مع كل قطرة دم سورية تُراق… يشعر الكردي بأنّ شيئاً في عظامه قد تكسّر

مع كل قطرة دم سورية تُراق… يشعر الكردي بأنّ شيئاً في عظامه قد تكسّر

رأي

الاثنين 28 يوليو 20258 دقائق للقراءة

من قلب الكورد النابض، من قامشلو، حيث تتداخل المآسي وتتشابك الدروب، تحمل الأرواح المعلّقة بين الماضي الثقيل والحاضر المُخيف، قصصاً وهواجس عديدةً، تعيش بين خوف عضالٍ ومستقبل مجهول. 

يقول الكرد في سوريا: "لسنا مجرّد رقمٍ في إحصائيات الحرب، بل نسيج بشريّ، نعيش كل يوم فصول الألم والأسى والخوف العميق". تحمل عيونهم حكايات عن نزوح قسري، وتجربتهم في عفرين وسري كانيه وكري سبي. يتذكرون فقدانهم الذي لا يُعوّض، وصراعات لم تترك حجراً على حجر.

في مناطقهم التاريخية، حيث الجغرافيا التي أرهقتهم، وخرائط رُسمت بأقلام الوافدين الانتدابيين، يقف الكرد على ناصية السؤال العميق: هل نحن من هذه البلاد؟ هل ننتمي إلى سلالة الأرض؟ أو نحن عابرو سبيل في كتاب الآخرين؟ هل لهذا لم نسترِح ولم نَنَم ليلةً بهدوء وسكينة؟ في هذه البقعة المنسية من التاريخ السوري، لا يتكرر الزمن، بل يتفاقم ويزداد خسارةً في أرواحنا. الخوف هنا ليس عارضاً سياسياً، بل نسق وجودي، وكينونة تعيد تعريف الذات كل صباح. "كارين" التي تحمل كتبها باتجاه كلية التربية في حيّ غويران في الحسكة، تكتب طوال الطريق على أوراق دفاترها: "الخوف من الآخر، من لحظة إذاعة صوت الرصاص، من اندلاعِ مواجهة بين السوريين من قامشلو والحسكة، مع آخرين من إدلب وحمص والشام. ترسم لنفسها حجم المآسي التي تنتظرهم، خلال الخوف من الحرب، وحجم المباهج والرخاء الذي يكبر خلال الاستقرار والحوار".

في مناطقهم التاريخية، حيث الجغرافيا التي أرهقتهم، وخرائط رُسمت بأقلام الوافدين الانتدابيين، يقف الكرد على ناصية السؤال العميق: هل نحن من هذه البلاد؟ هل ننتمي إلى سلالة الأرض؟ أو نحن عابرو سبيل في كتاب الآخرين؟ هل لهذا لم نسترِح ولم نَنَم ليلةً بهدوء وسكينة؟

إذاً هو "ليس الخوف مما نجهله، بل مما نعرفه جيداً"، يقول سارتر دائماً. والخوف الكردي ليس من العدم، بل من التكرار نفسه، من أن يعود التاريخ بملامحه القاسية ذاتها، وأن يُعاد إنتاج الإلغاء باسم الوطن، والإنكار باسم السيادة، والتهجير باسم الأمن، والمساواة الهشّة الخدّاعة باسم الدين. هذا الحديث كله هنا عن مدنٍ كانت تضجّ بالحياة، فأصبحت أطلالاً تشهد على وحشية الصراع. في مدن كقامشلو وعفرين وكوباني، لم يكن الحصار مجرّد منع للخبز والدواء، بل عزلة للروح عن أملها. صار الهواء مشوباً بشبهة الخيانة، وكل خطوة على الأرض كأنها تُنتزع من خريطة. لا يخاف الكرد من الموت فقط، "بل من أن يموتوا دون أن يُقال لهم إنهم كانوا هنا، أن تكون دماؤهم بلا صوت، وأن تموت تضحياتهم بلا شاهد".

"الخوف هو غربة الذات عن ذاتها"، يقول إريك فروم. والكرد اليوم غرباء في أرضٍ دفعوا لأجلها من لحمهم ودمهم. يُراقبون المشهد السوري وكأنهم على شرفة المنفى، يتأملون تحالفات متغيرةً، وخرائط جديدةً، وكأنّ التاريخ يقول لهم: سأُكتب من دونكم، أو ضدكم، فاختاروا أهون الشرّين. هذا الخيّار المُرّ، ليس لأنهم خارج السياسية، بل لأنهم يُستخدمون داخلها كأوراق لا كذوات حرّة.

