سوريا بعد سنة من حكم الجولاني

سوريا بعد سنة من حكم الجولاني

رأي نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 8 ديسمبر 20258 دقائق للقراءة

تُنشَر هذه المادة ضمن ملف "عام على ماذا؟... وإلى أين؟"، الذي ينشره رصيف22 بعد عام على سقوط نظام الأسد، وبكل ما عناه هذا العام للسوريين والسوريات من أمل وخذلان ومحاولات للنجاة.


بعد ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، وخطاب النصر الذي وجّهه أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، لأنصاره، والتخلّص من نظام الأسد، ماذا تبقّى من نصرٍ لعموم السوريين؟ وأيّ أغلبية تمثّل الرأي العام السوري اليوم بعد مرور سنة على "الليلة الكبيرة"؟ وما هو واقع الحياة الفعلية لسكان شمال شرق سوريا؟ وأين بقية الأقليات السورية؟ وهل كان نصراً حقاً، نصراً للحرية الموعودة وتحقيقاً لحلم طال انتظاره؟

أزمة تمثيل الأغلبية

إذا ما قبلنا من حيث المبدأ أنّ الأغلبية السورية مسلمة عربية سنّيّة، فهذا يفترض سلفاً أننا نصنّف السوريين على أساس قومي ديني طائفي. والأساس هذا يناقض جذرياً مبدأ ومنطلق الثورة السورية 2011، في بداياتها الواعدة بحق "الشعب السوري الواحد"، أي لا تمييز ولا تفضيل لفئة سكانية على أخرى بسبب العرق أو الدين. وحدة السوريين لم تكن وهماً ولا حلماً. كانت واقعاً وحقيقةً، إذ ما الذي يدفع سكان بلدة عامودا الكردية أقصى شمال شرقي سوريا للتضامن والدفاع عن أطفال درعا وأهلها؟ وما الذي يجعل سكان حمص يثورون ضد الأسد وشبيحته إذا لم تكن وحدة السوريين دافعهم الأساسي؟

المشكلة الأساسية هي إرغام السوريين من جديد على التماثل والتشابه، والخضوع لجسد واحد، جسد أغلبية منسجمة ومتشابهة ورافضة للغريب والأجنبي. الأكراد والعلويون والدروز هم غرباء سوريا الجديدة ومنبوذوها والمغضوب عليهم

لكن من يمثّل أغلبية السوريين اليوم؟ وكيف لنا حساب وتقدير صحة التمثيل هذا؟ وهل الأغلبية تحمل وحدة السوريين محمل الجدّ، أو تجد نفسها في غنى عن الأقليات الكردية والدرزية والعلوية والمسيحية؟

أكراد سوريا والتمثيل المزدوج

ينتاب أكراد سوريا شعوران متناقضان بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على الحكم وتوعّدها الأكراد باستعادة السيطرة على إقليم "Roj Ava"، بالقوة العسكرية المحضة وبالعنف العاري على الضد من اتفاق العاشر من آذار/ مارس 2025، بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي؟

من جهة، هم ضد تسليم "قسد" سلاحها والذوبان في هيكلية الجيش السوري الجديد بقيادة فصائل إسلامية سنّية متطرفة، ومن جهة مقابلة ليسوا كلهم راضين عن حكم "قسد" لهم. عشر سنوات من الإدارة الذاتية أفضت إلى الإفقار، وإلى ما يشبه النهب الذاتي. هذه حصيلة حكم الميليشيات. برغم تمتّع أراضي الجزيرة السورية بثروات النفط والغاز والزراعة، لا ترى أثر الغنى والثروة على أحوال سكان شمال شرقي سوريا. الطرق مهدّمة، والخدمات العامة سيئة، والمدارس تحت حكم "قسد" ومناهجها الإجبارية، وهي مناهج حزبية بالأساس. إذا كان من معنى فعلي للإدارة الذاتية الكردية، فهو إدارة الناس هناك لأنفسهم بأنفسهم، بما يتلقّون من إعانات وتحويلات من أبنائهم من خارج سوريا. هم من يدفعون اشتراكات الكهرباء الغالية، وهم من يضطرون إلى شراء البذار والأسمدة بأسعار السوق السوداء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أسعار الوقود.

