شهدت محافظة السويداء السورية تحوّلاً دراماتيكياً نقلها من كونها منطقةً هامشيةً نسبياً لتصير مركز الأزمة السورية، حيث تجلّت فيها تعقيدات المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط نظام الأسد. فبعد سنوات من الانعزالية والهدوء، تلتها أحداث دامية في تموز/ يوليو 2025، شكّلت منعطفاً خطيراً ليس فقط في المسار الانتقالي السوري الهشّ، بل في مفهوم الدولة السورية ذاتها، ذلك أنّ ما بدأ كاشتباكات قبلية طائفية بين الدروز والبدو، سرعان ما تحوّل إلى مواجهة شاملة كشفت عن أزمات بنيوية عميقة: أزمة شرعية السلطة الانتقالية، أزمة الثقة بين المكونات، التدخل الإقليمي المباشر، وفشل نموذج الدولة المركزية.
مؤخراً، أعلنت الفصائل الدرزية عن انضوائها ضمن حرس الوطني، كمؤسسة عسكرية مرتبطة بالمرجعية الروحية للشيخ حكمت الهجري. قبلها طالبت النقابات المهنية بـ"الحماية الدولية وحق تقرير المصير"، ما يعكس انهياراً كاملاً للثقة بين المجتمع المحلي وسلطة دمشق. وقبلهما، أعلنت اللجنة القانونية العليا في المحافظة تشكيل إدارة مدنية مؤقتة. يأتي ذلك بعد فشل الحكومة الانتقالية في تقديم نموذج إدماج مقبول، واتّباع نهج أحادي همّش النخب المحلية وعمّق من هوة انعدام الثقة، إلى جانب الانتهاكات المرتكبة من قبل قواتها في السويداء، بعد دخولها إلى المحافظة في 13 تموز/ يوليو الماضي، لفضّ الاشتباكات القائمة حينها بين البدو والفصائل الدرزية. وبدلاً من الحلّ السياسي، اختارت السلطة الحل الأمني والعسكري لمحاولة إخضاع السويداء، مستخدمةً التوترات المحلية كذريعة للتدخل، ما شكّل خطأ قاتلاً وانتحاراً سياسياً.
التحدي الآن لم يعد محصوراً في السويداء فقط، بل يتعداها إلى ضرورة منع هذا التفتت في مناطق أخرى من الجغرافيا السورية، إذ إنّ أزمة السويداء صورة مصغرة عن مستقبل سوريا إذا استمر النهج القائم على الإقصاء والتحريض والعسكرة
في المقابل، وعبر الاستعانة بالقوى الخارجية وطلب التدخل الإسرائيلي بشكل علني، أعطى الشيخ حكمت الهجري ذريعةً للقمع، ولتصعيد غير محسوب، دون إدراك مخاطر الاستعانة بإسرائيل على المصلحة الوطنية. وقبلها، وفي مناسبات متكررة، شنّ الهجري هجوماً كلامياً على الحكومة في دمشق، بجانب نقض الكثير من التوافقات التي تمت بين دمشق والقوى المدنية والعسكرية والدينية الأخرى في المحافظة. ووفقاً لإبراهيم الأصيل في المجلس الأطلسي، فإنّ صعود مظهر "دولة داخل الدولة"، وبروز الشيخ الهجري كـ"بطل" في أعين كثير من الدروز بعد "حمايته" الإسرائيلية يمثلان سابقةً خطيرةً، ذلك أنّ الزعيم المحلّي لم يعد بحاجة إلى شرعية من دمشق، بل يمكنه الحصول على الدعم من قوى إقليمية معادية. هذا يقوّض مفهوم السيادة الوطنية من جذوره.
جاء التدخل العسكري الإسرائيلي، من خلال ضربات ضد مواقع الجيش السوري في السويداء ودمشق، تحت شعار "حماية الدروز"، فيما هو حقيقةً جزء من إستراتيجية أوسع لإبقاء السلطة في سوريا هشّةً ومجزّأةً، وخلق واقع جديد يضمن لها منطقةً عازلةً ونفوذاً في الجنوب، وكل ذلك تحت الشعار نفسه، وصولاً إلى مباحثات بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، برعاية أمريكية لإنشاء "ممر إنساني"، لإدخال إسرائيل المساعدات إلى السويداء.
