مدينة التماسيح

مدينة التماسيح

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 7 أغسطس 202514 دقيقة للقراءة

يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.


في ذلك اليوم، شعرت برغبة عنيفة في العودة إلى المنزل مشياً على قدمَيّ. لم أستأذن مديري وخرجت. كانت المسافة بين فندق الوكالة وبيتي نحو نصف ساعة. شعرت بالمكان كما لم أشعر به من قبل. كدت أبكي وأنا أسير. هذه المنازل، وهذه الطرق، وهذه الحمير والقطط والجواميس، كلها تشهد أيامها الأخيرة دون أن تدري. كل هذه الأرض ستغمرها المياه، ليعود التاريخ إلى نقطة سحيقة. في رحلة العودة، شعرت لأول مرة بانحسار الحماسة التي ظلّت ملازمةً لي منذ التحاقي بالمدرسة والتخرّج والعمل. شعرت بالعبث. ما قيمة كل هذا؟ لماذا نعيد الماضي أصلاً؟ وعلى حساب من؟ لكن ذاك اليوم، وتلك الأحداث، لم تكن وليدة لحظتها، بل سبقتهما أعوام تكدّست فيها الوقائع، حجراً فوق حجر، ويوماً إثر يوم، وما بدأ مبشّراً، سرعان ما انقلب إلى كابوس. ولكي نفهم كيف بدأ كل شيء، علينا أن نعود بالزمن أربعة أعوام إلى الوراء، وبالمكان إلى الفيوم... بلدتي المنكوبة.

محافظتي المملّة التي قضيت فيها عمري، أصبحت محل تركيز العالم. خيال لم يكن ليزورني في منامي. تغيّرت القرى التي تطلّ على ساحل بحيرة قارون بدايةً من عزبة صالح شماطة في الشمال، وحتى عزبة وصفي أباظة في الجنوب، مروراً بكل القرى والعزب الواقعة على الصف الأول المطلّ على البحيرة، أو "بحيرة موريس" كما أسموها. يحكي لي أبي عن ماضٍ كانت تزار فيه الآثار والمتاحف بتذكرة، كان يتجول فيها هو وأصدقاؤه إلى أن يملّوا. يتحسّر على ماضٍ كانت فيه الآثار متروكةً في صمت. أنا لا أعرف هذا الماضي إلا من كتب المدرسة، ولكنّي لم أشاهده في عالمي. عام 2030، عام مولدي، كان هو عام تدويل الآثار، كل آثار العالم أُدرجت تحت إدارة موحدة تقودها وكالة إعلام أمريكية متعددة الأذرع تُدعى "JoyVerse"، وكالة تدير وتستثمر وتربح، ثم تعيد توزيع الأرباح بنسب على الدول التي خرجت منها تلك الآثار. هكذا بدأ عصر استثمار الآثار.

محافظتي المملّة التي قضيت فيها عمري، أصبحت محل تركيز العالم. خيال لم يكن ليزورني في منامي. تغيّرت القرى التي تطلّ على ساحل بحيرة قارون بدايةً من عزبة صالح شماطة في الشمال، وحتى عزبة وصفي أباظة في الجنوب، مروراً بكل القرى والعزب الواقعة على الصف الأول المطلّ على البحيرة

انتهى العالم التي تتبع فيه الآثار سيادة بلدانها. أُقرّ المشروع العالمي الجديد بموافقة قادة الدول المالكة للآثار، وأنشأوا كياناً مشتركاً أطلقوا عليه "أخوية التاريخ". استيقظت الشعوب فوجدت قادتها يوقّعون على الاتفاق، بلا استفتاء، وبلا جدل. صار الأمر واقعاً، وحتى الاعتراضات بدت باهتةً؛ أكاديميون معزولون، وهواة تاريخ يتحدثون بمصطلحات لم يعد أحد يعبأ بها، أو يفهمها أصلاً. لقد أصبحت إرادة الأفراد والجماعات رخوةً، كالمعكرونة المسلوقة. ماتت الشعوب منذ زمن طويل.