لم ينتخب أحد "قسد"، لتكون الناطقة الشرعية والوحيدة باسم الأكراد السوريين. لكنها حقيقة، وفي الواقع تنطق باسمهم وتدافع عنهم دفاعا ماراثونياً لاهثاً، بل هي الممثلة الوحيدة والفعلية لهم. الجولاني أيضاً لم ينتخبه أحد. في هذا نوع من المساواة القسرية المتبادلة. سوريا الآن بلد القسر والإجبار. فماذا تبقّى والحال هذه من أهداف الثورة السورية 2011؟

الثورة تغيّرت وغيّرت، وصارت سوريا نفسها بلداً آخر.

الحاجة أو الهوية؟

هل تشبه سوريا السوريين بالفعل؟ من يجزم وعلى أي أساس؟ إذا قسنا الأمر بمعيار الحرية الفردية، فلا أحد شاور السوريين كأفراد أحرار مستقلين في مستقبل بلدهم، على الرغم من أنّ سوريا اليوم بلد جماعات لا أفراد، ومنها الأكراد أنفسهم. الصراع السوري البيتيّ صراع هويات لا صراع حقوق وقوانين. والصراع الجماعاتي يُبرز الاختلافات لا التوافقات، ويوتّر الأنفس، وردود الأفعال غير المنضبطة. يحوّل ردود الفعل إلى حشد من انفعالات هوجاء.

ما حصل من مجازر في جبال العلويين حطّم الأمل في غدٍ يتساوى فيه السوريون مواطنين أحراراً لا طوائف وإثنيات. ثم جرى تأكيد ذلك بمقتلة السويداء الرهيبة.

على هذا، فإنّ سوريا بلد يختلف أساساً على تعريف نفسه، وتحديد هويته العامة الجامعة. هل نحن السوريين عرب أو أكراد؟ مسلمون أو غير مسلمين؟ متديّنون أو ضد تدخّل الدين في السياسة؟ لكن هذا كله لا يعني شيئاً لشعب فقير وبلد متهالك. الأولوية حسب ما يذكر سوريون في دمشق وسواها من مناطق سوريا، هي استعادة الأمن والحصول على مستوى معيشة مقبول. ربما الصراع السوري الأساسي بيولوجي حياتي، وليس ثقافياً وهويّاتياً. الناس تبحث عن جحر أمان، حالهم حال أبطال كافكا، وعن دواء وكسرة خبز. وهذا يعني في ما يعنيه أنّ كهف تلبية الحاجات الأساسية هو الغاية، وأنّ المتطلبات لا تتجاوز ما هو ضروري ولا غنى عنه لأيّ عائلة. الحرية وشكل نظام الحكم، وفق هذه الحال، ليسا أساسيين. ليست الحرية راهن السؤال السوري الملحّ، وليس هذا أوانها.

الماضي الثوري كان الأوان الحق، لكنه تمزّق وتناثر وتلاشى. سوريا الآن أمام ذكراها وماضيها. أما مستقبلها، فتشير إليه مقتلة العلويين واستباحة الدروز وتهديد الأكراد والحطّ من شأنهم. من جديد نحن أمام عالم سياسي اجتماعي ضحل وضيّق، سقيم وممرِض، أناني وصغير. لا شيء يرقى إلى مستوى الدمار والآلام السورية.

العلويون والدروز

ما حصل من مجازر في جبال العلويين السورية حطّم الأمل في غدٍ يتساوى فيه السوريون مواطنين أحراراً لا طوائف وإثنيات. ثم جرى تأكيد ذلك التحطيم المجتمعي والسياسي بمقتلة السويداء الرهيبة. لا ينبغي التقليل من شأن الحادثتين. ليستا من عمل فصائل منفلتة أو عشائر مسلّحة خارج سيطرة الأمن العام. ما حدث انتقام همجي وثأر بدائي. كان يمكن لعدالة انتقالية حقيقية أن تحلّ الأمر، وأن تكون الدليل والمعيار. ما حصل هو العكس: العمل بأدوات خارج سياسة رشيدة وحكيمة، وخارج روحية السوريين الحقيقية. سلطة الأمر الواقع، ممثلةً في الحكومة الانتقالية، هي المسؤولة.

