شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"سارة حجازي ماتت قبل الانتحار بكثير"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تندرج هذه المقالة ضمن مشروع "رصيف بالألوان"، وهي مساحة مخصّصة لناشطين وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمين لهم/نّ، للتحدّث بحرية ودون أي قيود عن مختلف التوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، للمساهمة في نشر الوعي العلمي والثقافي بقضايا النوع الاجتماعي، بمقاربات مبتكرة وشاملة في آن معاً.

"‏إلى إخواتي: حاولت النجاة وفشلت، سامحوني.

إلى أصدقائي: التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني.

إلى العالم: ‏كنت قاسياً إلى حد عظيم، ولكني أسامح". 

بعد مواجهتها النظام الأبوي بكامل أركانه في مصر: العائلة، والمجتمع، والأجهزة الأمنية، قررت الناشطة المصرية الكويرية سارة حجازي قبل عام إنهاء حياتها في منفاها بكندا، تاركةً هذه الرسالة.

كان آخر فصول حياة سارة قد بدأ حين رفعت علم قوس قزح في حفلٍ لفرقة مشروع ليلى في القاهرة، معلنةً مثليتها الجنسية، فاعتُقلت في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وتعرضت للتحرّش الجنسي والضرب من السجينات، وبعد خروجها من السجن عاشت في ظل ضغوط مجتمعية أجبرتها على السفر إلى كندا.



"قسوة العالم" التي ذكرتها في رسالتها لم تخفّ حتى بعد رحيلها، وهو ما دفع شخصيات عامّة للرد على أصحاب التعليقات المليئة بالكراهية تجاه سارة وأفراد مجتمع الميم-عين. من بينهم حامد سنّو، عضو فرقة مشروع ليلى المثلي الجنس، الذي تساءل: "من هو هذا الربّ الذي تؤمنون به والذي يمكن أن يخلق شخصاً أو أي شيء آخر بشكل غير مثالي؟ من هو الرب الذي يتغاضى عن هذه الكراهية؟ من هو الرب الذي يريدك أن تُصحح خلقه؟".

أما السؤال الذي كثيراً ما تردد، غالباً بلهجة مستنكرة متعجبة فهو: "لماذا انتحرت؟"، فسارة لم تعد في مصر، وبالتالي ربما انتفت الأسباب الداعية لذلك. لماذا الانتحار إذاً؟

"كل هذا قتلها"

يقول لرصيف22 مصطفى فؤاد، وهو صديق مقرب من سارة، إن السجن بالنسبة لها لم يكن السجن الفعلي أي الأسوار، وإنما كل ما عاشته منذ 2017 حتى سفرها. 

ويضيف: "كندا لم تكن 'بر أمان' لها. كانت تسميها 'المنفى' لأنها حاولت كثيراً التأقلم مع المكان، ومع الحياة بعد السجن، ومع موت والدتها، ولكنها لم تستطع لأسباب كثيرة، منها أنها كانت تعاني 'اضطراب ما بعد الصدمة'. لم تكن مستقرة على المستوى النفسي، وحاولت الاندماج والتعرّف إلى مصريين وكنديين ولكنها لم تستطع، وجاء موت والدتها ليكون 'القشة التي قصمت ظهر البعير'". 

كانت سارة تشعر بإحساس الشفقة كلما حكت قصتها لأحد. بحسب مصطفى: "أرادت سارة خوض نقاشات فلسفية أو ثقافية عميقة، مناقشة كتاب، الحديث عن الفن، لكنها لم تجد من تخوض هذه الحوارات معه، وشعرت باغتراب شديد".

كان صعباً عليها أيضاً دخولها وخروجها من السجن دون أن يتغير شيء، بما في ذلك خطابات الكراهية التي استمرت ضدها. "هي عايشة بحالها ولكن الناس مَسابوهاش. مصر مَسبتهاش. طول الوقت بتتسب". 

وتابع: "كانت تقول لي دائماً: قطعة قماشة تجعل الناس يكرهون لهذه الدرجة؟ ويغضبون من 'واحدة غلبانة قاعدة في حالها في كندا مش قادرة تردّ حتى عليهم'؟ كانت تخوض نقاشات فكرية كثيرة على فيسبوك ولكنها واحدة مقابل آلاف من البشر". 



ويعتبر فؤاد أن سارة قُتلت. "قتلها من كان يشتمها ليلاً ونهاراً ويحرض ضدها منذ بدأت بالكتابة عن آرائها على فيسبوك. قتلها من أصدر قراراً بحبسها، ومن اعتقلها من المنزل ومن حرّض السجينات معها كي يتحرشن بها ويعتدين عليها بالضرب. قتلها وكيل النيابة الذي كان خلال التحقيقات يتعمد إهانتها وكسر إرادتها. وقتلها رئيس مباحث السجن الذي كان مُصراً على أن 'يجننها'. منعت من الحديث مع أحد، كما منعت من التريّض ولم ترَ الشمس. كان ممنوعاً عليها كتابة أي شيء دون الاطلاع عليه. وحينما كنتُ أزورها في السجن كان يستمع إلى حديثنا أمين شرطة، ولم نستطع الاعتراض على الأمر".