نصّ مشروع الاتفاق على أنّ الآثار سيتم حجبها عن الجمهور خمس سنوات كاملة. لم يكن الأمر مجرد صيانة، أو تأمين، أو تغيير إضاءة، الأمر أكبر من ذلك، سيتم النظر إلى الآثار لأول مرة بشكل مختلف كلياً. في الحفل الأسطوري الذي دشّن المشروع، وقُدّم من أمام معبد تشيتشن إيتزا في المكسيك أحد رموز حضارة المايا العتيقة، وقف مدير المشروع ليقول بفخر: "إن هذا المشروع لن يعيد للعالم الآثار فقط، بل سيبعث العالم القديم نفسه. سنشاهد الحضارات التي اندثرت، المدن التي غابت ستنبعث أمام أعيننا كما لم تُرَ من قبل". خلفه، كانت الشاشة تستعرض تصميمات افتراضيةً لحضارات مفقودة: المايا في المكسيك، الأنغكور في كمبوديا، بابل، طروادة، قنوات الرومان، ممالك النوبة، وجزيرة القيامة... ظلّ يسرد المدن التي وصلت إلى خمسة وعشرين موقعاً أثرياً مدمّراً نسبياً أو كلياً. بحيرة موريس موجودة منذ عصور ما قبل التاريخ، لكنهم يستهدفون إعادة إحياء التعديلات التي أُدخلت عليها خلال العصور الوسطى من الحقبة الفرعونية، وقصر التيه الذي شيّده أمنمحات الثالث خلال الحقبة نفسها.

انتهى العالم التي تتبع فيه الآثار سيادة بلدانها. أُقرّ المشروع العالمي الجديد بموافقة قادة الدول المالكة للآثار، وأنشأوا كياناً مشتركاً أطلقوا عليه "أخوية التاريخ".

سيُشارك أثريون من مختلف أنحاء العالم في إعادة إنتاج الماضي، باستخدام ذكاء اصطناعي فائق القوة. سيتم الاعتماد عليه أولاً لتشكيل التصوّرات، ثم يُعاد بناء المدن الأثرية على أساسها من جديد. المصدر الرئيسي للمدن القديمة كتاب التاريخ لهيرودوت، وكانت الفيوم من ضمنها. كان نصيب الفيوم من المشروع استعادة بحيرة موريس، والتي هي بحيرة قارون بشكلها القديم، وعلى شاطئها قصر التيه الذي ذكره هيرودوت أيضاً في كتابه. نصّ الاتفاق كذلك على إنشاء مدارس ثانوية متخصصة في المدن التي سيُقام فيها المشروع، لتكون نواةً تمدّه بفنيين مدرّبين وفقاً لمعاييره الدقيقة، وتضمن استمراريته وتطوره. صادفت تلك الأحداث الكبيرة بلوغي الخامسة عشرة في 2045.

قدّم أبي اوراقي في تلك المدرسة التي افتتحت في الشطّ المقابل لبحيرة قارون في الناحية الصحراوية، قريبة للغاية من منزلي. وافق أبي لأنها قريبة من البيت، ولأنها لا تكلّف مثل الثانوية التقليدية، ولأنها تقدّم فرصة إنهاء التعليم دون المرور بالجامعة. وأنا في المقابل، كنت في قمة سعادتي لشغفي بالخيال الذي وجدته في قصص التاريخ. كنت صغيرةً وحالمةً وأكره الرياضيات. منحني التاريخ متعةً تعويضيةً، وفجأةً سنحت لي فرصة إدماجه في الدراسة المملّة. كان نظام المدرسة مبتكراً؛ بعد العام الأول، ينقسم الطلاب على ثلاثة تخصصات، الأول: الدراسة النظرية لكتب المؤرخين وفي مقدمتهم هيرودوت الذي كان مقرراً في كل المدارس، ثم المؤرخين المحليين الذين تم اختيارهم حسب الحضارة المراد دراستها. في حالة الفيوم تخصصت، ودرست مؤرخين محليين مثل إبراهيم رمزي، ابن الفيوم المولود عام 1897، والذي كرّس جهده لتأريخها. أما القسم الثاني، فكان أكثر تقنيةً: "يتعلم الطلاب في القسم الثاني كيفية تحويل المعرفة النظرية التي نستخرجها من النصوص والدراسات إلى أكواد وبرمجيات، تُستخدم لإنتاج نماذج هندسية تجسد التصورات الأولية للتفاصيل المعمارية الخاصة بتلك الآثار". أما القسم الثالث، فكان مخصصاً لدراسة مواد وأساليب البناء القديمة، وكيفية إدماجها في برامج متقدمة تُشكّل نواة برمجيات أكثر تعقيداً، مهمتها تنفيذ المخططات النهائية للمشاريع المختارة. لم أكن أفهم كثيراً من الجوانب التقنية، ولهذا بدا لي أنّ قسمي هو الأفضل في المدرسة. وهكذا، انقسمت المدرسة بين من يقرأون، ومن يبرمجون.

