أهداف مؤجلة… إسرائيل تفرج عن الأسرى لتلاحقهم بالقتل والاعتقال

أهداف مؤجلة… إسرائيل تفرج عن الأسرى لتلاحقهم بالقتل والاعتقال

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 7 أغسطس 202520 دقيقة للقراءة

أُنجز هذا التحقيق بدعم من أريج.

تتوالى عمليات الاغتيال الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، ويتقاطع بعض ضحاياها في سمة واحدة، إذ إنهم أسرى محررون ضمن صفقة التبادل المعروفة فلسطينياً باسم "وفاء الأحرار"، التي مضى على إبرامها نحو 14 عاماً. هذا التكرار في استهداف شريحة بعينها أثار تساؤلات حول خرق إسرائيل للضمانات المرافقة لصفقات التبادل بتعمد استهداف هؤلاء الأسرى.

على مدار خمسة أشهر، عملت أريج على بناء قاعدة بيانات 1027 أسيراً محرراً في صفقة "شاليط"، مستندة إلى شهادات محررين وذويهم، ومقابلات مع منظمات حقوقية. خلص التحقيق إلى وجود نمط واضح من الإعدام الميداني والمراقبة، وإعادة الاعتقال بصورة ممنهجة للأسرى المحررين.

"تصفية حساب"

يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر، 2024، الساعة تشير للثانية فجراً، وسط عتمة الليل في مشهد بات اعتيادياً بغزة، يحتشد عشرات الغزيين لإجلاء المصابين عقب قصف الطيران الإسرائيلي خيمة للنازحين داخل مدرسة عبد الكريم العكلوك للبنين في دير البلح وسط قطاع غزة. جسد أحدهم التف بكفن أبيض. كان عبد العزيز صالحة (43 عاماً).

لم يكن مقتل صالحة ضربة عشوائية من ضربات إسرائيل التي طالت كل شبر في قطاع غزة، إذ كان بمثابة تصفية حساب مر عليه أكثر من عقدين. نشرت صفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية" والتي ترعاها وزارة الخارجية الإسرائيلية، أنها (إسرائيل) اليوم وبعد 24 عاماً قتلت عبد العزيز صالحة، في رسالة بأن إسرائيل لا تنسى ثأرها وأنها "لم ولن تنسى وتقوم بتصفية الحساب مع كل من اعتدى على مواطنيها أو جنودها عاجلاً أم آجلاً".

رافقت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة سلسلة من الاغتيالات التي لم تتردد إسرائيل بالاعتراف بها. من أصل 164 مبعداً إلى غزة قتلت إسرائيل 33 أسيراً (20%). ومن أصل 337 أسيراً عادوا أو أبعدوا إلى غزة، قُتل 42 أسيراً (12.5%)

قصة صالحة تعود إلى يوم الـ12 من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2000، بعد أقل من أسبوعين على انطلاقة "انتفاضة الأقصى"، حينها ظهر صالحة في صورة رمزية باتت الأشهر في الانتفاضة الثانية، من خلف نافذة مركز للشرطة الفلسطينية برام الله وهو يرفع يديه المخضبتين بالدماء. اتّهم صالحة وقتها بقتل جنديين إسرائيليين.

لاحقت إسرائيل صالحة واعتقلته وفرضت عليه السجن المؤبد. خرج في تشرين الأول/أكتوبر 2011 في إطار صفقة "وفاء الأحرار" التي تُعد أبرز عملية تبادل للأسرى جرت خلال العقدين الأخيرين بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، أفرج بموجبها عن 1027 أسيراً وأسيرة فلسطينيين مقابل تسليم الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط".

وتضمن الاتفاق الذي تم بوساطة مصرية، إبعاد عدد من الأسرى الفلسطينيين إلى دول مثل سوريا والأردن وقطر وتركيا، والإفراج عن عدد آخر إلى قطاع غزة لمدد متفاوتة، مع ضمان عدم ملاحقة أي أسير من المفرج عنهم في الصفقة أو محاكمته لاحقاً على أي نشاط كان يمارسه قبل الإفراج عنه.

