شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حين يصبح الجسد ساحة نضال: ليلى سويف والاحتجاج الأخير

حين يصبح الجسد ساحة نضال: ليلى سويف والاحتجاج الأخير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 5 مارس 202508:23 ص

في غرفة لم يعد للوقت فيها معنى، تستلقي ليلى سويف، على سرير المستشفى. جسدها الهزيل ممدّد في استسلام ظاهريّ، لكن خلف هذا الهدوء القسري، هناك مقاومة صامتة تتحدى الانهيار. وجهها، الذي عرفه الجميع قوياً وصامداً، صار الآن شاحباً، كأنما أفرغت منه الأيام الطويلة من الإضراب كل طاقة ممكنة. ذراعاها واهنتان بجانبها، لا تحملان سوى أثر الجوع الممتد، وعيناها الغائرتان تحدقان إلى أعلى، إلى نقطة غير مرئية، كأنما تبحث عن شيء مفقود، عن ظلّ ابنها علاء عبد الفتاح، عن دليل يثبت أنّ غيابه ليس الحقيقة الوحيدة المتبقية.

في الأنظمة التي تقوم على القمع، يدرك المعارضون سريعاً أنّ أجسادهم هي الملاذ الأخير للمقاومة.

منذ أكثر من خمسة أشهر، لم يكن الطعام خياراً بالنسبة لها. لم يكن قراراً بالاستسلام، بل محاولة لإجبار العالم على الالتفات. فحين تتجاهلك الأنظمة، وحين يُختزل كل نداء في إجراءات بيروقراطية صمّاء، يصبح الجسد نفسه وسيلةً للاحتجاج. يصبح الجوع لغةً أخيرةً تتحدثها أمام عالمٍ يصرّ على الصمت.

لكن هذا لم يكن جديداً على ليلى سويف. فقد قضت حياتها تتنقل بين الجامعات والمظاهرات والسجون، تحمل بين يديها كتاباً وشعاراً، بين عقلٍ رياضي مُحبّ للمنطق، وقلبٍ سياسي يدرك أنّ المنطق وحده لا يكفي. في الرياضيات، هناك دائماً إجابة صحيحة، معادلة تقودك إلى الحل. أما في السياسة المصرية، فالمعادلات تُعاد صياغتها كيفما تشاء السلطة، والنتائج لا تُبنى على المنطق، بل على القوّة. وحين لا تعمل القوانين لصالحها، يتكفّل القمع بالباقي.

الاحتجاز كأداة قمع: حين يصبح السجن فكرةً

بدأ الأمر قبل عقود، عندما كانت ليلى سويف شابّةً تؤمن بأنّ المعرفة موقف، وليست حياداً. لم تكن مجرد أكاديمية تراقب المشهد من بعيد، بل كانت جزءاً من تيار يساري يرى في العلم والفكر أداتين للتغيير، لا مجرد مساحاتٍ للنقاش المجرّد. وبطبيعة الحال، وضعتها هذه القناعة في مواجهة مباشرة مع السلطة، لكن ربما لم تتخيّل حينها أنّ هذه المواجهة لن تنتهي، بل ستصبح معركتها الأبدية، ليس فقط من أجل أفكارها، بل من أجل أبنائها أيضاً.

لم يكن علاء عبد الفتاح، مجرد اسم في قائمة المعتقلين السياسيين، بل كان انعكاساً لمعضلة دولة تخشى الكلمات أكثر مما تخشى التهديدات المسلحة. منذ عام 2011، وهو يتنقل بين السجون. تتغير التهم لكن الجريمة واحدة: إنه يتكلم. في نظام يعدّ الصمت ضماناً للاستقرار، يصبح امتلاك صوت، ولو بالكلمات فحسب، خروجاً عن الصفّ، وتمرّداً لا يُغتفر.

عندما أنهى علاء، فترة سجنه الأخيرة في أيلول/ سبتمبر 2024، كان من المفترض أن يستعيد حريته، لكن في مصر، ما كل من قضى عقوبته يخرج من السجن. هذه المرة، لم تكن هناك محاكمة جديدة أو تهمة إضافية، بل مجرد قرار غامض باحتجازه دون تفسير. البيروقراطية التي من المفترض أن تكون آليةً إداريةً، تحولت إلى أداة عقابية. لا أوراق رسميةً تُثبت استمراره في السجن، ولا خطوات قانونية واضحة، بل واقع بسيط فحسب: علاء لن يخرج.

وحين تلاعبت الدولة بالقوانين، قررت ليلى سويف، أن تلعب بقواعدها الخاصة؛ إن كانوا قد صادروا حرية ابنها، فإنها ستصادر من نفسها الشيء الوحيد الذي تملكه بالكامل: جسدها.

رهان ليلى سويف لم يكن على شفقة النظام، بل على مواجهته بحقيقة أفعاله، على دفعه إلى لحظة لا يستطيع فيها التستر خلف الشعارات القانونية، على إجباره، ولو بالصمت، على الاعتراف بأنّ ما يحدث ليس تطبيقاً للقانون، بل انتقام سياسي مقنّن

الإضراب عن الطعام: حين يصبح الجسد وثيقة احتجاج

حين قررت ليلى سويف، أن تتوقف عن تناول الطعام، لم يكن ذلك فعلاً رمزياً أو محاولةً للفت الانتباه. لم تكن تسعى إلى إثارة عاطفة أو استجداء موقف إنساني من سلطة لا تعبأ بالمآسي الفردية. لقد كانت تعلم أنّ هذا النظام، الذي مضى عقد من الزمن وهو يتجاهل نداءات آلاف المعتقلين وعائلاتهم، لن يتأثر بسهولة بمشهد أمٍّ تنهكها الأيام الطويلة دون طعام. لكن رهانها لم يكن على شفقة النظام، بل على مواجهته بحقيقة أفعاله، على دفعه إلى لحظة لا يستطيع فيها التستر خلف الشعارات القانونية، على إجباره، ولو بالصمت، على الاعتراف بأنّ ما يحدث ليس تطبيقاً للقانون، بل انتقام سياسي مقنّن.

