقة بالأخطار الوجودية.
وتستبعد الطويل، احتمالات الصدام بين النظام المصري والإدارة الأمريكية في معالجة القضايا الراهنة استناداً إلى نهج الدبلوماسية المصرية الناعمة التي لا تميل بطبيعة الحال إلى الصدام والمقاطعة، والتي لا تتخلّى فيها عن الثوابت التي تحدّدها مثلما وضعت خطوطاً حمراء في ملف مياه النيل وملف تهجير الفلسطينيين من غزة.
ويقلّل أستاذ العلوم السياسية، سلامة، من قدرة الرئيس الأمريكي على حسم النزاع المائي بين مصر وإثيوبيا، لافتقاده أوراق الضغط على أديس أبابا لإجبارها على توقيع اتفاق مُلزِم يضمن الحقوق المائية لدول المصبّ، مدللاً على ذلك بفشل مسار واشنطن الذي رعاه ترامب في ولايته الأولى.
في المقابل، ترى الطويل أنّ الولايات المتحدة تمتلك أوراق ضغط على أديس أبابا تستطيع أن تستخدمها إذا اضطرت إلى ذلك، ومن بينها أوراق مسكوت عنها مثل الجالية الإثيوبية الضخمة في أمريكا، خصوصاً أنّ هذه الجالية تنحدر من قوميات معادية لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وقد تُستخدم لقلب نظام الحكم في أديس أبابا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.