هذه الصفقة إن تمّت تعترف ضمناً بسيادة إسرائيل على الأراضي السورية عبر السماح لها بإنشاء ممرات، وهو ما يقوّض بدوره مفهوم السيادة السورية ويعزز نموذج "سوريا الأرخبيل" وتتقاسم القوى الإقليمية فيها النفوذ. كما أنّ قبول دمشق بهذه الصفقة، برغم تحفظها على تهريب السلاح، يظهر ضعفها ويجعلها طرفاً تابعاً في لعبة إقليمية كبرى، بدلاً من كونها حكومةً ذات سيادة. كما يُمثّل هذا الممر بوابةً للتطبيع التدريجي، ويرسخ التقسيم الطائفي، ويجعل إسرائيل راعيةً وحاميةً لأقليات سورية، ما يفكك سوريا إلى كانتونات طائفية تحت نفوذ إقليمي.
مع ذلك، وإن كان غضب أهل السويداء مبرراً، فإنّ المطالبة بالانفصال الفوري شكّل نقطةً سوداء بحق المحافظة، مع افتقارها إلى خطة عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وإمكانية التعرّض لخطر العزلة الاقتصادية والأمنية التامة. لكن هنا يجب التنبيه إلى أنّ التحدي الآن لم يعد محصوراً في السويداء فقط، بل يتعداها إلى ضرورة منع هذا التفتت في مناطق أخرى من الجغرافيا السورية، إذ إنّ أزمة السويداء صورة مصغرة عن مستقبل سوريا إذا استمر النهج القائم على الإقصاء والتحريض والعسكرة. لذا، يجب بدء العمل على صيغة جديدة للعيش المشترك، تعترف بتنوع سوريا بدلاً من تجاهله، ضمن صيغة تقوم على مواطنة كاملة، وليس على انتماء طائفي، حسب ياسين الحاج صالح.
مستقبل سوريا يتوقف على قدرة جميع الأطراف على التعلّم من دروس السويداء المأساوية قبل فوات الأوان، والانتقال من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة والتعددية، إذ إنّ مستقبل سوريا لم يعد يُكتب في قصر الرئاسة في دمشق، ولا في غرف العمليات في واشنطن أو موسكو وغيرهما من العواصم الإقليمية، بل في القدرة على بناء عقد اجتماعي جديد يعترف بأنّ سوريا متعددة، وأنّ قوتها في تنوعها
عود على بدء، فإنّ الاستمرار في حصار المحافظة بغية "إخضاعها"، سيدمّر أي أمل في مصالحة سورية، وقد يؤدي إلى انفجار يتحوّل إلى حرب أهلية طائفية تتجاوز السويداء لتُشعل الجنوب السوري بأكمله، ويكون شرارةً تعيد إطلاق شلال من العنف والتدخلات الإقليمية، بما قد يؤدي إلى تقسيم البلاد، وهو مصير يحذّر منه الجميع، بينما تسير سياسات الطرفين الحالية نحو تحقيقه خطوةً خطوة. فالسويداء اليوم تقف على الحافة، وسوريا كلها على المحك.
أزمة السويداء ليست مجرد فصل آخر من فصول الحرب السورية الأليمة، بل هي جرس إنذار لما قد تؤول إليه الأوضاع عندما تتحول الدولة إلى أداة قمع ضد شعبها، وعندما يُترك المجال للخطاب الطائفي التحريضي أن يحلّ محل السياسة، وعندما يختطف الهجري المجتمع الدرزي لحسابات ومواقف شخصية، وعندما يستقوي بالعدو التاريخي لسوريا، إسرائيل، في مواجهة حكومة بلاده. ولكون المطالبة بالاستفتاء صيغةً متطرفةً ناتجةً عن اليأس، فإنّ البديل الواقعي هو العمل نحو صيغة حكم لامركزي حقيقي ضمن سوريا الموحدة، يمنح المحافظات صلاحيات أوسع في إدارة شؤونها الأمنية والاقتصادية، ويحفظ حقوق جميع المكونات، بجانب اعتراف دمشق بأنّ النموذج المركزي الشديد قد فشل، ولعلّه البديل الوحيد الذي قد يسحب البساط من تحت مطالب الانفصال.
ختاماً، فإنّ مستقبل سوريا يتوقف على قدرة جميع الأطراف على التعلّم من دروس السويداء المأساوية قبل فوات الأوان، والانتقال من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة والتعددية، إذ إنّ مستقبل سوريا لم يعد يُكتب في قصر الرئاسة في دمشق، ولا في غرف العمليات في واشنطن أو موسكو وغيرهما من العواصم الإقليمية، بل في القدرة على بناء عقد اجتماعي جديد يعترف بأنّ سوريا متعددة، وأنّ قوتها في تنوعها، وأنّ وحدتها لن تتحقق بالقوة، بل بالاعتراف الطوعي بهذا التعدد وإدارته بعدالة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.