يُنشر هذا النص ضمن ملف "لنتخيّل"، وهو ملف مفتوح يضمّ نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات، وتقارير صحافية، يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل ماضٍ بديل، أو واقعٍ مختلف، أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.
هذه القصة ليست سوى تمرين تخيّلي هدفه التعمق في فهم الصلة المعقدة بين الإنسان والدين، باعتباره حاجةً وجوديةً متجذرةً في تكوين الفرد والمجتمع. ومع أنّ الدين كان، عبر العصور، سبباً لكثير من النزاعات، إلا أنّ حضوره في عالم اليوم كأداة في الحروب والسياسة يدفعنا إلى التساؤل الجادّ: ماذا لو اختفى كلياً؟ يحاول هذا النص أن يختبر أثر غياب الدين على الحياة البشرية، ليكشف أنّ الإيمان ليس مجرد منظومة، بل حاجة نفسية وفلسفية قد تكون أساسيةً لكل ما يجعلنا بشراً.
ذلك اليوم إذاً، كان بدايةً لعام كامل يعيش فيه البشر بلا أديان ومعتقدات ولا أي شكل آخر ذي صلة. باختصار، لم يعد هناك وجود لأيّ موروث ديني أو شعائر أو أسماء مقدسة، ولا ذكر للأنبياء أو الأساطير أو الكتب الدينية، وكل ما له علاقة بالإيمان اختفى دون أثر. وبالطبع لم يلحظ أحد ذلك من سكان كوكب الأرض، لأنه لم يبقَ في الذاكرة ما يُذكِّر الناس بأنّ هناك ما اختفى أصلاً عنهم، أو فيهم، ولا حتى معابد أو وثائق.
هذه القصة ليست سوى تمرين تخيّلي هدفه التعمق في فهم الصلة المعقدة بين الإنسان والدين، باعتباره حاجةً وجوديةً متجذرةً في تكوين الفرد والمجتمع. ومع أنّ الدين كان، عبر العصور، سبباً لكثير من النزاعات، إلا أنّ حضوره في عالم اليوم كأداة في الحروب والسياسة يدفعنا إلى التساؤل الجادّ: ماذا لو اختفى كلياً؟
مرت الأيام الأولى بروتينها وأسلوبها المعتاد، حيث استمر الناس في ممارسة أعمالهم التي كانوا يقومون بها قبل ذلك الصباح بشكل طبيعي تماماً. كثرٌ وجدوا أنفسهم يواجهون فراغاً لم يفهموه، ولا سيّما رجال الدين، إذ إن الأمر عندهم كان كما لو أنّ حياتهم كاملةً قد سُلبت منهم. وقعوا في حيرة من أمرهم، وظنوا أنفسهم عاطلين عن العمل فمضوا يبحثون عن أشغال هنا وهناك. وحتى المحجبات وقفن يتفحصن أغطية رؤوسهنّ دون أن يفهمن لم كنّ يرتدينها. منهنّ من خلعته، ومنهنّ من التزمن به ظنّاً أنه زيّ تراثي، وأخريات شعرن بأنهنّ ينتمين إليه بالفطرة دون سبب واضح. لا شك أنّ بلاداً مثل الهند أو سوريا أو لبنان شهدت تحولات كبيرةً اجتماعياً وسياسياً، ولكن الناس لم يدركوا ذلك. انحسرت نزاعاتهم واختلافاتهم، ولم يعد الدين عنصراً للاختلاف بين بني البشر، برغم أنّ العناصر الأخرى مثل اللون، أو الرأي السياسي وغيره، والعرق والجنسية، كانت لا تزال قائمةً، فأصبح الناس يُصنَّفون وفقاً لانتماءات سياسية بحتة، أو مجموعات لتشجيع فريق رياضي ما، ولكن لم يعد هنالك تصنيف على أساس أن هؤلاء مسيحيون، وآخرين مسلمون، وغيرهم بوذيون أو حتى لادينيون.
