الأسرى المحرّرون في مواجهة الفجوة الزمنية... العائلة والعمل والتكنولوجيا

الأسرى المحرّرون في مواجهة الفجوة الزمنية... العائلة والعمل والتكنولوجيا

سياسة نحن والفئات المهمشة

الخميس 21 أغسطس 20259 دقائق للقراءة

بعد أكثر من عقدين من الاعتقال، يجد الأسرى الفلسطينيون المحررون أنفسهم أمام واقع متغيّر بسرعة، يتطلب منهم إعادة بناء حياتهم والتكيف مع مجتمع مختلف كلياً عما تركوه خلف القضبان.

في رصيف22، رصدنا بضع شهادات لعدد من الأسرى (الذين تحرروا في صفقات التبادل بداية عام 2025)، والتي تعكس تجارب متشابهةً مليئةً بالأمل والصعوبات، ترافقها تحولات نفسية واجتماعية عميقة.

رحلة التأقلم… بين الحلم والواقع

بعد 22 سنةً قضاها خلف القضبان، خرج الأسير المحرر شادي فخري عصفور برغوثي (48 عاماً)، من سجون الاحتلال في شباط/ فبراير 2025، ليبدأ رحلةً جديدةً من التأقلم مع واقع مختلف لم يعد كما تركه.

شادي، من محافظة رام الله والبيرة، والذي كان عزباً وقت اعتقاله، تزوّج بعد تحرره، ويعمل حالياً موظفاً، وقد وصف التحدي الكبير الذي واجهه في التأقلم مع عالم تغيّر بشكل جذري: "كل شيء تغيّر بسرعة؛ البنايات، الناس، والتكنولوجيا. شعرت بأنني خرجت إلى زمن غير زمني".

كان شادي يحلم في السجن بأشياء بسيطة وفق ما يقوله لرصيف22: "عناق والدتي دون حاجز زجاجي، والمشي بحرية في قريتي، وشرب فنجان نسكافيه دون حساب الوقت". 

الأسرى المحررون يواجهون صدمة كبيرة عند خروجهم من السجن بعد عقود طويلة، إذ يجدون أنفسهم في عالم تغيّر جذرياً، خاصة على صعيد التكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية. هذا يضعهم أمام تحدي اللحاق بعصر لم يعيشوه من قبل

لكنه وجد أنّ الحياة خارج السجن ليست كما تصوّر، خاصةً مع الفجوة الزمنية التي يشعر بها، وما يصاحبها من صدمة تجاه التكنولوجيا الحديثة.

يتذكّر شادي أوّل مرة استخدم فيها الهاتف. يقول: "شعرت بأنني أمسك بكوكب صغير"، مؤكداً أنّ الأمر كان صادماً لكنه فتح له أفق الحرية الحقيقية، حرية التواصل بلا رقابة. 

وبرغم تأقلمه التدريجي، يقرّ بوجود "حاجز داخلي" يمنعه من اللحاق الكامل بإيقاع الحياة السريع، خصوصاً مع غياب الذكريات المشتركة التي فاته أن يكون جزءاً منها خلال سنوات الأسر. لكنه يؤمن بأنّ "التأقلم ليس أن أكون مثل الجميع، بل أن أجد طريقتي الخاصة في أن أعيش وأتقدم".

من الصدمة إلى الاندماج… تجربة عمر الشريف

يشارك عمر صالح الشريف (44 عاماً)، من القدس، والذي أُطلق سراحه في كانون الثاني/ يناير 2025 بعد 22 سنةً في الأسر، تجربةً مشابهةً من التحديات. كان حكمه قاسياً بــ18 مؤبداً، وأُفرج عنه بشرط الإبعاد إلى الخارج، حيث يقيم مؤقتاً في القاهرة ضمن مجموعة من الأسرى المحررين الذين ينتظرون استضافتهم في دول أخرى.

يقول الشريف، الذي كان يعمل قبل اعتقاله في الفنادق وأحد مراكز الإنترنت، إنه كان يحلم في الأسر بالحرية بتفاصيلها كلها: "أن أكون بين أهلي بحرّية، أن أنام دون صراخ السجّان، أن أتناول طعاماً صنعته أمي، أو أختار فاكهتي المفضلة دون إذن السجّان". 

ويصف الحياة في الأسر لرصيف22، بأنها "جماعية قسرية" مع رقابة صارمة حتى على أبسط التفاصيل، مضيفاً: "كنت محروماً من الخصوصية، من أبسط متطلبات الحياة".

