هُنا الشرق… نحن الآن في العام 2038

هُنا الشرق… نحن الآن في العام 2038

مدونة

الخميس 17 يوليو 20256 دقائق للقراءة

يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.


في دمشق، لا حاجة إلى إغلاق النوافذ قبل النوم. الهواء يعرف طريقه إلى الغرف دون أن يعتذر، وصوت امرأة تغنّي في الحي لا يُخفَت، بل يُصغى إليه بمحبة.

العابرون عند جسر الرئيس يضحكون، ولا يهمسون. والباعة يصرخون بحناجر مرتاحة، لا مرتبكة.

في سنة 2038، لا يسأل الناس: من يحكم؟ بل يسألون: من يُلهم؟

المدينة تمشي بخفّة، كما لو أنها غسلت جلدها بماء اليقين. 

في الشوارع، لا أحد يختبئ خلف عينيه. الوجوه مكشوفة، لا بمعناها الأمني، بل بمعناها البشري: أن ترى وأن تُرى.

يكتب الأولاد على جدران مدارسهم دون أن يُمحى الحبر، ويرفع المراهقون صورهم وهم يرقصون على أسطح الأبنية، دون أن يختفوا بعدها. 

الخوف لم يعُد مادةً سائلةً في الهواء. لا يتسلل إلى الممرات، لا يجلس على المقاعد الخلفية، ولا يتمدد في نظرات الأمهات.

صار له اسمٌ علمي، يُدرَّس.

يكتب عنه الطلبة في أبحاثهم: الخوف كآلية دفاع في الأنظمة المغلقة، ثم يخرجون إلى الساحات ليختبروا ما تعلّموه، لا ليهربوا منه. 

في فرع الخطيب، يصطفّ الزوّار في ممرّ تحوّل إلى معرض.

هناك زنزانة زجاجية، تُعرض كقطعة في متحف.

الدليل يشرح: كان الإنسان هنا يصمت.

ولا أحد يسأله: "ممن؟". 

في السويداء، التفاح ينمو على أطراف الطريق، بدلاً من الكتل الإسمنتية. عند كل شجرة، لوحة صغيرة كتب عليها طفل: هذا الأحمر يُؤكل. في دير الزور، المقهى المطلّ على الفرات امتلأ بزائرين يناقشون كتاباً جديداً عن الذكريات الجماعية.

في الجامعات، يُدرَّس الخوف بجانب الأدب المقارن وعلم النفس السياسي.

وفي المسرح، يُؤدى مشخّصاً، لا ككائن مقدّس بل كقناع تم خلعه.

في مسرحية جديدة على خشبة دار الأوبرا، يصعد شابّ إلى الخشبة ويقول بصوتٍ رخيم: لم يكن الخوف قدراً، بل وظيفة. والآن... تمّت إحالته على التقاعد. 

في حلب، توقظك قطرات المطر على الزجاج.

لا حاجة إلى فحص الأخبار أولاً.

تفتح الراديو، فتسمع صوت مَن عاد، لا صوت مَن غاب.

وفي زوايا المدينة، مقاهٍ صغيرة تعزف الجاز، يكتب فيها العشّاق رسائلهم بخط اليد، دون أن يمرّ طيف الخوف بين الحرف والحرف. 

في السويداء، التفاح ينمو على أطراف الطريق، بدلاً من الكتل الإسمنتية.

عند كل شجرة، لوحة صغيرة كتب عليها طفل: هذا الأحمر يُؤكل. 

في دير الزور، المقهى المطلّ على الفرات امتلأ بزائرين يناقشون كتاباً جديداً عن الذكريات الجماعية.

الماء لا يتردد في الجريان، لا يتلوّن، ولا يخاف أن يُمسّ.

في درعا، الجدران لا تكتب أسماء الموتى، بل تُعلّق الأمنيات المؤجلة بحروف خضراء.

يخرج الأطفال من المدارس وهم يغنّون لا وهم يهتفون.

"الحرية" هناك لا تُقال، بل تُمارَس، تُعاش، تُلبَس كأنها قميص أبيض نظيف في أول الربيع. 

وفي اللاذقية، البحر يدرّس فلسفة الطمأنينة.

لا بوارج في الأفق، فقط شُرفات تُطلّ على الزرقة كأنها تُدرّب البشر على الصمت الجميل.

