غاية واحدة خبيثة… بين انسحاب شارون من غزة وانسحاب نتنياهو من مفاوضات غزة

غاية واحدة خبيثة… بين انسحاب شارون من غزة وانسحاب نتنياهو من مفاوضات غزة

رأي نحن والتاريخ

الجمعة 1 أغسطس 20258 دقائق للقراءة

في العام 2005، كان أرييل شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية، وكانت المفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية تراوح بين التوقّف وبين الجلسات المتقطّعة تحت ضغط الأطراف الإقليمية والدولية. وكان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، قد فارق دنيانا فيما كان الرئيس الحالي محمود عباس، أبو مازن، يخطو خطواته الأولى كزعيم يؤمن بالمفاوضات والعمل السياسي كأسلوب وحيد لإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، والتي جُرّبت فيها ومعها كل الأساليب والطرق.

كانت الانتفاضة الثانية (2000-2005) قد انتهت دون إعلان رسمي فلسطيني، لكن ذيول تأثيرها ما زالت تتصدّر المشهد الأمني الإسرائيلي، سواء باستكمال بناء جدار الفصل العنصري وتعديل مساره، أو بتقطيع أوصال الضفة الغربية المحتلة من خلال الحواجز والبوابات. وكان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 قد انتهى بالخلاص من صدام حسين واحتلال العراق، وكان على رأس الإدارة الامريكية جمهوري منحاز تماماً لإسرائيل هو جورج بوش الابن، والذي كان يعدّ عرفات "غير ذي صلة" ويهاجمه علناً.

الغاية الأساسية من قرار شارون الانسحاب من غزّة في 2005، وقرار نتنياهو الأخير الانسحاب من المفاوضات مع حماس، هي نفسها؛ الهروب من أي استحقاق سياسي قد يؤدي إلى التوقيع على اتفاق مع أي طرف فلسطيني… كيف؟

نستطيع تحت بند "كان"، إضافة أنّ المبادرة العربية للسلام، التي اقترحها العاهل السعودي آنذاك، الملك عبد الله بن عبد العزيز، على مؤتمر القمة العربي، المنعقد في بيروت (2002)، وتم تبنّيها من الدول العربية، كانت في سوق التداول يومها كقاعدة أساسية لأي حلّ محتمل يُرضي الفلسطينيين ومن خلفهم العرب.

في هذه البيئة السياسية المرتبكة والمُربِكة، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي، الليكودي السابق ورئيس حزب "كاديما" في ذلك الوقت، أرييل شارون، أن ينسحب "فجأةً" من قطاع غزة، ومن بعض المناطق في محافظة جنين في الضفة الغربية، وأن يفكّك المستوطنات الموجودة في المنطقتين. أستخدم هنا كلمة "فجأةً" بشكلٍ مجازيّ يخصّ الفعل لا تحضيراته السابقة، إذ إن شارون كان قد طرح فكرته هذه على مؤتمر هرتسليا في أواخر عام 2003، لكن لا أحد من طرفنا تعامل معها على محمل الجدّ، هذا إن كان قد سمع بها أصلاً.

لكن اللافت في الأمر هو أنّ شارون وحكومته آنذاك، لم يُطلقا على هذه العملية مسمّى الانسحاب، بل فكّ الارتباط مع إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي، واللافت أكثر هو أن فكّ الارتباط هذا تمّ بعيداً عن العملية السلمية القائمة بين الطرفين؛ الفلسطيني والإسرائيلي. لقد اختار شارون أن ينسحب من غزة بشكلٍ أحادي لا يتم التوقيع عليه من قبل القيادة السياسية الفلسطينية، ولا من قبل رعاة العملية التفاوضية الجارية، ودون أن يتعامل المجتمع الدولي مع هذه الخطوة كإنجازٍ تفاوضي بين الطرفين، أي كنتاج لمفاوضات بين ممثلين سياسيين لطرفَين متحاربَين، أو بينهما عداء مزمن.

لماذا فضّل شارون الانسحاب من غزة من طرف واحد؟ ببساطة، لأنه أراد التخلّص من العملية السلميّة الجارية مع الفلسطينيين، والتي بدأها حزب "العمل" بقيادة إسحاق رابين، ودفع حياته ثمناً لها على يد اليمين الإسرائيلي بتحريض من زمرة بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية)، تماماً كما دفع عرفات حياته ثمناً لهذه العملية على يد اليمين نفسه بزعامة شارون.

كان شارون يريد التعامل مع القضية الفلسطينية كشأنٍ داخلي إسرائيلي، لا كقضية لها ممثلون سياسيون يتحدثون باسمها في المحافل الدولية، ويفاوضون باسمها واسم شعبها، ويوقعون الاتفاقيات مع أعدائهم برعاية دولية. وهو يريد التخلّي عن الاعتراف الذي تم من قبل دولته بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثّل سياسي للفلسطينيين، وتركهم بلا جهة تنطق باسمهم سوى إسرائيل، كأقلية من إثنية أخرى أو كرعايا من ديانة أخرى، يمكن الانفصال عنهم حين تشاء إسرائيل ولا أحد غيرها، سواء بفكّ الارتباط كما حصل في غزة، أو بالجدار العازل كما كان يحدث في الضفة حول التجمعات السكانية الفلسطينية.

مختصر الكلام، من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي، الفلسطينيون سكان أو مقيمون لا أكثر، وليست لهم حقوق قومية، كما "أخطأ" واعترف بذلك حزب "العمل" ورابين -من وجهة نظرهم- وتالياً يرى هذا اليمين أنه هو من يقرّر مصير الفلسطينيين دون تدخّل من أحد. وأولى خطوات تقرير هذا المصير كان عزل الفلسطينيين عن العالم، وإسقاط تمثيلهم السياسي بعدم التعامل معه أو التوقيع معه على أي اتفاق.