كان اسم صالحة ضمن الدفعة الأولى التي شملت 477 أسيراً وأسيرة ممن صدرت بحق غالبيتهم أحكام عالية، وأبعد إلى غزة.

يقول طاهر شقيق عبد العزيز في مقطع مصور خلال عزاء أخيه، إنّ شقيقه كان طموحاً كأي شاب فلسطيني، ومحباً للحياة، ولكن الظروف جاءت بعكس ما أراد. تزوج وكانت له أسرة، وأكمل دراسته إلا أنهم كانوا يعيشون في قلق دائم، إذ كانت حياة عبدالعزيز دائما مهددة، بحسب طاهر.

للأسير الفلسطيني وضعان قانونيان؛ فإمّا أن يُصنف مدنياً، حتى وإن تم اعتقاله لأسباب سياسية، أو يُعد أسيراً ينتمي إلى تنظيم مقاوم أو مسلح. وفي الحالتين يحظر القانون الدولي (اتفاقية جنيف الثالثة والرابعة) إبعاد الأسرى إلا في حالة كان النقل مؤقتاً لأسباب أمنية أو صحية وبشروط صارمة، على أن لا يكون عقوبة. وأي إبعاد قسري من هذا النوع قد يعد جريمة حرب، لا سيما إذا كان جزءا من سياسة ممنهجة مثل الإبعاد من الضفة الغربية إلى غزة، أو إلى خارج فلسطين، بحسب أستاذ القانون الدولي والخبير في العلاقات الدولية، رائد أبو بدوية.

تفاصيل صفقة "وفاء الأحرار"- شروط الإفراج

في غزة أهداف مؤجّلة

نحاول الوصول لأي من أسرة صالحة في غزة، إلا أن حساسية وضع الأسرى تزيد الأمر تعقيداً. التقى محمد مصطفى (اسم مستعار) عبد العزيز قبل يومين من استهدافه، يعتذر عن الخوض في التفاصيل خشية مراقبة إسرائيل للاتصالات. يلفت مصطفى إلى أن أسرى صفقة شاليط كانوا منذ اليوم الأول لخروجهم من السجون الإسرائيلية مهددين بالقتل. ويضيف أن الأسرى المحررين في غزة "أموات منذ اللحظة الأولى... هم أهداف مؤجلة".

تشير الأرقام إلى مقتل 48 أسيراً محرراً من أسرى صفقة "وفاء الأحرار". قتل ثمانية منهم قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بينما قتل أربعون (83.3%) خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة.

قتل الأسير المحرر يونس جحجوح (23 عاماً) عام 2013 برصاص الجيش الإسرائيلي في مخيم قلنديا بالضفة الغربية.ثم تصاعدت وتيرة الاغتيالات في غزة تحديداً.

عام 2017، قتلت إسرائيل مازن فقهاء بمسدس كاتم للصوت أمام منزله، وكذلك قتلت طارق عز الدين في أيار/مايو 2023 في منزله إلى جانب اثنين من أبنائه.

رافقت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة سلسلة من الاغتيالات التي لم تتردد إسرائيل بالاعتراف بها. من أصل 164 مبعداً إلى غزة قتلت إسرائيل 33 أسيراً (20%). ومن أصل 337 أسيراً عادوا أو أبعدوا إلى غزة، قُتل 42 أسيراً (12.5%).

يقول شقيق الأسير المبعد نائل السخل إن "الاحتلال كان يهدد والدي ووالدتي انه رح نقتله ونخليه صورة في برواز". أعلن الجيش الإسرائيلي استهداف السخل بقصف صاروخي طال منزلاً احتمى به في مخيم الشاطئ في الثاني من آب/ أغسطس 2024.