الصيادون هناك لا يُنزلون شباكهم لاصطياد السمك، بل ليستمعوا إلى ما تقوله الأعماق… ويضحكون. 

في الشام، المرأة تخرج دون حساب. تمشي على الرصيف دون أن تبرّر حضورها.

ترتدي الأزرق لأنه يُشبه لون عينيها، لا لأنه "محايد".

تقرأ شعراً في بثّ مباشر، وتضحك على تعليقات المارة.

اسمها ليس ملفاً، بل صفحة على إنستغرام تحكي فيها عن فصول حياتها. 

في الشام، المرأة تخرج دون حساب. تمشي على الرصيف دون أن تبرّر حضورها. ترتدي الأزرق لأنه يُشبه لون عينيها، لا لأنه "محايد". تقرأ شعراً في بثّ مباشر، وتضحك على تعليقات المارة. اسمها ليس ملفاً، بل صفحة على إنستغرام تحكي فيها عن فصول حياتها. 

في المخيمات، لا خيام.

مبانٍ صغيرة، مشرّعة النوافذ، تستقبل الزائرين بتفاصيل حيّة:

رسومات على الجدران، أرغفة تُخبَز، وجداريات كتب فيها أطفال فلسطين:

نحن لا ننتظر العودة، نحن نمارسها.

في بيروت، تعزف امرأة على الكمان في شارع الحمراء، ويصمت المارّة لأنّ الموسيقى لا ترفع صوتها، بل تُخفض ضجيجنا.

في بغداد، أُعيد ترميم الكتب بدلاً من المعابد، والمكتبات تفتح حتى منتصف الليل.

وقفت صباحاً أمام مقهى للكتب يناقش فيه أحد الموجودين طريقة معرفة تكوين الإنسان بأداة الخطأ.

يجلس روّادها لمناقشة فكرة قديمة: هل يمكن للحب أن يُنقذنا من السياسة؟ 

في مدن الشرق، لا أحد يسأل عن ديانتك قبل أن يسألك عن كتابك المفضّل.

ولا أحد يطلب هويتك إلا إذا أراد دعوتك إلى حفلة توقيع.

في المساء، لا تُقطَع الكهرباء، بل تُخفّف الأضواء لتسهيل نوم الأطفال.

والإنترنت؟ يُقطع فقط للصيانة، وتُرسَل رسالة اعتذار رسمية: نعتذر عن انقطاع الحلم، سيعود خلال دقائق.

في الأخبار، لا صورة لحاكم ولا نشرة عن زلزال بشري.

الخبر الأول: مواطن من الموصل يؤلّف أول أوبرا عراقية، عن الغضب والمغفرة.

في السجون، لا سجون. فقط مبانٍ قديمة تُرمَّم لتُصبح مسارح.

في الشوارع، الناس يكتبون خطبهم بأنفسهم.

لا أحد يملي، لا أحد يُراجع.

وكل كلمة تُقال يُردّ عليها بكلمة، لا برصاصة. 

في مدن الشرق، لا أحد يسأل عن ديانتك قبل أن يسألك عن كتابك المفضّل. ولا أحد يطلب هويتك إلا إذا أراد دعوتك إلى حفلة توقيع. في المساء، لا تُقطَع الكهرباء، بل تُخفّف الأضواء لتسهيل نوم الأطفال.

في سنة 2038، لا يسأل الناس: من يحكم؟

بل يسألون: من يُلهم؟

لا توجد تماثيل.

لكن في ساحة عامة، علّق أحدهم لافتةً كتب فيها: الحرية لا تحتاج إلى نصبٍ تذكاري. تحتاج إلى تنفّس.

حتى الموت، صار يتأدّب.

يمرّ خفيفاً، دون استعراض.

والشعوب؟ تنهض صباحاً لتزرع وردةً مكان ندبة.

الهوية؟ سؤال واحد فقط: هل ما زلت تحلم؟

ومن يجيب بـ"نعم"، يُمنَح جنسية المكان. 

الحب، الشعر، الفن، والحوار، كلها صارت أدوات للبقاء، لا للترف.

والمستقبل؟

ليس وعداً بعيداً، بل عادة يومية.

عمر جبور


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image