يتمزّق الكردي اليوم بين ثلاثية مرعبة: خوف من الاستبداد، قلق من خيانة الحلفاء، وانعدام يقينٍ بالمستقبل. لا يحمل إمكانية الثقة بما يُقال في العلن، فذاكرته مثقلة بالوعود المهزومة، وبتحالفاتٍ لفظته عند أول اختبار. أن تخاف، يعني أنك لست وحدك. هكذا يُواسي الكردي نفسه. يتّكئ على الذاكرة الجمعية، على أدب السجون، وأهازيج الثورة، وعلى أصوات الفنانين وهم ينشدون للهويّة، لا للسلطة. لكن هذه المواساة لم تعد كافيةً، فالمستقبل لا يُبنى على التغنّي بالمضي وحده، بل على شجاعة القول والفعل والاختيار.

لنعُد إلى قامشلو من جديد، ولنطُف في أزقتها وأحيائها، حيث تتعانق أرواح السنديان مع صدى التاريخ، وتتوهج قصص محفورة في ذاكرة الأرض. ليست قصصاً عن انتصارات باهرة أو هزائم موجعة. بل عن شقاء الألم المتسلل إلى النفوس. عن أمل الاستقرار الذي يرفض أن يتحقق. هذه الأيام الثقيلة في عموم سوريا، ألقت بظلالها على القرى الكردية الوادعة، حيث امتزج صمت الخوف من المجهول بصوت الرصاص. لا مكان للتجييش لديهم، ولا للعنصرية في تفكيرهم، فهي تفتك بالقلوب قبل الأجساد. هنا، فقط بشر يتصارعون مع قدرهم، يتم الزجّ بهم كي يرى كل منهم الآخر إما خصماً مجهولاً أو روحاً تائهة.

يتمزّق الكردي اليوم بين ثلاثية مرعبة: خوف من الاستبداد، قلق من خيانة الحلفاء، وانعدام يقينٍ بالمستقبل. لا يحمل إمكانية الثقة بما يُقال في العلن، فذاكرته مثقلة بالوعود المهزومة، وبتحالفاتٍ لفظته عند أول اختبار.

في إحدى تلك القرى يقف "أبو زارا"، وهو رجل مسنّ تمثّل قامته المتهالكة حكمة السنين وصبر من عايش صراعات سابقة ويتوق إلى الهدوء، ويرى في الطرف الآخر إنساناً تائهاً لا عدوّاً. وفي قرية مُجاورة يقف "ممدوح" الذي تربطه بالأمن العام السوري، علاقات تنظيمية وانتمائية إلى أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام. تعكس عيناه حيرةً داخليةً وصراعاً بين الواجب العسكري وشعوره الإنساني والجيرة. يتذكر نصائح أمّه عن الرحمة أو يتساءل عن الهدف الحقيقي من الصراع والقتال، إن حصل، والذي لا نهاية له. وعلى ضفّتَي الصراع، تقف نساء -الأمّ والأخت والزوجة- يمثّلن الألم المشترك والخوف على الأبناء والأحبّة، ويسلّطن الضوء على أنّ هذا الصراع يفتك بالجميع بغض النظر عن انتمائهم، ويبقى دعاء الأمهات للسلام هو الصوت الوحيد الذي يعلو فوق هدير الرصاص.

في تلك الأزقة المتهالكة، حيث تتناثر حجارة المنازل، وتشهد على هشّاشة الحياة في ظل الصراع، عند نقاط التماس والحواجز، تتصادم الإنسانيات، وتلتقي الأقدار. وعلى الرغم من قسوة الأحداث، يبقى الريف الكردي الشامخ، رمزاً للثبات والأمل، في تجدد الحياة، شاهداً صامتاً على الصراع الداخلي المشترك: الخوف، القلق، الحيرة، والأمل في السلام. لماذا يحدث هذا؟ ما هو الهدف؟ هل نحن الكرد والعرب أعداء حقاً؟ حقاً لا.