كذلك، تعرض الأسير المبعد مراد الرجوب ومنذ اليوم الأول لخروجه في الصفقة لتهديدات بالقتل والملاحقة، فكان الجيش الإسرائيلي يقتحم منزل عائلته في دورا بالخليل مرات كثيرة، بحسب شقيقه حسن. وبعد الحرب على غزة، اقتحم الجيش منزل والده وإخوته مرتين وتوعدوا عائلته باغتياله، عدا عن التنكيل بأهله، وتسجيل بعض الفيديوهات لإخوته ووالده تحت تهديد السلاح.

حاول الجيش الإسرائيلي اغتيال مراد الرجوب أكثر من مرة قبل الحرب الأخيرة على القطاع، أبرزها كانت في عامي 2014 و2017. وخلال الحرب الأخيرة، قصف الطيران الإسرائيلي شقتين يملكهما مراد في مدينة حمد بغزة وسيارة كان يملكها، إلى أن نجح في اغتياله بشارع النصر بغزة عبر استهدافه بطائرة مسيرة، حيث كان يقود دراجة هوائية فنزل صاروخ عليه وأصابت شظية قلبه، وقتل إلى جانب ثلاثة آخرين.

عقاب جماعي

التهديدات التي عاشتها عائلة الرجوب، ذاقتها عائلات الأسرى المحررين بأوجهها المختلفة. وثقنا حالات اقتحمت فيها قوات الجيش الإسرائيلي منازل عائلات الأسرى المحررين، وحالات اعتقال طالت إخوتهم وزوجاتهم وأبناءهم.

المصدر: صفحة الأسيرة المحررة فاطمة الزق.

تقول أم مجاهد النجار زوجة عم المحرر المبعد إلى قطاع غزة خالد النجار، إن العائلة لم تفلت من تهديدات الجيش الإسرائيلي. فمنذ اليوم الأول لخروجه بصفقة شاليط اقتحم الجيش بيت أهله حيث تعيش والدته المريضة، وفي كل اقتحام لبلدة سلواد شرق رام الله، يقتحمون منزله ويخربون الممتلكات ويطلقون عبارات التهديد والوعيد. حتى اندلاع الحرب على غزة، اقتحم الجيش بيت أم خالد واتخذوه ثكنة عسكرية وبدءوا بإطلاق عبارات التهديد بوجهها كقولهم: "مش رح نفك عنكم الا لنقتله لخالد ونجيبلك خبره وبأقرب وقت رح تعمليله عزا هون".

اعتقل الجيش مجاهد النجار ابن عم خالد بتهمة الاتصال بالأخير. تضيف النجار: "يومها حكى خالد مع ابني اتصال كاميرا ومجاهد اجا يجري يقولنا هاي خالد. ما حد بيحكي مع خالد… ممنوع حدا يحكي مع خالد في غزة (لافتة إلى أن الجميع مراقب)".

لم يعلم مجاهد أن الاتصال ممنوع. وتضيف: "ضحكنا كثيراً وقلنا الله يستر من هالضحكة".

قتل خالد في السادس والعشرين من أيار/ مايو 2024، حين شنت مقاتلات حربية إسرائيلية -في نحو التاسعة مساء- غارات طالت محيط منطقة البركسات التي تؤوي نازحين شمال غربي رفح. تسبب الهجوم في مقتلِ ما لا يقل عن 45 فلسطينياً، عدد كبير منهم من الأطفال والنساء وأغلبهم من النازحين. قتلوا بصواريخ استهدفت منطقة كان من المفترض أن تكون من المناطق الآمنة التي حددها الجيش الإسرائيلي.

أعلن الجيش الإسرائيلي وقتها أنه استهدف مسؤولين اثنين في حماس: خالد منهما.