كان فترة الدراسة أكبر من قدرتي على استيعابها؛ سنوات السعادة الصافية. قضيت أفضل ثلاث سنوات في حياتي أقرأ وأقارن بين الكتب. قرأنا نصوصاً من كل أصقاع الأرض، وركّزنا تحديداً على آثار الأسرة الثانية عشرة في الفيوم، وتحديداً بحيرة موريس وقصر التيه. "موريس" كان اسم أمنمحات الثالث، وفي عهده شُيّدت آثار عديدة. في تلك الحقبة، عبد أهل الفيوم "سوبيك"، ورأسه رأس تمساح، وقدّسوا التماسيح وحنّطوها، حتى أصبحت جزءاً من طقوسهم. يقول هيرودوت إنّ قصر التيه كان يضمّ ثلاثة آلاف غرفة: ألف وخمسمئة فوق الأرض، ومثلها تحتها. كنّا ندرس التصوّرات التي ينجزها الفنيّون ضمن المشروع، وهم يُعيدون بناء قصرٍ ضخمٍ يطلّ على بحيرة قارون، بالوصف نفسه: قصر بمساحة عملاقة يطلّ على بحيرة قارون، ألف وخمسمئة غرفة فارغة على السطح، وأخرى تحت الأرض مخصّصة لتحنيط التماسيح. القصر كما كان منذ أربعة آلاف عام. كان المكان غريباً على الطلاب الآخرين، حتى على أولئك القادمين من محافظة الفيوم نفسها. لكن بالنسبة لي، لم يكن غريباً تماماً. هذه الضفة الصحراوية من البحيرة هي ما يطلّ عليه منزلي منذ طفولتي، وهأنذا أزورها اليوم، لا كجارة، بل كمتخصصة. كنا نقيم في المدرسة خمسة أيام، ثم نعود إلى بيوتنا ليومين. وعندما أعود إلى قريتي، كانت نظرات الناس تحمل احتراماً غريباً، وأسئلةً لا تنتهي: ماذا يحدث خلف الستارة العملاقة التي تُخفي الضفة الأخرى من البحيرة؟ وكنت أجيبهم بثقة: "الفيوم مقبلة على مستقبل لم يشهده أيٌّ من الأجيال السابقة".

تخرّجت من المدرسة وتم تعييني في الوكالة الأمريكية كموظفة تخضع لقوانين ولاية نيويورك، براتب مغرٍ بالدولار. فشلت خطة أبي في تزويجي لأنني ببساطة تجاوزت التوقعات. يتلخص عملي في ما درسته؛ التنقيب داخل مجلدات عملاقة عن تفاصيل جديدة تتعلق ببحيرة موريس القديمة، وقصر التيه. يقع مقرّ عملي في فندق كبير يطلّ على بحيره قارون من ناحية القرى. شهدت ماضيه عندما كان فندقاً سياحياً، ولكن بعد المشروع تم تحويله إلى مبنى عمل. في المرحلة التي تم تعييني فيها، كان قصر التيه قد تم بناء أساساته بالكامل. هو قصر مهيب، غريب، بغرف فارغة مبنية بأحجار كبيرة، توصل إلى معابر تنفرج على غرف أخرى، كأنها شقق بينها أنفاق فوق الأرض. حوائطه مليئة بالرسوم الملوّنة لآلهة برؤوس تماسيح، وتماسيح، أما الأسقف، فكانت تحتوي على ثقوب يدخل منها الضوء على هيئة نقاط متتالية، تشبه النجوم. بعد نهاية الغرف، كان هناك باب يؤدي إلى الأنفاق السفلية، حيث تقع غرف التماسيح. موسيقى استشراقية يتردد صداها في المكان دون توقف.