كان الأثر الإيجابي الأكثر وضوحاً لهذا العالم، أنّ النزاعات الأيديولوجية قد خفتت، على الرغم من صعود النزعة الفردانية على حساب ذلك. والسياسة، التي لطالما استعانت بالخطاب الديني لإثارة الحشود وتحريك الجماهير في معظم أرجاء العالم، فقدت فجأةً قدرتها على التأثير. من الصعب شرح كيف كان هذا مذهلاً بحقّ بادئ الأمر، فلم يعد ثمة لهيب يمكن إشعاله في نفوس الجماهير التي كانت متعطشةً في ما سبق لفكرة القداسة أو الشهادة أو الاستحقاق أو النصر المؤيد من السماء. ظهرت السياسة عاريةً من أدواتها القديمة، تبحث عن عبارات تحفّز العامة فلا تجدها، وتحاول بث الحماسة دون جدوى، وليس قليلاً القول إنّ حكومات بأكملها أوشكت على السقوط نتيجة ذلك، لأنّ الدين كان جزءاً من مسرحها السياسي، وأداةً رئيسيةً لتوليد المعنى الجمعي، وتبرير القرارات، وشحذ الهمم، ومع غيابها ارتبكت السياسة، وانكشفت هشاشتها. إلا أنّ السياسيين طوّروا بدلاً من ذلك مع مرور الوقت قدرتهم على حشد الجماهير حول فكرة تقديس القائد. لقد ابتدعوا قبل غيرهم فكرةً شبيهةً بالعبادة، ولكنها في هذه الحالة تدور حول عبادة القائد بالمعنى الحرفي. العديد من الدول نجحت في هذا النهج، وبدأت تظهر في هذا العالم أشكال متطرفة أكثر من ذي قبل في ما يخص طقوس عبادة القائد، ولم يعد الأمر يقتصر على رفع صوره، أو الهتاف باسمه. بل شُيّدت مبانٍ تشبه المعابد يعتكف فيها الناس يومياً للاحتفال بالقائد، وصارت جماعات تقدّم نوعاً من القربان له، وكثيراً ما كان هذا القربان عبارةً عن روح أو إيذاء للنفس كما عند بعض الطوائف في العالم الحقيقي.
لاحظ المثقفون والنخبة أنّ شيئاً في أحاديثهم ناقص، ولكنهم لم يستطيعوا تحديده. كان كل شيء في العلم الذي عرفوه واضحاً ومعرّفاً في الكتب والمراجع، ولكنه كما لو كان مقصوصاً من شيء ما، أو أنّ شيئاً ما قد قُصّ منه. وارتفعت معدلات الانتحار بشكل كبير في أوساطهم. ومن المعقول في هذا العالم أنّ أسماء العديد من الفلاسفة والعلماء القدامى قد اختفت، أو تمّ طمس بعض من نظرياتهم وأقوالهم لأنها تستند إما كلياً أو جزئياً إلى الدين وفلسفة الإيمان. فمثلاً، لم يعرف الناس في هذا العالم، الفرنسي باسكال، وحجته الفلسفية القائمة على مبدأ المكاسب والخسائر المحتملة، والتي تقول إنّ أفضل رهان هو الإيمان بالله، لأنّ مكاسب الإيمان في حالة وجود الله تفوق بكثير خسائر عدم الإيمان، حتى لو لم يكن هناك أي دليل على وجوده. ولم يعرفوا أيضاً ابن سينا الذي رأى أنّ الدين ضرورة اجتماعية، وحُذفت تماماً كل فكرة ووثيقة أو دلالة على تاريخ اليونانيين القدامى وأساطيرهم. هذه النقطة بالتحديد، أثّرت بشكل كبير على شكل الفنون في هذا العالم، فلم يعرف هذا العالم فنّاً أكثر من مجرد أساليب تعبيرية لا تستند إلى أي عمق أو فلسفة تتجاوز الماديات.
كان الأثر الإيجابي الأكثر وضوحاً لهذا العالم، أنّ النزاعات الأيديولوجية قد خفتت، على الرغم من صعود النزعة الفردانية على حساب ذلك. والسياسة، التي لطالما استعانت بالخطاب الديني لإثارة الحشود وتحريك الجماهير في معظم أرجاء العالم، فقدت فجأةً قدرتها على التأثير.
هكذا جرت الحال في الدراما والسينما والأدب، فقد اختفت آلاف المواد التي ارتكزت على الدين والإيمان في صنع عوالمها وشخصياتها. كان من الغريب حقاً كيف كشف هذا العالم عن القوة الهائلة للدين في الفن والإبداع، حتى حين تم استخدامه في سياقات سلبية نادت بضرورة التخلّي عنه أو الحدّ من تأثيره. ولعلّ الكتّاب في هذا العالم كانوا من أوائل الناس -إلى جانب السياسيين- الذين نزعوا إلى ابتداع أفكار شبيهة بالإيمان. لربما لم يكن من السهل أبداً، أو حتى من المستحيل عندهم، الغوص في الأعماق البشرية، وتفكيكها، ثم صنعها، وزجّها في القصص، دون المرور بوعي أو بغير وعي، بجانب أعلى قيمةً من الإنسان نفسه، وتالياً المرور أيضاً بمعظم الأسئلة التي طرحها أسلافنا على مر العصور، وشكلت نقطة بداية لظهور الآلهة والأديان والمعتقدات وغيرها.