تتكرر حوادث الاستهداف التي تزهق فيها -إلى جانب الأسير المحرر المستهدف- أرواح العشرات. في الثالث عشر من تموز/يوليو وفي ظهيرة يوم حار، قصفت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي مجموعة من المصلين أقاموا صلاتهم على أنقاض ما تبقى من "المسجد الأبيض" في مخيم الشاطئ، ليقتل نحو 18 شخصاً بعد استهدافهم بثلاثة صواريخ، ليُعلن لاحقاً المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي نجاح مهمة اغتيال "نمر حميدة".

قدمت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين التماسات للمحكمة الاسرائيلية العليا لإعادة النظر بقضايا الأسرى المعاد اعتقالهم مع أحكامهم السابقة، على أساس أن هذا الاعتقال انتهاك لاتفاق سياسي، لكنها رفضتها جميعاً

سبق هذين الهجومين، حصار أطبق على محيط مستشفى الشفاء استمر لمدة 13 يوما أواخر آذار/ مارس من نفس العام، قتل فيه الجيش الإسرائيلي أكثر من 400 فلسطيني، وفقا لمكتب الإعلام الحكومي في القطاع. تزامن ذلك مع تصريح للجيش الإسرائيلي بانتهاء عملية داخل مستشفى الشفاء وفي محيطه استهدفت محررين اثنين من صفقة شاليط.

محمد زيد الكيلاني، وعلي القاضي، وجميل الباز، وسالم ذويب، والشقيقان طارق وعبد الناصر حليسي، وعبد الرحمن شهاب وطارق عز الدين، وناصر دويدار وبسام أبو سنينة كلهم استهدفتهم إسرائيل برفقة عائلاتهم.

حاولنا التواصل مع الأسير نصري الزير من مدينة بيت لحم والمبعد إلى قطاع غزة، والذي تعرض بيته لقصف أسفر عن استشهاد زوجته وابنه حمزة.

يقول ابن أخيه أبو خطاب الزير إنه لا يوجد تواصل مع الأخير إطلاقاً، وإن أي تواصل معه قد يضرهم. ولم يتوقف الأمر عند قصف منزله بغزة، فقد اعتقل الجيش الإسرائيلي ابنيه المقيمين في بيت لحم.

كذلك حاولنا الوصول لأسير محرر آخر، كان المبنى الذي يسكن فيه قد استهدفه الطيران الإسرائيلي بحجة وجود ناشط ينتمي لحماس. راح ضحية الهجوم سبعة مدنيين على الأقل.

بحسب مصدر نتحفظ على ذكر اسمه، لم يكن الأسير المحرر متواجداً في المكان؛ فمن عادته ترك مكان سكنه عند بداية كل تصعيد.

"إحنا بنستنى منك غلطة صغيرة"

في الضفة الغربية، عاش أسرى صفقة شاليط حرية مقيدة، إذ كان من شروط الإفراج عنهم مراجعة مكاتب التنسيق والارتباط الإسرائيلية القريبة من أماكن سكنهم والتوقيع على أوراق تُثبت حضورهم كل شهرين تقريباً، كما رسمت خريطة طريق للأسرى المحكومين بأحكام عالية أو مؤبد وعليهم الالتزام بها وعدم الخروج عنها، وفقاً للأسرى المحررين الذين قابلناهم.

كذلك لازمت التهديدات بالقتل وإعادة الاعتقال المحررين حتى قبيل تحريرهم. يروي العديد منهم تلقيهم تهديدات علنية "عيوننا عليكم"، "إنتوا روحتوا والمسدس براسنا" و"احنا بنستنى منك غلطة صغيرة".

يقول صلاح عواودة ابن الأسير أحمد عواودة إن "التهديد بالاعتقال مرة أخرى كان حاضراً منذ اليوم الأول لخروجه بالصفقة،كان يستدعى لمقابلة الشاباك وكان ممنوعاً من مغادرة مدينة الخليل". أعاد الجيش الاسرائيلي اعتقال عواودة من منزله في الخليل بعد حرية استمرت 32 شهراً، ثم أعادت محكمة الاحتلال حكمه السابق البالغ 23 عاماً.