صمت أبي كعادته أمام الأحداث الكبيرة، لم يعقّب على الموضوع، كان مهتماً بألا أحزن وألا أبكي. تعجبت منه: بيتك وبيت أجدادك سيُسحق لأنه في المكان الخطأ، وهذا ردّ فعلك؟ بحثت في سجلّات المشروع عن أيّ وثيقة تشير إلى تعويضات، إلى خطة إعادة توطين، إلى مصير هؤلاء الذين ستبتلعهم المياه القادمة، ولكن لم أجد إلا عبارات مموّهةً عن "إعادة توزيع السكان"

ذكر هيرودوت أنّ مساحة البحيرة الأصلية 666 كيلومتراً. رقم مجنون، لأنّ ما تبقّى من البحيرة لا يتجاوز 214 كيلومتراً. منذ البداية، شككنا في إمكانية تنفيذ المشروع كما كُتب، وكلّ الفترة السابقة كانت مخصصةً للعمل على القصر فقط، لا البحيرة. وفي يوم عادي، وصلنا "إيميل" من مكتب نيويورك بمخططات للبحيرة؛ سيتم ضمّ ما يقارب من 450 كيلومتراً إضافيةً من الناحية الزراعية للبحيرة، ما يعني مسح كل القرى والعزب على ضفتها وحتى أجزاء من مركز سنورس ومحيط طامية، ما يعني 75% من مساحة الفيوم الكلية. صُدمت لأنّ منزل عائلتي يقع في صدارة هذه المساحة. كان الأمر سرّياً داخل الوكالة، ولم يتم الإعلان عنه علناً لتجنّب إثارة قلق الأهالي. وقد حذّرنا البريد من العواقب القانونية لإفشاء أسرار العمل. كنت الوحيدة التي تعيش فعلياً في المنطقة، وكان الأمر يخصّني بشكل مباشر. أما بقية الزملاء، فلم تكن بيوتهم مهددةً، لذلك لم يهتموا كثيراً. 

وصلت إلى البيت وعيني "مُرَغْرَغَة"، وقلبي هشّ. كان أبي يجلس في "البرندة" الخارجية يشرب النارجيلة من جوزة خشبية كعادته، تحرّك حاجباه فرحاً بمجيئي المفاجئ، ولكن الحاجب هبط إلى الأسفل بمجرد أن رأى عينيّ. انفجرتُ بالبكاء وارتميت بين ذراعيه وهو يحاول تهدئتي دون جدوى. بعدما استنزفت طاقة الأسى، قلت له: "هيدمروا بيتنا ومش هو بس، عزبتنا واللي جنبها وكل اللي حوالين البحيرة عشان يوسّعوها زي ما كانت".

صمت أبي كعادته أمام الأحداث الكبيرة، لم يعقّب على الموضوع، كان مهتماً بألا أحزن وألا أبكي. تعجبت منه: بيتك وبيت أجدادك سيُسحق لأنه في المكان الخطأ، وهذا ردّ فعلك؟ تركته وتركت المنزل ومشيت. عدت إلى الوكالة، تعجّب مديري من عينيّ المنتفختين ورحيلي دون استئذان، لم أُعِره اهتماماً وتمتمت بجملة لا أتذكّرها وجلست إلى حاسوبي أبحث عن شيء محدد: عندما يُعاد بناء شيء بهذه الضخامة، ما هو الثمن؟ ماذا عمن يعيشون في "الآن" لا في "الماضي"؟ لماذا يُضحّى بنا لنُعيد حلماً يخصّ زمناً لم يعد موجوداً؟ بحثت في سجلّات المشروع عن أيّ وثيقة تشير إلى تعويضات، إلى خطة إعادة توطين، إلى مصير هؤلاء الذين ستبتلعهم المياه القادمة، ولكن لم أجد إلا عبارات مموّهةً عن "إعادة توزيع السكان"، وعن "تحقيق الانسجام البيئي مع التصميم التاريخي"، وعن "التفريغ السلمي للمناطق المحيطة".

لساعات وساعات، جلست أمام الحاسوب، أتنقل بين الصور ثلاثية الأبعاد لقصر التيه، ومجسمات التماسيح المقدسة وهي تحوم حول الكهنة، وأمام هذه الجماليات الزائفة، شعرت بالاشمئزاز حتى أنّي تقيأت. ما الذي يجعل كل هذا مقبولاً؟ أن نُبهر العالم، ونُحطّم العالم الصغير الذي نعرفه؟ أن يصبح منزلنا مجرد رقم في تقرير؟ أُجهدت وعُدت إلى المنزل، كانت عائلتي في انتظاري، ولكني لم أحدّث أحداً، أخبرتهم بأنني مُجهَدة وأريد النوم.