في الأنظمة التي تقوم على القمع، يدرك المعارضون سريعاً أنّ أجسادهم هي الملاذ الأخير للمقاومة. حين تُسدّ أمامهم كل المنافذ؛ لا مسيرات، لا بيانات، ولا منابر، يتحول الجسد نفسه إلى أداة احتجاج، إلى ساحة معركة مفتوحة لا يمكن للسلطة أن تغلقها أو تقمعها بالقوانين المعتادة. الإضراب عن الطعام ليس مجرد رفضٍ للأكل، بل رفضٌ لمنطق السلطة ذاته، ذلك المنطق الذي يرى في المعتقل رقماً، وفي السجين ورقةً يمكن التلاعب بها، وفي الأمّ المفجوعة مجرد ضجيج سيتم تجاهله حتى يخفت.

لكن ليلى سويف، ليست سجينةً، وهذا ما يجعل معركتها مختلفةً. النظام يعرف كيف يُخرس المعتقلين داخل الزنازين، لكنه لا يعرف كيف يتعامل مع أمّ تقف في العلن، وتستخدم جسدها كسلاح، وتحرم السلطة من رفاهية إخفائها خلف القضبان.

السؤال الذي يلوح في الأفق الآن، ليس إلى متى يمكن أن تستمرّ ليلى سويف في هذا الإضراب؟ بل إلى متى يمكن للنظام أن يواصل تجاهله؟ هل يستطيع أن يبقى صامتاً بينما تتلاشى صحة امرأة تقاتل من أجل ابنها؟

الخوف من الرموز

لا يخشى النظام الحالي المعارضة المنظّمة، بقدر ما يخشى الأفراد الذين يتحولون إلى رموز. وهذا تحديداً ما يجعل ليلى سويف، مصدر إزعاج. إنها لا تخوض معركتها باسمها فحسب، بل تحمل معها أصوات أمّهات وآباء فقدوا أبناءهم في متاهة القمع، وترفض أن يكون الصمت هو الخيار الوحيد المتاح لهم.

في مصر، ليست التجمعات الجماهيرية هي ما يهدد السلطة، إذ يمكن تفريقها بالقوّة، وقمعها بالقوانين، أو تشويهها إعلامياً. لكن القصص الشخصية، تلك التي تتسلل بهدوء إلى الوعي العام، هي ما يثير القلق حقاً؛ لأنها لا تُنسى بسهولة، ولا يمكن القضاء عليها بإصدار قانون جديد. ليلى سويف، سواء أدركت ذلك أو لا، تعيد كتابة شكل الاحتجاج السياسي في مصر، لا بالشعارات، أو الحشود، بل بجسدها الهزيل، أضعف أدوات المقاومة، وأشدّها تأثيراً.

السؤال الذي يلوح في الأفق الآن، ليس إلى متى يمكن أن تستمرّ ليلى سويف في هذا الإضراب؟ بل إلى متى يمكن للنظام أن يواصل تجاهله؟ هل يستطيع أن يبقى صامتاً بينما تتلاشى صحة امرأة تقاتل من أجل ابنها؟ أم أنّ الصمت، كما في مرات عديدة سابقة، سيكون جزءاً من إستراتيجية أطول تستهدف إنهاكها قبل أن تنهار تماماً؟

الإضرابات عن الطعام لا تفضي دائماً إلى تحقيق المطالب. في بعض الأحيان، تنتهي بالموت، وأحياناً بتدخّل طبّي قسري يُعيد الحياة إلى الجسد لكنه لا يعيد الكرامة. وفي أحيان أخرى، تخفت الأضواء الإعلامية وتصبح مجرد قصة أخرى في أرشيف المآسي التي لم تغيّر شيئاً. لكن حتى لو لم يأتِ النصر بشكل مباشر، فإنّ ما فعلته ليلى سويف، قد ترك أثراً لا يمكن محوه؛ لقد أجبرت النظام على اتخاذ موقف، حتى لو كان موقف التجاهل، وجعلت من علاء عبد الفتاح، قضيةً لا يمكن إغلاقها بسهولة.

لكن هناك سؤالاً أكبر يتجاوز هذه اللحظة: إلى متى يمكن لأيّ نظام أن يحكم بالخوف وحده؟ التاريخ يقول إنه لا يستطيع، والحاضر يقول إنه قادر، على الأقل لفترة أطول مما يتوقّعه كثيرون. ومع كل يوم يمرّ، تواصل ليلى سويف إضرابها، ويظلّ جسدها المنهك شاهداً على معركة لم تعد تدور حول ابنها فحسب، بل حول فكرة أكثر اتساعاً: هل يمكن للحقيقة، ولو كانت محمولةً على جسد ضعيف، أن تنتصر في مواجهة القمع؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image