حاول البعض ممن لم ترضِهم فكرة عبادة القائد، وقد عارضوها بشدّة، تطوير أنظمة أخلاقية علمانية بحتة، ولكنهم اصطدموا بإشكالية جوهرية: من يضمن الثبات الأخلاقي في غياب المطلق؟ كيف تُقنع إنساناً بالقيم إن لم يؤمن بأنّ هناك ما يتجاوزه؟ أو كيف تحثّه على التضحية أو العدل أو الإنصاف، إن لم يكن هناك شيء يسمو فوق المصلحة؟
لقد أصبح واضحاً بعد مضي أشهر أنّ الحاجة إلى الإيمان نزعة في الإنسان نفسه، وإن اختلفت أسبابها. البعض كان بحاجة إلى شيء يقدّم له المعنى، والبعض احتاج إلى معرفة أنّ ثمة ما هو موجود بعد الموت دون أن تكون حياته مجرد مرور عابر ببداية ونهاية. وآخرون أرادوا شيئاً ما، أو قدرةً ما، أكبر منهم، وإن لم تكن مرئيةً، تعزيهم في المصائب، وتعينهم على التجاوز والصبر. لم يلغِ عدم وجود الدين أخلاق الناس ووجود الخير، ولكنه في مكان آخر أزال عن الكثيرين الضابط الأخلاقي الوحيد لسلوكهم، فعلى الرغم من وجود القانون، وفكرة العقاب والجزاء، ارتفعت معدلات الجرائم بمختلف أنواعها أكثر من ذي قبل.
لم يسقط هذا العالم في مآسٍ وصراعات تقليدية أكبر من تلك التي يعيشها في الحقيقة، ولكن الفارق الجوهري هو أنّ الإنسان أصبح يبحث عن المعنى، أكثر من انشغاله في العمل أو الدراسة أو أي سلوك آخر عرفه، وعند اكتمال العام، كان معظم بني البشر قد ابتدعوا أشكالاً للعبادة شبيهةً بالأشكال التي ابتدعها الإنسان القديم عبر العصور، والذي عرف التوجه إلى السماء، والصلاة، قبل أن يعرف الكتابة. كثرٌ رفضوا الرضوخ لأشياء تتعارض والمنطق، لأنها لم تكن كافيةً أبداً للإجابة عن أسئلتهم الكبرى: من نحن؟ وكيف خُلقنا؟ لم ترضِهم أشكال العبادة المبتدعة تلك، وظلّوا في بحث عن غيرها.
لم يسقط هذا العالم في مآسٍ وصراعات تقليدية أكبر من تلك التي يعيشها في الحقيقة، ولكن الفارق الجوهري هو أنّ الإنسان أصبح يبحث عن المعنى، أكثر من انشغاله في العمل أو الدراسة أو أي سلوك آخر عرفه
في صباح يوم آخر، استيقظ الناس مجدداً في العالم الحقيقي الذي عرفوه سابقاً، وعاد كل شيء إلى وضعه السابق. تُركَت لهم مجموعة من الوثائق والمرئيات التي صوّرت طريقة عيشهم خلال عام كامل بلا أديان، وظلوا فترةً طويلةً يحاولون فهم ما جرى، وما المغزى من خوضهم هذه التجربة. حاولوا تصنيف نتائج التجربة في خانتَي السلبيات والإيجابيات، وتعمّق الباحثون في تأثير غياب الدين في كل مجالات الحياة الإنسانية. خلص الجميع في النهاية إلى أنّ المجتمعات البشرية الحية في هذا العصر قد بلغت، في استخدامها الأديان والمعتقدات، مستويات خطيرةً وغير مسبوقة من الانحدار، وأنّ العالم الذي ينقصه الدين هو عالم مثالي ولكن ينقصه الدين نفسه، إلا أنّ صورة الدين التي تنقصه، ليست تلك نعرفها اليوم، بل ما عرفه الناس في ذلك العالم التخيلي خلال رحلتهم البائسة لالتقاط المعنى الذي يجعل الحياة ممكنةً، ويضفي عليها الفن والجمال ويمنحها العمق الذي لا يمكن أن ينفصل عن الإنسان، دون أن يحوّله إلى آلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.