"كل هذا قتلها. سارة لم تنتحر. سارة ماتت قبل ذلك بكثير"، يقول فؤاد ويختم: "في لحظات الغضب كنت أقول لمن تسبب في انتحار سارة: 'يا رب تدوقوا اللي داقته'. بعد ذلك فكرت: سارة كانت رسالتها الحب والسلام، لذلك صرت أدعو أن يجدوا في حياتهم صديقاً أو صديقة مثلها، ليشعروا بما تسببوا به من فقدان، فأنا أتذكرها كل يوم لاحتياجي لها". 

"قتل سارة حجازي من كان يشتمها ليلاً ونهاراً ويحرض ضدها. قتلها من أصدر قراراً بحبسها، ومن حرّض السجينات معها كي يتحرشن بها. قتلها رئيس مباحث السجن الذي كان مُصراً على أن 'يجننها'. منعت من الحديث مع أحد، كما منعت من التريّض ولم ترَ الشمس"

"جعلت رؤيتنا أوضح وجعلتكم أقبح"

"أن يصل المرء إلى مكان يحكمه قانون يحميه ويعطيه حقوقاً مساوية للآخرين هو أهم ما يمكن أن يُمنح لشخص عاش حياته عرضة للتمييز والقمع في بلاد قابعة تحت سطوة سلطتين دينية وعسكرية، لكن هل سيعطيه عائلة تحتضنه؟ مجتمعاً بديلاً؟ حبّاً ورفاق درب جدداً؟ هل سيعطيه جواباً وافياً عن سبب حدوث هذا كلّه؟"

تعود هذه التساؤلات إلى المهندس السوري سام داود (اسم مستعار)، 28 عاماً، وهو وصل مؤخراً إلى فرنسا بعد رحلة لجوء شاقّة. 

يقول لرصيف22 إنه يشكك في مصداقية مصطلح "برّ أمان"، معتبراً أن كندا قدّمت لسارة مكاناً آمناً لا تطاله أيدي القتلة وحراس الدين، لكنها لم تحمِها من الكراهية العابرة  للحدود ولم تشفِها من جراح الاعتقال، ولم تعزلها عن مواجهة كل تلك الأسئلة الفتاكة وحدها.

"أُشكك في مصداقية مصطلح 'برّ أمان'. كندا قدّمت لسارة حجازي مكاناً آمناً لا تطاله أيدي القتلة وحراس الدين، لكنها لم تحمِها من الكراهية العابرة للحدود ولم تشفِها من جراح الاعتقال، ولم تعزلها عن مواجهة كل تلك الأسئلة الفتاكة وحدها"

وعن تجربة اللجوء، يقول سام إنه شعر بأمان نسبي بعد وصوله فرنسا: "أمشي في الشوارع دون توجس من الآخر الذي اعتدت احتمال كونه خطراً"، وإنه بدأ يعتاد تلّقي تحية صباحية من رجال يرتدون بدلات عسكرية من دون أن يشعر أنه شخص مشتبه به. لكن يضيف متسائلاً: "حياتي ليست مهددة وليس لدي خوف من أن أُجبر على حمل السلاح لأدافع عن عقيدة قاتلة، لكن هل أنا بحال جيدة؟ لا أعلم. ليس من السهل أن تخلق قطيعة مع ستة وعشرين عاماً من عمرك". 

"وصلت إلى حيث أريد فوجدت نفسي بمواجهة مع كوني لا أحد"

وعن شكل حياته بعد اللجوء، يبوح: "وصلت إلى حيث أريد فوجدت نفسي بمواجهة مع كوني لا أحد. لم يسبق لي أن عرفت من أنا خارج حدود سجني، وها أنا أعطي لنفسي الحق كي أعرفها من جديد، أن أتشكل دون قوالب، لكن الأمر بحاجة لقوة أكبر من القوة التي لزمتني لأستمر في عالمي القاتم الذي لم أعرف سواه".

ويعتبر رحيل سارة "صفعة قاسية وضعتنا أمام هواجسنا ولعناتنا في الأوطان والمنافي"، قائلاً للذين ساهموا في قتلها: "إنها برحيلها أشارت لكم بسبّابتها واحداً واحداً، جعلت رؤيتنا أوضح، وجعلتكم أقبح".



"اعتقاد زائف: العبور إلى الجنة"

في سياق متصل، يقول لرصيف22 طبيب الأمراض النفسية يحيى الزرعي، المقيم في ألمانيا: "السبب الأول لحالات انتحار اللاجئين، الغيريين والمثليين، هو الإحساس بالغربة والعزلة بعد وصولهم، حاملين معهم توقعات يكون بعضها زائفاً مثل الاعتقاد أنهم يعبرون الى الجنة". 