نقول ونستخدم كلمتَي "العلويين" و"الدروز"، لأنّ استهدافهما والتنكيل بهما حصل على أساس طائفي وديني. جماعة سورية تُستهدف لأنها ليست سنّيةً، وليست جزءاً من مجتمع الطاعة والنصرة. ليست من الأغلبية المفترضة المتوهمة.

تمايزات ما قبل سياسية

مع ذلك، يمكننا ذكر تمايزات ما قبل سياسية. إنها أنماط حياة وأساليب تفكير، وهي بهذا لا تتشابه. المشكلة الأساسية هي إرغام السوريين من جديد على التماثل والتشابه، والخضوع لجسد واحد، جسد أغلبية منسجمة ومتشابهة ورافضة للغريب والأجنبي. الأكراد والعلويون والدروز غرباء سوريا الجديدة تحت حكم الجولاني، وهم منبوذوها والمغضوب عليهم، ما لم يسلكوا ويهتدوا بالصراط المستقيم، الطريق الواضح الذي يوصل إلى الطاعة لا غير .

عليهم أن ينسوا الاختلافات، أي أن يمحوا أنفسهم، وأن يتحدوا ويتذاوبوا في الجسد العام المطيع الذي هو جسد الأغلبية. الأجساد الفردية إما أن تخضع أو تمسخ نفسها الواهية في نفوس عامة مجرّدة. هذا ثمن السلم الأهلي الذي يبدو بمثابة تهديد أكثر من كونه استحقاقاً وعيشاً طبيعياً مسالماً، وحقاً أساسياً في حياة آمنة.

الصراع السوري البيتيّ صراع هويات لا صراع حقوق وقوانين. والصراع الجماعاتي يُبرز الاختلافات لا التوافقات، ويوتّر الأنفس، ويحوّل ردود الفعل إلى حشد من انفعالات هوجاء

تحويل سوريا إلى مسوخ متماثلة، أو البقاء تحت التهديد والترهيب والتضييق. تحويل التهديد والاعتداء الى نمط عام. نمط يألفه الجميع لشدّة ما يتكرر ويتواتر حتى يغدو شأناً عادياً. هذا يفضي في ما يفضي إلى غياب الحسّ العام، وشلّ إرادة الرفض، وتنويم قوة الضمير.

الجذر البعثي الخالد

يبدو من جديد أننا أمام حصيلة ثورية مؤسفة، وأمام تناقض جوهري، وعودة رجعية إلى الوراء. فالسوريون يولدون بعثيين. الأيديولوجيا الشمولية شيء كلون العين وشكل الوجه وملمس اليدين. إنها هبة من الطبيعة الخالقة، والثورة أضعف من الطبيعة الإلهية الصامدة. فما نكتسبه من خبرة يصغر ويتلاشى أمام هول وضخامة الطبيعة الأصلية التي تسكننا، والتي لا نبذل جهداً فعلياً لطردها والتخلص منها إلى الأبد. إنها الفطرة السامّة، والبدء المشوّه الذي لا يعقبه تمحيص ولا مراجعة أو نقد. إنها، ربما، ما قد يستحيل الشفاء منه.

لكن هل أتلفت الثورة والعنف ضمائر السوريين الأخلاقية، وأمرضتهم ومزّقتهم؟ أو أنها لم تكن مطهر النفوس، بقدر ما كانت مظهراً بانت فيه حقيقة سوريا العارية. وهذا يعني أنّ الثورة أظهرت أسوأ ما فينا، وأنّ قليلنا الجيّد والمفيد والناجح والمجدي صمتَ وانعزل، أو لاذ هارباً من الحشود والقطيع إلى المنافي، ولم يبقَ له من سوريا التذكار سوى الحسّ العدميّ الكابوسيّ، وسوى الآفة التي لا تزال تخنق الملايين من دون أمل حقيقي في غدٍ يعيد للسوري كرامته ويصنع من الثورة، وذكرى الثورة، أساساً لكل فكر حرّ عقلانيّ ومفيد للجميع دون استثناء ودون إقصاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منذ الثورة وحتى اليوم، كنّا مع الناس في سوريا:

وثّقنا الجرائم، واكبنا الأزمات، ونقلنا واقع المهمّشين/ ات.

بدعمكم، نُكمل التغطية المستقلّة بلا خوف.

Website by WhiteBeard
Popup Image