أسير محرر: "عندما دخلت السجن لم تكن هناك هواتف ذكية، شعرت بالتشتت عند استخدام الهاتف لأول مرة، كأنني دخلت عالماً لا أعرف مفاتيحه".

لكن الحرية جاءت محمّلةً بفجوة زمنية كبيرة، حيث فقد الكثير ممن كان ينتظرهم، ومنهم والده الذي توفي عام 2018. يقول: "كنت أتصوّر لحظة الحرية إلى جانبه، لكنه رحل، كما رحل عمّي وخالي وأصدقاء كثر". 

فوجئ الشريف بطبيعة الحال بالتغيّرات الجذرية التي طالعت معظم الناس، إذ إنّ الطفل الذي كان يلاعبه قبل الأسر أصبح أباً لأربعة أطفال، بينما بقيت ذاكرته متوقفةً عند ملامح الطفولة!

كما كانت التكنولوجيا أكبر صدمة له: "عندما دخلت السجن لم تكن هناك هواتف ذكية، واليوم أصبحت الحياة بأكملها مرتبطةً بها. شعرت بالتشتت عند استخدام الهاتف لأول مرة، كأنني دخلت عالماً لا أعرف مفاتيحه". يصف الشريف كيف وُزّعت الأجهزة اللوحية على الأسرى المحررين في أثناء نقله إلى مصر، حيث بدأوا تجربة إجراء المكالمات، ولم يتمكن الكثير منهم من إغلاق الخط أو التعامل مع الإنترنت البطيء، في مشهد يعكس صدمة التكيف مع عالم جديد.

وبرغم الارتباك الأوّلي، تطوّر الوعي بضرورة التوازن في استخدام التكنولوجيا. يقول: "أصبحت أطفئ الجهاز، وأتعامل معه كوسيلة لا كمركز للحياة". لكنه يعترف بأنّ التكيف ليس سهلاً بسبب المصطلحات الجديدة والاختلافات الاجتماعية، حيث أصبح الجار "لا يعرف جاره"، والناس "انعزلوا في عوالمهم الرقمية".

يختم الشريف وكنيته "أبو صالح"، حديثه بالتأكيد على إمكانية الاندماج: "كل ما نحتاجه هو بعض الوقت وبعض الفهم من المجتمع".

الغربة والتحديات المستمرة

فيما يروي أسير فلسطيني آخر (فضّل عدم ذكر اسمه)، وأُفرج عنه في كانون الثاني/ يناير 2025 بعد 23 سنةً من الاعتقال، لرصيف22، تفاصيل الصدمة الأولى بعد خروجه من الأسر بعد أن حُكم عليه بأربعة مؤبدات، ويقول إنّ حلمه كان لقاء عائلته دون قيود، وتعويض أمه وزوجته عن سنوات البكاء. لكن الواقع جاء مختلفاً: "الناس تغيرت، التكنولوجيا سبقتني بعقود، وكل شيء أصبح سريعاً ومزدحماً".

كما يصف شعوره بـ"دهس الزمن"، حيث وجد من كان يشرف عليهم قد سبقوه وظيفياً، وهو ما عزز شعوره بالغربة. برغم ذلك، لم يستسلم، وبدأ دراسة الدكتوراه، لكنه لا يخفي شعوره بالغربة. يقول: "كأنني ضيف في حياتي… لا أنام أكثر من ساعتين، والتكنولوجيا ترهبني، وما زلت أبحث عن مكتبي".

أما خالد غالب أبو هنود، من نابلس، فقد أمضى 22 سنةً في السجون بعد اعتقاله عام 2003، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة قبل الإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى. ويروي لرصيف22، كيف ظلّ الحلم حاضراً في حياته برغم سنوات الاعتقال: "كنت أخطط حياتي، أرسم ملامح البيت الذي سأبنيه، وأتصور تفاصيل الغرف والحديقة... كان الحلم تعويضاً لما فقدته من عمر".

يصف أسير محرّر شعوره بعد الإفراج بـ"دهس الزمن"، حيث وجد من كان يشرف عليهم في العمل قد سبقوه وظيفياً، وهو ما عزز شعوره بالغربة. برغم ذلك، لم يستسلم، وبدأ دراسة الدكتوراه، لكنه لا يخفي شعوره بالغربة. يقول: "كأنني ضيف في حياتي… لا أنام أكثر من ساعتين، والتكنولوجيا ترهبني، وما زلت أبحث عن مكتبي"

لكن الخروج إلى واقع تغيّر كثيراً مثل "الطرق الجديدة، المباني المرتفعة، والوجوه التي بالكاد أتعرف عليها"، تركه في حالة من الارتباك، بالإضافة إلى التحدّي الأكبر المتمثل في التكنولوجيا الحديثة. يقول: "بدأت أتعلم استخدام الهواتف الذكية وأراقب الشباب وهم يتعاملون معها بمهارة، أحاول قدر المستطاع، لكنني أكتفي بالأساسيات". 