في ذلك اليوم، كان أبو مازن بصحبة القيادة الفلسطينية يتخبّطون وتغلي رؤوسهم داخل المقاطعة، وهم يقومون باتصالات مع رعاة العملية السلمية ومع دول الإقليم. فقد فهموا لعبة شارون جيداً، لكنهم كانوا عاجزين عن مواجهتها حتّى بالتصريحات؛ فمن ناحية لا يستطيعون منع أو حتّى المطالبة بمنع انسحاب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين من أرضهم، وهو الأمر الذي لطالما تمنّوه، ومن ناحية أخرى لا يمكنهم السكوت عن استثنائهم تماماً من هذه الخطوة، والتعامل مع غزّة وكأنّ "ليس لها صاحب".

من وجهة نظر اليمين الإسرائيلي، فإنّ الفلسطينيين مجرد سكان أو مقيمين، وليست لهم حقوق قومية، وتالياً هو يرى أنه من يقرّر مصير الفلسطينيين دون تدخّل من أحد. وأولى خطوات تقرير هذا المصير كان عزل الفلسطينيين عن العالم وإسقاط تمثيلهم السياسي، بعدم التعامل معه أو التوقيع معه على أي اتفاق

حركة "حماس"، في المقابل، لم تفوّت الفرصة بأن جيّرت هذا الانسحاب لصالحها ولصالح برنامجها السياسي، فقد خرجت في مسيرات واحتفالات صاخبة، وهتف قادتها بأنّ هذا الانسحاب لم يكن ليتم لولا الخسائر التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في "نتساريم"، حيث كان قد قُتل ثلاثة جنود إسرائيليين نتيجةً لهجوم قامت به كتائب القسام قبل ذلك بأسابيع. وقد أكدت، ولا تزال، أنّ هذا الانسحاب إنما تم تحت "ضربات المقاومة"، وهو ما يؤكد على صوابية برنامجها القائم على "مقاومة المحتل"، لا "التفاوض معه".

المثير للدهشة أنّ أحد أبرز المعترضين على ذلك الانسحاب كان نتنياهو نفسه، والذي كان يشغل حقيبة المالية في حكومة شارون، حيث قدّم استقالته من الحكومة مبرّراً إياها بأنه لا يمكنه البقاء في حكومة تتخلّى عن جزء من "أرض إسرائيل التاريخية".

ولم تكد تمرّ سنة على هذا الانسحاب حتى فازت "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وقامت بتشكيل حكومتها الأولى برئاسة إسماعيل هنية، وهي الحكومة التي قاطعها العالم ورفض تمويلها، ما استدعى تشكيل حكومة "وحدة وطنية" للخروج من هذا المأزق، وهي حكومة برئاسة "حماس" أيضاً، وبأفضلية ملحوظة لها. لكن "حماس" انقلبت على هذه الحكومة واستطاعت الاستيلاء على قطاع غزة، وما تبع ذلك جميعنا يعرفه، وعلى رأس ما نعرفه تسهيل المال القطري الذاهب إلى حماس من قبل نتنياهو نفسه، ما ساهم في تقويتها وتكريس الانقسام الفلسطيني.

أما الآن، وبعد مرور عامين على حرب الإبادة والتهجير التي يقوم بها نتنياهو في غزة، وبعد أن وصلت مفاوضات صفقة "الأسرى الإسرائيليين" إلى مرحلة بدت للمراقبين وكأنها الخاتمة، وكأنّ الحرب تشرف على نهايتها، قرّر نتنياهو "فجأةً" أن ينسحب من هذه المفاوضات، هو وصاحب الاقتراح، المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، وأن يبحثا "عن طرق أخرى بديلة لاستعادة الأسرى" وكأنه يقول لـ"حماس" وللوسطاء ولأهالي الأسرى الإسرائيليين: "أنا لستُ معنياً بالتوقيع على أي اتفاق".

على الرغم من أنه كان أبرز المعترضين على قرار شارون الانسحاب من غزّة، قرّر نتنياهو "فجأةً" الانسحاب من المفاوضات مع حماس، للهدف نفسه الذي أراده شارون؛ عزل الفلسطينيين والهروب من أي استحقاق سياسي قد يترتب على أي اتفاق معهم

اللافت في الأمر أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خرج مباشرةً ليصرّح للصحافة بتأييده هذا القرار، وبإضافة خارجة عن كل سياق، وهي وصفِهِ انسحاب شارون من غزة قبل 20 عاماً بـ"القرار غير الحكيم".

لكن، سواء أكان ذلك القرار حكيماً أو لم يكن، وسواء أكان قرار الانسحاب الحالي من المفاوضات مبرَّراً أو غير مبرَّر، فإن الغاية الأساسية من القرارين هي الهروب من أي استحقاق سياسي، قد يتبع التوقيع على اتفاق مع أي طرف فلسطيني. ففي حين هرب شارون من ذلك مع القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني مع علمه المسبق بأنّ القادم "حماس"، فإنّ نتنياهو يفضل أن يبيع حماس انتصاراً يطيل فترة الحرب، على أن يجد نفسه في خضم مفاوضات اليوم التالي، باستحقاقات سياسية قد تجبره على الجلوس مع الشرعية الفلسطينية نفسها، والتي يعمل منذ 30 عاماً على استبعادها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image