ففي قامشلو والحسكة وتل حميس، في كل الأحياء العربية والآشورية والكردية، كُل الجدران خائفة، تخشى ألا تُحمى من القصف، وألا تحفظ الأسرار. بل إنها جدرانٌ تسقط على من فيها دون أن تسألهم: من أنتم؟ إلى أيّ الطوائف تنتمون؟ هل تصلّون؟ وكم مرةً صلّيتم؟ هل أحببتم هذه البلاد لهذا بقيتم فيها؟ أو أنّ مقاومتكم كانت فقط للبقاء على قيد الحزن والأسى؟

أيُّ قطرة دم تُراق في سوريا، يشعر الكردي معها بأنّ شيئاً في عظامه قد تكسّر. فهو يعرف شكل الخوف حين يطرق الباب فجأةً، ويطلب قبض الروح دون مقدمة. حين يُقتل مدني في المنطقة الكردية، لا يتّهم حفار القبور بهويته، بل تسقط عليه الصواريخ كما يسقط المطر فوق السطوح بلا سؤال، وبلا شفقة، وبلا معنى. في هذا الخراب الممتد، لم نعد نملك ترف الوقوف في صفّ الحياد، مع الشرع أو ضده، مع الخصم أو السؤال من خصم من؟ بالتأكيد لا وقوف مع عواصم تُزايد على وجعنا من خلف شاشاتها. نحن فقط في صفّ الضحايا. في صفّ من لا يجد وقتاً لدفن أمّه، وابنه، ولا يملك حليباً لابنته، ولا مكاناً آمناً لليلٍ بلا انفجار. خسرنا ما يكفي لنفهم أنّ الدولة مهما كانت ضعيفةً أو هشّةً فإنّ وجودها أهم وأكيس من غيابها، وأنّ وجود سلطة تحمي الناس، خيرٌ من ألف بندقية تبحث عن مبرّر للثأر، وأنّ الكرامة لا تُنتزع من الآخرين، بل تُبنى معهم. لا نُريد حرباً بالنيابة، ولا انتقاماً من فوق، ولا صراعاً بالهويّة. نريد فقط أن نعيش. أن نحمي بعضنا، لا أن نغدر بعضنا، أن نختلف دون أن نُقتل، أن ننتمي إلى وطن لا يُساوم على حياة أبنائه. أكتب هذه الكلمات، ليس بصفتي كردياً فقط، بل أيضاً كإنسانٍ سوريّ يعرف تماماً ماذا يعني أن تُصبح مجرد رقم في بيان، أو خبر عاجل، أو مجرّد خسائر جانبية. كفى موتاً. كفى طائفيةً. كفى قصفاً باسم العدالة والله. كفى عدالةً تبرّر الدم. 

في قامشلو والحسكة وتل حميس، في كل الأحياء العربية والآشورية والكردية، كُل الجدران خائفة، تخشى ألا تُحمى من القصف، وألا تحفظ الأسرار. بل إنها جدرانٌ تسقط على من فيها دون أن تسألهم: من أنتم؟ إلى أيّ الطوائف تنتمون؟ هل تصلّون؟ وكم مرةً صلّيتم؟ هل أحببتم هذه البلاد لهذا بقيتم فيها؟

آن لنّا أن نعود بشراً، وأن نعي أنّ القتل لن يخلّف سوى القتل، وأنّ العنف يؤسس لسلوك العنف على المدى الطويل، وأنّ الذاكرة الجمعية للكرد ستتحدث أنهم عادوا للخوف وهواجس المستقبل بعد كل الثورة. وسيتحدث المسنّون لأبنائهم وأحفادهم، أنهم أُبعدوا عن أشقّائهم السوريين. فماذا بعد؟

ما تحتاجه سويا اليوم، ليس مزيداً من العسكرة، بل وقفة صادقة، ودولة تحمي ولا تعتقل أو تتسبب في القتل، وتحتضن ولا تفرز، دولة تحفظ للمكونات كرامتها لا منّةًّ، بل باعتبارها جزءاً من بنيتها ومصدراً لشرعيتها. لا أحد يربح من استمرار القصف. لا منتصر من موت أيّا يكون، ولا دخول قامشلو حرباً ودماً. لا رابح في هذه الحرب سوى الخراب والبوم، والمهزوم الوحيد هو الوطن، والمُنهزم الوحيد هو المواطن. الدول العظمى التي منحت السلطة كل مقومات البقاء والاستمرار، هي نفسها التي ستنقلب، وستقول: اختبرناكم كثيراً، ومنحناكم كل الوقت، وكل الظروف. فلتستغلّ السلطة هذه المزايا والهدايا، ولتستفِد من دروس وعبر الدول العربية الخارجة من الصراع. أفضل من الاستمرار في الفوضى وغياب مفهوم الدولة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image