قصة عواودة تتشابه في تفاصيلها مع عشرات الأسرى المحررين في صفقة "وفاء الأحرار". ليلة الثلاثاء قرابة الساعة الثالثة والنصف فجر السابع عشر من حزيران/يونيو 2014، هاجم الجيش الإسرائيلي بيت الأسير المحرر خضر راضي في الضفة الغربية "عندما جاء الجيش ليعتقلني نظرت لابني سليمان كان عمره حينها ستة أشهر، حملته بين يدي وقلت سامحني يابا لأني رح أتركك". بكت زوجة راضي فأخبرها الضابط "5 دقائق ويرجع لك". تحولت الدقائق الخمس لإحدى عشر سنة.

المصدر: خضر راضي. صورة تجمعه بابنه بعد خروجه في الصفقة الأخيرة.
خمس دقائق امتدت لإحدى عشرة سنة.

يلفت راضي: "هاجمونا في ساعة واحدة، داهموا منازلنا، كي لا نتواصل أو نهرب". ويضيف "وجهت إلي تهم المشاركة في المسيرات، وزيارة أسرى". تهم بسيطة لا تقتضي 6 أشهر في السجن، بحسب راضي. كانت إعادة اعتقاله واعتقال أكثر من ستين أسيراً محررا آخر، قراراً سياسيا بحتاً ورد فعل على اختطاف ثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل عام 2014، رغم أنّ أياً منهم لم يرتكب مخالفة أمنية.

بينما حُكم على بعضهم بالسجن ثلاث سنوات، ليُعاد بعدها تفعيل أحكامهم السابقة بالمؤبد مع اقتراب انتهاء محكوميتهم.

لا ضمانات

بالمجمل، أعادت إسرائيل اعتقال 229 من الأسرى المحررين في الصفقة (38 أسيراً في الحرب الأخيرة على قطاع غزة)، على فترات متفاوتة ما يعني أن واحداً من كل خمسة أسرى تعرض للاعتقال مرة واحدة على الأقل.

تعرض منتصر زعاقيق من بلدة بيت أُمر شمال الخليل للاعتقال نحو ثلاثين مرة وفقا لأخيه، آخرها كانت في الفترة بين عامي 2019 و2022. في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023،خلال مشاركته في تشييع جنازة شاب قتل برصاص الجيش الإسرائيلي، قنص جندي إسرائيلي زعاقيق وتوفي على الفور جراء رصاصة اخترقت رأسه مباشرة.

يكشف قدورة فارس، الرئيس السابق لهيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، أن اسرائيل وخلال صياغتها لشروط الصفقات وجلوسها على طاولة المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية، تعمل على إيجاد ثغرات قانونية تسمح لها بإعادة اعتقال أسرى الصفقات كما حدث في صفقة شاليط: "في صفقة شاليط، وفي ظل المفاوضات كانت إسرائيل تعد قانوناً وكتابة مسوغ قانوني يسمح لها بإعادة اعتقال الأسرى المحررين بالصفقة على خلفية ملفاتهم السابقة، وهو ما حدث مع نحو 60 من الأسرى المحررين والذين اعتقلوا وأعيدت لهم أحكامهم السابقة والحكم المؤبد".

وفق رد الجيش الإسرائيلي، على أسئلة وجهتها مؤسسة Paper Trail Media، فإن إسرائيل اعتقلت عدداً من الأسرى عام 2014 عقب ما سمّته عملية "حارس الأخ"، وذلك في إطار "إجراءات جنائية جديدة" بزعم ارتكابهم "مخالفات". وفي الحالات التي تعذّر فيها استخدام الأدلة ضدهم، تولّت لجنة خاصة، أُنشئت بموجب قانون إسرائيلي، مراجعة "ملفات سرية" لتحديد ما إذا كان ينبغي إلغاء تخفيض العقوبة. وقال الجيش إن قرارات هذه اللجنة كانت خاضعة للمراجعة القضائية.