برغم الصعوبات، لم يفقد "خالد" عزيمته، ويوضح: "أحاول الاندماج، أشارك في المناسبات وأعمل على العودة إلى عمل رسمي، وأضع خطةً لتكوين أسرة وبناء بيت يمثّل حلمي".  

خلال فترة الأسر، درس أبو هنود خالد الثانوية، وحصل على درجة البكالوريوس، وقطع شوطاً في دراسة الماجستير، مؤكداً أنّ "الأسير الواعي لا يخرج غريباً عن المجتمع، فنحن نمثّل صورةً مصغرةً عن شعبنا خلف القضبان". لكنه يعاني اليوم من صعوبة في تذكّر الأسماء، وهو تحدٍ مشترك مع العديد من الأسرى المحررين.

التحديات النفسية والاجتماعية بعد الإفراج

يرى الطبيب النفسي والمحاضر في الجامعة العربية الأمريكية الدكتور محمد خواجا، أنّ تصوّر الأسرى لما بعد التحرر يتّسم بـ"طابع أسطوري وخيالي" نتيجة العزلة الطويلة، ما يجعل لحظة اللقاء بالعالم الخارجي صادمةً ومعقدةً نفسياً. ويشرح أنّ الأحلام داخل المعتقل تكون مثاليةً، لكن الواقع بعد الإفراج قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية مختلفة، من اضطراب التأقلم المؤقت إلى اكتئاب شديد، وحتى اضطرابات ما بعد الصدمة.

طبيب نفسي: "صدمة التغيرات كالتكنولوجيا لدى الأسرى المحررين قابلة للتجاوز، لكنها ليست التحدي الأكبر، فالخسارات المعنوية وشعور الخيبة هما ما يترك الأثر الأعمق".

ويشير خواجا إلى أنّ الخروج من السجن يشكل ضغطاً كبيراً حتى في الظروف الجيدة، مضيفاً: "الأسير يخرج وهو يحمل شعوراً بأنه ضحّى من أجل واقع أفضل، لكنه يجد واقعاً متراجعاً في الكثير من الجوانب، ما يزيد من إحباطه".

وحول الفجوة التكنولوجية، يوضح أنّ صدمة التغيرات قابلة للتجاوز، لكنها ليست التحدي الأكبر، فـ"الخسارات المعنوية وشعور الخيبة هما ما يترك الأثر الأعمق".


في المقابل، يذكر الدكتور خواجا وجود جوانب إيجابية، إذ تمكّن بعض الأسرى من إكمال دراساتهم العليا أو بناء حياة أسرية مستقرة، مع التأكيد على أهمية المرونة النفسية والدعم الاجتماعي.

من جهته، يشدّد المتخصص في القضايا الاجتماعية والمحاضر في جامعة النجاح الوطنية الدكتور أسعد تفال، على أنّ الأسرى الفلسطينيين الذين قضوا سنوات طويلةً يواجهون تحديات نفسيةً واجتماعيةً معقّدةً برغم صلابتهم. يقول: "نحن نؤمن بأنّ السجين السياسي هو صاحب قضية ومنتمٍ إلى وطنه، وهذا الانتماء يمنحه صلابةً نفسيةً داخل السجن، لكنه بعد الخروج يواجه تحدياً في تعويض السنوات الضائعة".

 ويصف تفال حالة "صدمة ثقافية" يعانيها الأسرى بسبب الفجوة الزمنية والاجتماعية، حيث يكونون صامتين ومنغلقين أحياناً بسبب غياب الاندماج الاجتماعي. لكنه يؤكد أنّ بعضهم يتغلب على هذه الصدمة تدريجياً بدعم مجتمعي وشخصي قوي، ويستعيد علاقاته مع العائلة والمجتمع.

ويشير إلى أهمية الدور المهني في تقديم برامج تأهيل ممنهجة فور الإفراج، محذّراً من أنّ الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى تدمير نفسية الأسرى وإحباطهم، ما يستوجب تدخّلاً فعّالاً.

ويختم بالإشارة إلى أنّ الأسرى برغم التحديات يملكون شغفاً بالحياة وحباً لوطنهم، ومن واجب المجتمع أن يوفر لهم بيئةً داعمةً لتعزيز قدرتهم على التكيّف والمساهمة في بناء المجتمع.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image