سيُشارك أثريون من مختلف أنحاء العالم في إعادة إنتاج الماضي، باستخدام ذكاء اصطناعي فائق القوة. سيتم الاعتماد عليه أولاً لتشكيل التصوّرات، ثم يُعاد بناء المدن الأثرية على أساسها من جديد

في صباح اليوم التالي، ذهبت إلى العمل، صوّرتُ الإيميل السرّي بهاتفي، وأنا أعلم أنّ الكاميرا فوقي ترصدني. لن أعود مرةً أخرى على أي حال. ركبت عربةً من أمام فندق الوكالة أوصلتني إلى الموقف، وهناك دخلت مكتبةً وصوّرت الإيميل مئة نسخة، خرجت وبدأت بتوزيعها على المارة. لم أكن أخطب، ولم أكن أحتجّ، فقط أوزّع الأوراق. وهكذا قضيت اليوم في الانتقال بين مواقف السيارات في كل قرى ضفة بحيرة قارون، أوزّع الأوراق ولا أتحدث. يجب عليهم هم أن يتحدثوا، هم أصحاب الأرض. فلتسقط بحيرة موريس، وقصر التيه الذي ستولد فيه التماسيح الجديدة وتُحنّط فيه ذكرياتنا.

خلال أيام، بدأت مجموعات صغيرة من أبناء القرى المُطلّة على البحيرة بالتجمّع أمام الفندق. تظاهروا، ورشقوا النوافذ الزجاجية بالحجارة. جاءت الشرطة وأبعدتهم إلى الجهة الأخرى من الرصيف. اعتصم السكان على الطريق السياحي. صباحات صاخبة، ومساءات صامتة على ضوء الشموع. كانوا يحكون ما يعرفونه، يتبادلون قصصاً لم يكتبها لا هيرودوت ولا رمزي، بل قصصهم هم: عن الطرقات الطينية التي تعلق فيها الأقدام، عن مواسم المطر التي تجرف كل شيء، عن زرائب البهائم، عن الفئران التي تقرض حبال الزرع، عن الثعابين التي تظهر قرب المصارف، وعن الشجارات التي تنشب بين العزب لأسباب صغيرة وتنتهي بجثث في الترعة… لم تكن كلها ذكريات سعيدةً، مثل الحياة.

في إحدى الليالي قال لي أخي إنّ الشيخ فايز، وهو رجل مسنّ من عزبة عبد المجيد مفتاح، قال: "حتى لو رجّعوا التماسيح، مش هتلاقي حد يعبدها".

لم أكن هناك في تلك الأثناء. تم قبولي في منحة لدراسة الآثار في جامعة "لا سابينزا" في روما. لم أبقَ لأسمع صدى حركتي المتهورة وهي تتردد في طرقات القرى والعزب المنكوبة. تركت كل شيء خلفي وسافرت، كنت مهددةً بالسجن لخرقي العقد الذي يجمعني بالوكالة، ويستند إلى القانون الأمريكي. هكذا هددني محامي الوكالة عبر الهاتف، وساومني لأعتذر وأهدّئ الأهالي، وإلا سيضطر إلى رفع دعوى قضائية ضدي ستحكم بتعويض لن أستطيع دفعه بالطبع. كان إيميل القبول من الجامعة مصادفةً سعيدة. هربت في جنح الليل مثل اللصوص.

كانت المرة الأولى التي أستقلّ فيها طائرةً، وكانت المرة الأولى التي أبتعد فيها عن قريتي بهذا القدر. عند إقلاع الطائرة، لم أشعر بمعدتي، وكأنها اختفت، بينما أراقب مصر وهي تتقلص وتتلاشى تحت أجنحة الطائرة، ويندفع الأدرينالين بعنف في دمي. أعطوا لأبي نصف مليون جنيه، صفقة صامتة، ورقة نقدية بدلاً من جدران الذاكرة. اشترى بيتاً في عزبة أخرى، حيث يقيم أعمامي. لم يشكُ ولم يغضب، كعادته، حمل نارجيلته الخشبية وجلس في شرفة جديدة يراقب الصباح. أما قريتي، فقد غرقت تحت الماء. ذهبت الطرقات، والنخيل، والحكايات. فهمت للمرة الأولى، عملياً، كيف يندثر الماضي. امّحت العزبة وبيوتها، ولم تبقَ سوى علامات يعرفها الغارقون: زاوية سور، حجر مدفون، ظل شجرة في قاع البحيرة الجديدة. وهكذا، ضاعت بحيرة قارون، وحلّت محلها بحيرة موريس، وقصر التيه الذي يعلوه تمثال ذهبي عملاق لإله برأس تمساح "سوبيك". ولم يعد أحد يتذكر الفرق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image