قدمت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين التماسات للمحكمة الاسرائيلية العليا لإعادة النظر بقضايا الأسرى المعاد اعتقالهم مع أحكامهم السابقة، على أساس أن هذا الاعتقال انتهاك لاتفاق سياسي، لكنها رفضتها جميعاً. وصرح فارس أنهم تقدموا بطلبات للوسطاء والضامنين لصفقة شاليط لكن ذلك كله "لم يجد، لا المحكمة أجدت ولا المناشدات أجدت، فظلوا معتقلين إلى وقت قريب حين أطلق سراحهم".

صلاح حموري، محام وناشط قانوني في مؤسسة الضمير، هو أيضاً أسير محرر بصفقة شاليط تعرض للملاحقة والإبعاد القسري إلى فرنسا بعد سحب هويته المقدسية، يؤكد أنه كان مهيئاً نفسياً للاعتقال مرة أخرى، وهو ما حدث فعلاً، وانتهى الأمر بإبعاده خارج فلسطين. ويضيف أن الاحتلال يعمل على كسر كل اتفاق في رسالة للفلسطينيين "أن لا شيء يضمن أمن الفلسطيني"، ورسالة أخرى للإسرائيليين أن "إسرائيل لا تقدم تنازلات وأن لها اليد العليا في تقرير مصير كل فلسطيني".

يقول حموري إن ميثاق روما واتفاقية جنيف الرابعة تنطبقان على الأسرى الفلسطينيين كون فلسطين دولة تعيش تحت احتلال. وكانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد عبرت عن قلقها إزاء إبعاد الأسرى خارج حدود فلسطين، لافتة إلى أن ذلك قد يشكل "تهجيراً قسرياً" في الحالات التي تغيب فيها الموافقة الحرة والمستنيرة. ويرى حموري أنه مع عدم وجود ضمانات دولية لمثل هذه الصفقات، فإن اسرائيل ستستمر في ضغطها على الفلسطينيين للاستسلام اتجاه صفقات التبادل.

من جهة أخرى، أدانت منظمة الحق لحقوق الإنسان الفلسطينية ما تسميه إسرائيل بالقتل المستهدف ووصفتها بعمليات قتل خارج نطاق القضاء، وكانت قد اعتبرتها في تقرير نشر عام 2006 بأنها "أصبحت رمزاً لاستخفاف إسرائيل بالقانون الدولي، ولثقافة الإفلات من العقاب التي تُحيط بهذه الانتهاكات".

تقول فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية المحتلة في منشور على صفحتها، إن "تاريخ إسرائيل الطويل في تنفيذ الاغتيالات داخل فلسطين وخارجها لم يعد من المقبول أن يظل بلا محاسبة. يجب أن تكون التحقيقات المستقلة والشفافة والمساءلة جزءاً من طريق تحقيق السلام".

صفقات تبادل جديدة… ومشهد يتكرر

بتاريخ 15 كانون الثاني/ يناير 2025، وقعت حماس وإسرائيل على اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وعقد صفقة تبادل للأسرى بينهما. دخل الاتفاق حيز التنفيذ يوم الـ 19 من الشهر نفسه، وبدأت ثماني جولات من تبادل الأسرى، أطلقت حماس بموجبها 25 اسرائيلياً و8 جثث و5 عمال تايلنديين. بالمقابل، أفرجت اسرائيل عن 1777 أسيراً فلسطينياً، من بينهم 72 امرأة، و95 طفلاً، و275 محكوماً بالمؤبد، و295 من أصحاب الأحكام العالية، وألف من معتقلي قطاع غزة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بالإضافة إلى 41 من محرري صفقة شاليط الذين تم اعتقالهم وإعادة أحكامهم السابقة عقب تحريرهم المرة الأولى، من بينهم خضر راضي.