ويشير إلى عوامل أخرى كغياب الدعم الأسري وصعوبة تشكيل العلاقات الاجتماعية: "هو أمر معقّد في دول الغرب ومرتبط بمعايير ثقافية لا تخلو من التمييز والعنصرية تجاه المهاجرين العرب".

ويتابع: "تعرضت نسبة كبيرة من أفراد مجتمع الميم في البلدان العربية للاضطهاد، وعدد كبير منهم يعانون الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة نتيجة ضغوط المجتمع 'المحافظ' وسلوكه الإقصائي والعدواني تجاههم على الصعيدين القانوني والاجتماعي. هذه المشاعر تحتاج إلى استشارات وعلاج ودعم نفسي طويلي الأمد، لكن أغلبهم لا يعلمون شيئاً عن توّفر مراكز الدعم النفسي في دول اللجوء، أو لم يتشجعوا بشكلٍ كافٍ لأخذ هذه الخطوة، إضافة لوجود حاجز اللغة وقلّة وجود المعالجين النفسيين المتحدثين بالعربية".

ويختم: "سيشعر أفراد مجتمع الميم بالأمان التام عندما يعاملون على أنهم جزء من نسيج المجتمع، وعندما لا يخافون من التصرف على سجيّتهم، وعندما لا يشعرون بالاضطهاد والإقصاء من قبل العائلة والمجتمع والدولة والدين".

"خلاص مؤقت"

"يتغذى قمع الجمع من قمع الأقلية في مجتمعاتنا. فالجمع مقموع في كل السياقات، ونتيجة لذلك تقمع الأقلية".

هذا ما تقوله لرصيف22 المحامية المتدربة والناشطة الفلسطينية هديل أبو صالح، مضيفة: "فهم السيرورة التي تمر بها شعوبنا المقموعة منذ عقود طويلة أكدت لي أن خلاصنا جماعي وليس فردياً، ثورة كويرية على كل العادات البالية".

"فهم السيرورة التي تمر بها شعوبنا المقموعة منذ عقود طويلة أكدت لي أن خلاصنا جماعي وليس فردياً، ثورة كويرية على كل العادات البالية"

وترى أن الهجرة حتمية كحتمية العودة بعدها، وتقول: "كأشخاص نعيش تجارب جندرية وجنسية مختلفة نواجه القمع في سياقات عديدة ومتقاطعة في أوطاننا، ما يمنعنا من اكتشاف ذواتنا الحقيقية، وفي أحيان كثيرة يجبرنا ذلك على أن نبتعد عنها. الهجرة فرصة لممارسة حياتنا بمعزل عن كل السياقات تلك، والنظرة من بعيد تمنح الإنسان إمكانية تفكيك واقعه وربما العودة إليه والمساهمة في تغييره. في الهجرة خلاص مؤقت".

"سرق الشرق عمري"

بخلاف ما سبق، تقول لرصيف22 كاتبة الرواية السورية العابرة جنسياً والناشطة الحقوقية ريمي كارون (42 عاماً) إنها ما إن صعدت الطائرة (من الرياض إلى باريس) حتى شعرت وكأنها وُلدت من جديد.

ترى كارون أن "سارة قُتلت بالتنمر والتهديدات وعدم القبول، ليجتمع اكتئاب السنة الأولى للوصول مع ما أضافه كارهو الحياة، فبحثت عن عالم آخر قد تجد فيه الراحة والسكينة". 



وتضيف أنها لا تزال تتلقى تهديدات من "مجتمعاتها السابقة" ولكنها تتجاهلها، أما المشاعر التي كثيراً ما رافقتها في السابق، فما برحت تظهر لها في كوابيس تنتهي مع استيقاظها.

"الشعور السيىء الوحيد لدي الآن هو أن الشرق سرق عمري"، تقول ريمي، مشيرة إلى أنها "بدأت تتعالج بالهرمونات تمهيداً لعملية تصحيح الجنس، وهي مقبلة على حياة جديدة مليئة بالتجارب"، وتتبع بمقولة جلال الدين الرومي: "عندما تتخطى مرحلة صعبة من حياتك أكمل الحياة كناج وليس كضحية". 

هذا المشروع بالتعاون مع المؤسسة العربية للحريات والمساواة AFE وبدعم من سفارة مملكة هولندا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

الأفراد في مجتمعاتنا مختلفون/ ات، ومتنوعون/ ات، وكي نبني مجتمعات كريمةً وعادلةً، لا يسعنا سوى تقبّل هذا الاختلاف والبناء عليه، واحترام قيمة الإنسان في الدرجة الأولى. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فهي جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image