"كنا قبل يوم (من الإفراج) نقبع داخل جهنم… قبور حقيقية تحت التراب"، بهذه العبارة وصف يوسف السكافي أسير محرر للمرة الأولى، سجون الاحتلال الاسرائيلي قبل أن يخرج للحرية يوم 8 شباط/ فبراير 2025 ضمن صفقة "طوفان الاحرار" ويتم إبعاده إلى مصر.

يحكي يوسف -المحكوم بأربعة مؤبدات أمضى منها 21 عاماً- تفاصيل الأيام الاثني عشر التي سبقت خروجه، بعد أن ورد اسمه ضمن الصفقة: "12 يوماً كانت عذاباً حقيقياً"، إلا أن أصعب ليلة كانت تلك التي سبقت الإفراج "مارسوا ضدنا كل إجراءات القمع، والله، والله، لا قرأت ولا سمعت عن احتلال قام بهذه الأعمال الوحشية التي قاموا بها!"، بحسب يوسف.

"بلشت الإجراءات تم تقييدنا من الخلف والشد على الكلبشات ولما يفكوها كنا نعاني يوم أو يومين من آثارهم ولحد الآن أعاني من آثارها وكنا ننجرح منهم ونوقع من الجر لغاية الآن بعض الضربات بيدي ورجلي موجودة بسبب الكلبشات… واحنا كلنا طلعنا مرضى أوزاننا نزلت اللي نزل 40 كيلو و35 كيلو… بعدها ودونا على زنزانة اوبعد الظهر تقريباً اجت باصات "النحشون"... حملونا بالباصات بالضرب والشتم وطبعا أول ما عرفت رايحين ع النقب عرفت إنه أنا مبعد".

يسترجع يوسف ذكريات ليلته الأخيرة بالسجن: "أجوا تقريباً الساعة 11 بالليل، كبلونا للساعة 3:30 ومن مكتب لمكتب على الركب نمشي، ومارسوا ضدنا إجراءات قمع وحشية لأنهم مش قادرين يصدقوا إنه احنا طالعين". قُيد بإسوارة كتب عليها: "لن نغفر ولن نسامح… الشعب الأبدي لن ينسى ما جرى. أطارد أعدائي وأمسك بهم".

يؤكد يوسف أن ما يحصل للأسير المحرر ضمن الصفقات أصعب بكثير من أيام بقائه بالأسر، وكأن السجانين يقيمون حفل وداع على طريقتهم الوحشية لهؤلاء الأسرى.

"لن نسامحكم ولن نغفر لكم ورح تظل عيوننا عليكم"، هذا ما قالته إدارة السجون للأسرى الذين خرجوا بالصفقة في إشارة إلى الملاحقة الدائمة لهم حتى لو كانوا خارج السجون. يضيف يوسف "توجهوا لشباب غزة تحديداً وحكولهم: الصاروخ بستناكم، صاروخك موجود!".

المصدر: الصحافي يوسف شحادة

يمتنع العديد من المحررين الجدد والذين لا يزالون في الضفة الغربية عن الحركة خارج حدود مناطقهم، خشية مواجهة الاعتقال من جديد.

سيناريو ملاحقة إسرائيل للأسرى المحررين في الصفقات يتكرر اليوم. ففي الحرب الأخيرة على قطاع غزة اعتقلت إسرائيل أكثر من 17 ألف فلسطيني. في المقابل أفرجت في صفقات التبادل عن 2017 أسير وأسيرة. حتى تاريخ نشر التحقيق كانت إسرائيل قد استهدفت الأسرى المحررين الجدد، فقتلت أربعة وأعادت اعتقال نحو 35 منهم

وأغلب من حاولنا التواصل معهم من محرري صفقة شاليط أو أهاليهم، يمتنعون عن الحديث خوفاً على حياتهم، لا سيما بعد عمليات الاستهداف المتعمدة للأسرى وقتل البعض، واعتقال الكثير واستهداف منازلهم، حتى تلك التي نزحوا منها ليذهب ضحية الاستهداف آخرون، واستهداف أماكن نزوحهم أكثر من مرة، أو حتى قتل أفراد أسرهم، بحسب الدوائر المقربة التي تواصلنا معها.

لم يقدم الجيش الإسرائيلي أي رد بشأن اغتيال عبد العزيز صالحة أو أي من الحالات الأخرى الواردة في التحقيق، باستثناء حالتي فادي دويك وزكريا نجيب، حيث أشار إلى أنهما كانا "مسؤولين رفيعين في حركة حماس".

وذكر الجيش في رده أنه يستهدف فقط الأفراد المنتمين إلى جماعات مسلحة منظمة أو المشاركين بشكل مباشر في الأعمال العدائية، ولا يقوم باستهداف الأفراد بدافع الانتقام أو الرد بالمثل.

أما فيما يتعلق بهجوميّ تل السلطان (مجزرة البركسات) ومستشفى الشفاء، فقال الجيش إنه تم فتح تحقيق فيهما، وأُحيلت نتائجهما إلى المدعي العسكري العام لاتخاذ القرار بشأن الخطوات اللاحقة.

ولم يقدّم الجيش أي معلومات حول مجزرة الخيام في تل السلطان، في حين ادعى أنه في حادثتي مخيم الشاطئ ومستشفى الشفاء جرى استهداف "إرهابيين". وقال إن كل عملية عسكرية "تم وفق توجيهات الجيش، التي تلزم القادة بتطبيق المبادئ الأساسية لقانون النزاعات المسلحة، ولا سيما مبادئ التمييز، والتناسب، واتخاذ الاحتياطات اللازمة، على حد تعبيره.

بين الحرية والخوف منها يصف السكافي التحرر من الأسر بـ"الخروج من قاع جهنم ومن داخل قبور حقيقية مليئة بالتراب". لكن شيئاً لا يضمن الحرية أو حتى الحياة.

سيناريو ملاحقة إسرائيل للأسرى المحررين في الصفقات يتكرر اليوم. ففي الحرب الأخيرة على قطاع غزة اعتقلت إسرائيل أكثر من 17 ألف فلسطيني. في المقابل أفرجت في صفقات التبادل عن 2017 أسير وأسيرة. حتى تاريخ نشر التحقيق كانت إسرائيل قد استهدفت الأسرى المحررين الجدد، فقتلت أربعة وأعادت اعتقال نحو 35 منهم. في مشهد يؤكد أن الحبل على الجرار، وأن هذه الحالات لن تكون الأخيرة.

يوسف السكافي وخضر راضي كلاهما يعانق الحرية اليوم (حتى تاريخ نشر التحقيق).

بين الحرية والخوف منها يصف السكافي التحرر من الأسر بـ"الخروج من قاع جهنم ومن داخل قبور حقيقية مليئة بالتراب". لكن شيئاً لا يضمن الحرية أو حتى الحياة.

اعتمد التحقيق على جمع وتتبع بيانات محرري صفقة شاليط عبر مراحل متعددة، شملت حصر أسمائهم من الدفعتين الأولى والثانية، ومقارنتها بالمصادر الإخبارية ووكالة "وفا"، التي وفرت تفاصيل عن الأحكام وشروط الإفراج. لاحقاً، جرى رصد من أعيد اعتقالهم وجمع معلومات محدثة عن أوضاعهم من المصادر المفتوحة والتواصل مع ذويهم، إضافة إلى متابعة التقارير الميدانية. كما تم توثيق حالات قتل بعض المحررين عبر البيانات العسكرية الإسرائيلية والتقارير الصحافية، رغم صعوبة المهمة، خصوصاً مع استمرار عمليات استهدافهم، وكان آخرها مقتل خمسة منهم المبعدين إلى غزة قبل (أيام) من نشر التحقيق: أمجد أبو عرقوب، وبلال زرّاع، ورياض عسلية، ومحمود أبو سرية، ومحمود إبراهيم الدحبور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image